حوار د. إبراهيم أبو طالب مع الشاعر العربي الكبير عبد الرحمن الأبنودي (الخال) عام 2003م.
الحوارعلى قناتي في اليوتيوب مسجلا بصوت الشَّاعر:
https://www.youtube.com/watch?v=jWAnXGBilR4
********************
وهنا نصّ الحوار مع الشاعر العربي الكبير الأستاذ عبد الرحمن الأبنودي (الخال)
حاوره: #إبراهيم_أبوطالب
(في 3ديسمبر 2003م ونشر في صحيفة (نشرة) اليمن الصَّادرة عن المركز الإعلامي اليمني بالقاهرة).
• من خلال زيارتك الأخيرة لليمن.. كيف وجدتَ اليمن؟
- يعني من المعروف أن معظم أهالي الصَّعيد أبناء هجرات عربية قديمة، يمنية أو من الجزيرة، بشكل عام؛ لذلك سوف تجد دائمًا تلك الطبيعة المشتركة التي لا تجعلك تحسُّ بالغربة هنا وبالذات اليمن إذ إن هذه ثاني رحلاتي، أو أنَّ هذه الثانية من رحلاتي إلى اليمن، فقد كانت الزيارة الأولى إلى جنوبه.
وهناك اكتشفتُ أن كل النقوش التي تحملها الأقفال الخشبية لأبواب قريتي هي نقوش يمنية، وكنت من قبل أتحيَّر كثيرا بحثًا عن مصدر هذ النقوش التي هي ليست فرعونيه أو قِبطية، فوجدتُها أخيرا على أبواب بيوت المدينة العتيقة (شِبَام).
وإنَّ الكثير من التفافات الدروب وطرائق الحياة، والملابس- ملابس النساء بالذات- وأرديتهنَّ،
هي شيء مطابق تمامًا لمظاهر الحياة في قريتي (أبَنود) في محافظه (قنا) من صعيد (مصر).
ما يدلُّك على أنَّ هذه القُرى تَغِطُّ باليمنية القديمة، ربما منذ انهيار سدِّ مأرب، وربما قبل ذلك أيضًا، وأنَّ الكثير من مفردات وتراكيب اللغة لا تختلفُ كثيرًا، كذلك الغناء الشَّعبي، "نصوص الغناء الشعبي"، والطقوس الشعبية هي شيء شبه مطابق كلٌّ للآخر.
لذا فاليمن أهلنا، فلا يمكن أن يحسَّ إنسانٌ مثلي تلك المسافة التي قد يحسُّها آخرون إزاء الطبيعة الخاصَّة للحياة اليمنية بالذات التاريخ الخاص الضَّارب في أعماق الزمن.
• لا شكَّ أن حضرتك اطلعت على نماذج من الشعر الشعبي، والشعر الحميني في اليمن، فكيف تنظر إليها؟
- بلاش السؤال دَه؛ لأن لديَّ كتابا ضخما قرأته عنه، ولكن دعنا نغيِّر السُّؤال.
• طيب، نقول إنَّ صنعاء تستعد أن تكون عاصمة بالثقافة العربية العام القادم 2004م، فما الخصوصية التي يمكن أن تكسبها التميُّز برأيكم؟ وما النشاطات التي يجب أن تحتفل بها؟
- أولًا: لقد تأخر الاحتفاء بصنعاء سنوات، فمن حيث القِدَم الحضاري العربي، وتأثير اليمن العميق، ومساهمته في البناء الثقافي العربي يجعله في مقدِّمة الدول التي كان يجب الاحتفاء بها، ومع ذلك فإننا سُعداء- المثقفون العرب- بصورة جماعية بأن نلتقي بإذن الله في اليمن أو على أرض اليمن في هذه الاحتفائية التي سوف تكون عظيمة ورائعة -لا شكَّ إن اليمن منذ القديم كانت مراحًا للشعراء، ومنبتًا طيِّبًا ومؤثرا للحركة الشِّعرية العربية، وما زالت امتداداتها المزدهرة دفاقة ومعطاءة، رحم الله الصَّديق العظيم، والشاعر الكبير "عبد الله البردوني" وأطال الله في عمر شعرائنا وأخوتنا الشُّعراء المحدثين الشاعر والناقد الكبير "عبد العزيز المقالح"، كما أنني لا أستطيع أن أنكر في مجال العطاء الشَّعبي الثروة الضخمة التي تركها شاعرنا الكبير الراحل "حسين المحضار"، وإنني لأتمنى أن ألتقي في هذه الاحتفالية مع أدبائنا العرب من كافة أرجاء الأمة.
