وقفة مع رواية المتمردة لشروق حسين عطيفة



التمرد الواعي، والمطلوب في رواية شروق عطيفة
د/ إبراهيم أبو طالب([1])
تعد رواية "المتمردة" للكاتبة الشابة د. شروق حسين عطيفة تجربة كتابية متأثرة في شكل بنائها بالحكاية الشعبية في كثير من ملامحها، ولعل أبرزها هو ذلك البناء المتتابع في الحكي، وترابط الأحداث، وطريقة التشويق المتبعة في سؤال السرد الحكائي "وماذا حدث بعد ذلك؟".
وكذلك في استخدام الفعل (كان) مع بداية الحديث عن أحداث القصة وشخصياتها، ومن ملامح ذلك التأثر في تصوير الشخصيات التي تأتي إما خيِّرةٌ تماما كشخصية البطلة ليلى، وشخصية محمد الشخصية المساعدة، فهي طيبة خيرة في كل أمورها، وكذلك شخصية الشيخ مطهر الذي دخلوا داره، وشخصيات نسائه الطيبات عدا أروى ابنة إحدى نساء الشيخ التي أحسَّتْ بالغيرة من ليلى، فدبرت مكيدة سرقة مجوهرات خالتها زوجة أبيها لتُتَّهم الضيفتان، وشخصية حسن ابن عمها، أخي هند، كما أنه في المقابل هناك الشخصية الشريرة تماماً، وهي شخصية عُمر ابن عمها، وكيفَ صوَّرتْه قاسياً ظالماً، وكذلك هي صورة الرجل في كثير من ملامحه، وبخاصة ممن يظلمون المرأة في ميراثها، وتظهر في حيلة أخوة آمنة الخبَّازة التي تَعُوْلُ أمها، وطفلتها الصغيرة بعد زواجها من أحد الأغنياء من دولة مجاورة، وتركها بعد شهر من زفافها، وكيف احتال إخوتها على ميراثها، وميراث أمها وأعطوهن مكاناً من الأرض واسعاً، ولكنه لا يُنْبتُ زرعاً، وكيف تحول ذلك المكان من خلال الشركة المستثمرة للجير الذي في تلك الأرض، وكيف أصبحت تُدرُّ عليهم بعد ذلك أموالاً طائلة، وهذا يقود إلى تعزيز موضوع الرواية الرئيس، وهو رفض العادات القبلية، ويأتي الرفض من قبل شخصية ليلى التي يقودُها تمردها إلى المدينة، والأحداث المتعاقبة، وهذا الرفض من خلال الهروب تفلسفه الكاتبة بمخرج جيِّدٍ، وهو طلب العلم، وبناء الشخصية، وكسر العادات والقيود الاجتماعية المتخلفة بأن المرأة لابن عمها، وإن كان متزوجاً، ولا تحبه، ومن خلال هذا الموضوع الرئيس تأتي مواضيع متشظية عنه تتمثل في تعليم الفتاة في الريف، ومواضيع أخرى متعددة ومن أبرزها علاجها لموضوع حمل السلاح كعلامة للرجولة، وموضوع القات، ومجالسه لدى الرجال والنساء، ووجهة نظرها حوله تظهر بطريقة توقف السرد كثيراً لتتحدث حول تلك الظاهرة وغيرها، وأحياناً توضح وجهة النظر بشكل مباشر وعظي إرشادي، ومن تلك المواضيع –أيضاً- تنفتح حكايات الرواية المتداخلة داخل الحكاية الإطارية، فتأتي بموضوع الزواج السياحي في حكاية آمنة، وموضوع اليتيم مع شخصية البطل المساعد (محمد)، ومواضيع حرمان المرأة من حقها وميراثها، وموضوع ما يحدث مع الطالبات من الانحراف الذي كادت أن تقع فيه هند لولا انتباهها في اللحظة الأخيرة، ولكن بعد أن حصل ما حصل -كما تصف الرواية-، وهكذا ندركُ أن في الرواية معالجات لمواضيع متعددة وكثيرة، ربما أرهقت البناء العام للرواية لأنها لم تقف عند ظاهرة واحدة وتشبعها، ولكنها تعددت وتداخلت، ثم إن الرواية على قدر من التشويق واضح، استفادته من طريقة البنية للحكى، وهى بطبيعتها مشوقة مبهرة، وفيها تأثر واضح بالإطلاع على قصص، وأفلام عربية مصرية وغيرها، فيما يتعلق - مثلاً- بالهروب وإدعاء البداوة كما في قصة سعيدة البدوية وقصة ثأرها، وانطلاء ذلك على أسرة الشيخ في البداية ماعدا محمد الذي اكتشفها في وقت مبكر، وهو يقوم بإنقاذ هند في المستشفى بعد حادث الحافلة حين عرف من شهادات ليلى ووثائقها حقيقتها، ولكنه أخفى ذلك، وهذه هي الحبكة الجيدة لتأتي بالإدهاش في قرب نهاية الرواية التي تعد نهاية مفتوحة ومنطقية إلى حدٍ ما، حين تنجح ليلى وتحقق أهدافها من التمرد بالعلم، وأخذ شهادتي الإعدادية والثانوية، ثم بدخول الجامعة، وكيف أصبحت بفضل محمد وجهده معها، ومع آمنة من أصحاب البيوت العالية، والحالة المستقرة اقتصاديا، ومن ثمَّ طلبت إلى أحد المشايخ أن يتدخل بينها، وبين أخوتها الذين ساءت أحوالهم، ومات – قتلاً- ابن عمها عمر، وكيف أرادت أن يأتوا إليها في المدينة كما عاد إخوة يوسف إلى أخيهم من البدو، وأظهر الله برهانه معه، وهنا ملمح تناصي جيد بين ما أشرنا إليه من تأثر للكاتبة بخلاصة قراءاتها التي ظهرت في كثير من مواطن الرواية، ولكن ظهر أن المتمردة وقعت في تناقض جزئي حين لجأت إلى الأعراف وأسلوب التحكيم بينها وبين أخويها وأهلها بعد أن رفضت كل عادات القبيلة، وتمردت عليها، وهربت إلى المدينة، والحضارة، والعلم، ولكن لعلَّ هذا التناقض يكون له مبرر من خلال أنه لا سبيل سواه، ولا مخرج إلا بالعودة للعرف لحل مثل هذه القضية لأنها لغة الخطاب المسيطرة في المجتمع القبلي.