• (صنعاء) ملهمة فاتنة هل أوحت لشاعرنا بشيء؟
- كانت علاقتي بصنعاء علاقة ((شفوية)) أي أقمتُها من خلال متابعتي لأدبائها، وشعرائها، وفنَّانيها التشكيليين، ولكن هذه المرة عقد السَّيد وزير الإعلام -مش كده؟- يقصد الشاعر هنا وزير الثقافة- خالد الرويشان- صلة حميمة بيني وبين صنعاء، وأحيائها، وطبائعها مما سوف أدين له بهذا الفضل الكبير، وكلما حاولت النكوص والتعبير عن الإجهاد،
كان يصر على أن يزجَّ بي إلى أحياء جديدة،
لأرى الطَّابعينِ القديمَ والحديثَ في (صنعاء)،
وسوف أذكر دائمًا ذلك اليوم الذي أنهكني فيه مشيًا ووعيًا، فله تحياتي.
ما أدهشني هو أنَّها المرة الأولى في حياتي، فقد اعتدتُ أن أقيم أمسيات شعرية في مصر وكافة البلاد العربية، أنها المرة الأولى التي أقيم فيها ((صباحية شعرية)) وكانت تجربة فريدة، أن تستيقظ من النوم إلى الشعر مباشرة.
وكنت طوال أدائي لأشعاري في تلك القاعة التي اكتظت بالأحباب اليمنيين أحسُّ بالغرابة، فالشعر ليليٌّ، كما تعلم، ولكنها كانت تجربة ناجحة بكلِّ المقاييس.
• اشتغل الشَّاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي لأكثر من ربع قرن بتوثيق السيرة الهلالية في مواطن كثيرة في مصر وتونس حتى اكتملت على يده في صورتها الموجودة عليها الآن، كيف كانت تلك التجربة؟ ولمَ لم تنطلق في جمعها من اليمن التي تمثِّل انطلاق السيرة الهلالية في واقع أحداثها؟
- أعتبر أن جمعي للسيرة الهلالية بلمِّ وضمِّ أشلائها المتناثرة سواء في مصر وادي النيل أو الدلتا أو في معظم البلدان العربية من الأعمال التي أفخر حقيقة بإنجازها إذ أنها التهمت أكثر من هذا الربع قرن أو من ذلك الربع قرن الذي اعتاد الاخوة على كتابته بسهولة. وما زلت أعتبر أن العمل مستمر حتى الآن وغدًا. دائما كنت أقول إنني شاعر مخلص للشعر أكثر من أي شيء آخر في حياتي، ولكن مصر الطرَّاحة كالنخيل العريق، وأنها سوف تطرح في المستقبل شعراء أفضل منَّا، وإذا ما بهتت أشعاري أو اندثرت أو أهملتها الأزمنة، فإنه دائما سوف يذكر أنني الذي جمعت النصوص الشَّعبية لهذه الملحمة العربية الرهيبة من أفواه الشعراء والرواة، تمامًا كما نذكر "هوميروس" بالإلياذة والأوديسة.
أمَّا عن الملحمة، فإني أعتبرها - بصفتها الملحمة الوحيدة المتبقِّية- في شفاه وعلى رباب الشعراء الشعبيين، عصارة الفكر الشعبي، وطرح وجدان أبناء الأمة الغني وجدانيًا، وأن قدرتها على الاستمرار في الزمن والبقاء على قيد الحياة تجعلنا نفكر وننقب عن السبب الرئيسي الذي أدَّى إلى استمرارها ليس في صفوف المثقفين، ولكن في سويداء الضَّمير الشَّعبي المنفي خارج اهتمامات الحكومات والأنظمة؛ ليصنع منها زادًا غنيًّا يقتاتُ به على عدَّة مستويات منها:
[أولا:] أن الملحمة ترده إلى أصالة العروبة القديمة لفكرته النقية عنها.