ولم تخبرنا في النهاية بما جرى؟، وهل عات إلى الأهل؟، وكيف سيستقبلون ذلك لأنَّ النهاية المفتوحة كانت ذكية لتدلَّ على الاستمرارية في العرف القبلي، وعدم انقطاع البطلة عن مجتمعها، وإن حاولت هي وهند أن تعبرا، وتتمردا عن الواقع المتخلف، ولكن يظل خروج هندٍ وتمردها غير مُبَرَّرٍ بالقدر الكافي، ولو على الأقل فنياً، فهي مجرد تابع لابنة عمها –ليلى-، تطمحُ في بهرجة المدينة، لذا كانت متسرعة متهورة في قراراتها، ولكن ليلى تعيدها إلى الصواب حين تعرف ما تريد في كل مرة، ورغم ذلك فقد أصبحت مجردَ ونيس في بناء الحكاية، وذات شخصية مسطحة.
   في فصل العودة الأخير هناك الكثير من الإيجاز في زمن الرواية، واختصار الزمن بشكل واضح وسريع بما يدلُّ على التعجل، وعدم الإشباع للزمن بما يتناسب مع الأحداث المتلاحقة لوضع النهاية، وإن كانت الرواية قد تعاملت مع الزمن الخطي بشكل مكرس فيما عدا البداية حيث لجأت إلى أسلوب "الفلاش باك"، بأن بدأت بالحادثة، ولحظة انقلاب الحافلة، ثم عادت لتروي حكايتها مع أهلها، وقصتها كاملة منذ لحظة موت أبيها في طفولتها، مروراً بنموها، حتى سن الشباب ليعود الزمن بعد ذلك في خطِّيْتهِ، وتتابعه المعروف.
   أما اللغة فقد اعتمدت الرواية على اللغة السردية الصافية التي لا علاقة لها بالشعرية أو الزخرفة سوى في موطن واحد ووحيد –تقريباً- في استخدام الاستعارة في قولها: "كنتُ أمشي، وأنا أسير فوق دموعي" (ص 47)، وتمضي اللغة نثرية عادية حكائية، حتى في ألفاظ محددة مأخوذة من طريقة الحكاية الشعبية ولغتها السردية مثل طلب الأمان قبل الحديث عن موضوعٍ ما، كما أن هناك تصويراً لعادات اجتماعية موروثة، كـ"المسفِّلة" التي تأتي بأخبار السرقة، ومعرفة السارق من خلال وصف طفلٍ أو طفلة يمثل الحدث ويرويه، ويحدد ملامح السارق وصفاته.
   وأما بقية استخدامات اللغة فهو جيد عدا ما ينتاب البدايات من بعض التعجل الذي يظهر في الأخطاء النحوية والإملائية، التي يمكن تلافيها عند طبعة قادمة، كما كان يمكن لدار النشر – وهي دار الفارابي، بيروت- عرضها على مختص أو مراجع لغوي لتصويبها قبل النشر.
  وعلى الرغم من أن هذه الرواية هي التجربة الأولى للكاتبة التي لا شكَّ ستحمل بعض صفات التجارب الأولى إلا أن أسلوبها الحكائي، ومواضيعها المتعددة، والقدرة على الحبكة، ونسج الخيال، ورسم الأحداث بمنطقيةٍ، وتتابع جعلها مشوقة، وقد حاولت الكاتبة أن تظهر فيها رؤيتها للحياة، وفلسفتها في قضايا تقول رأيها فيها بوضوح، وبرؤية صافية، وأبرزتْ من خلال ذلك وجهة نظرها للعالم القبلي والواقع اليمني، وعالجت الكثير من خصوصيات المرأة، وكسرتْ بالفعل الموات المتمثّل في سلبية الفتاة الريفية، ممثلاً في رفض ليلى وتمردها، وخروجها للعلم، وللنور، ولبناء الذات، وهي كتابة على قدر من النضج، ورواية جميلة لكاتبة واعدة نتمنى لها التوفيق، وولوج عالم السرد الروائي الواسع بتجارب قادمة لما لها من قدرةٍ على الحكي، واللغة، والخيال، مع مزيد من التكريس للتمرد الواعي الرافض لواقعٍ متخلف بفعلٍ إيجابي رمزي، وطريق واضح لحلِّ مشكلات الواقع أدركته ليلى/ شروق، وهو طريق العلم والمعرفة، والثورة على الجمود والسلبية، وبناء الذات.

[1] - أستاذ الأدب والنقد الحديث المساعد، ورئيس قسم اللغة العربية بكلية التربية-أرحب، رئيس قسم رعاية المبدعين بجامعة صنعاء.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)