ثانيا: انَّ الملحمة ترده إلى التواريخ الحميمة التي لم يرها، ولم يعايشها، والتي تجسِّد الانتصارات الإسلامية والعربية، حيث إن فنَّ السيرة أصلًا ها نشأ دينيا (سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام) لابن هشام وغيره.
ثالثا: أن الملحمة بعث لكل القيم العربية التي أحبطتها الحياة الحديثة كالتضحية، والحب، والرجولة، والبطولة، والاستشهاد، والانتماء، إلى آخره.
رابعًا: هذه الملحمة تجسيد لوحدة عربية مأمولة يحلم بها الإنسان خارج الحدود المرسومة، والخلافات السياسية.
خامسا: الملحمة- بمجملها- تجسيد لبطل مفتقد يقود هذه الأمة جسده في ذلك الكيان الذي اخترعه وخلقه وكونه وأسماه: (أبو زيد الهلالي) ناهيك عن الصياغات الشعرية العبقرية في كافه النصوص التي توفَّرت لديَّ من مصر، وتونس، والسُّودان، وليبيا، وتشاد، وغيرها.
لقد اتَّهم المستشرقون الشعر العربي بأنَّه شعر غنائي؛ لأنه شعر غنائي ليس ملحميًا ولا دراميا أي أنه لم يخلف ملاحمَ ولا مسرحًا، كما حدث في بلاد الإغريق التي أخذوا منها تعريف الملحمة بأنها عمل شعري حربي يقاتل فيه الأبطال الأبطال، والآلة، ولم يراعوا أن في حضاراتنا احتراما كبيرا للآلهة وأن ملاحمنا استبدلت بالإلهة الجنَّ والشياطين. وربما في سيرة مثل السيرة اليمنية سيرة بن ذي يزن، والزير سالم، وغيرها، سوف يتجسد ذلك بصورة واضحة.
كذلك ساهم أجدادنا من جامعي الشعر، ونقاد الأدب في ذلك الاتهام حين جمعوا أشعار الأصوات المعتبرة والشعراء الرسميين، وأهملوا الإبداع الشعبي الثري العظيم الذي لم يهمله أصحابه، بل ظلوا يورثونه أجيالا لأجيال ليمرقَ في الأزمنة رغم المستحدثات العصرية، ويواصل إضاءته التنويرية لشعوبنا الفقيرة.
أنا فخور لأنني تلميذٌ مخلصٌ لهذا العمل الملحمي العظيم، ولستُ نادمًا على الوقت المبذول فيه.
• هل لقي شعرك حقَّه من الدراسات الأدبية والأكاديمية؟
- إن احتفاء الجماهير العادية والمثقفين مصريين وعربًا بأشعاري يجعلني لا أبحث كثيرا عن هؤلاء النقاد الذين- تقريبًا- لم يعد لهم وجود في ظل غياب حركة نقدية حقيقية، ليس فقط بالنسبة للشعر العامي، وإنما أيضًا بالنسبة لشعر الفصحى، فأنت تبحث عن الناقد الصَّادق الآن كما تبحث عن إبرة في كوم قشٍّ، لذا نحن نكتب متوجهين للأمة، ولضميرها الحي الذي هو الوحيد الذي يملك أن يبقيك أو أن يسقطك.
• ما هي أخصب مرحله شعرية في تجربتك، هل كتبتَ أجمل ما لديك؟
- طبعا مرحله الستينيات كانت مرحلة ثراء وطني، ونضال عربي، وضَجيج ثقافي، وأنا أعتبر نفسي ابن تلك المرحلة، مرحله الستينيات بكل ما فيها من إنجازات وإحباطات، ولقد عبَّرت عن ذلك سواء في الشعر أو في الأغنيات، لقد كتبتُ ديوانا كاملا اسمه (جوابات حراجي القط إلى زوجته فاطنه أحمد عبد الغفار).
وهي رسائل شعرية متبادلة عبرَ ديوان كامل لعامل بسيط من عمال السَّدِّ العالي، وهو أهم إنجاز وطني للفترة الناصرية، كذلك ذلك الديوان المسمَّى (وجوه على الشَّط).
وهو عن الفترة التي قضيتها تحت وابل النيران، وأمام جنود الاحتلال الإسرائيلي خلال حرب الاستنزاف، وعايشت فيها الفلاحين والجنود، وتعرضت فيها للموت أكثر من مرة، لا شكَّ أن تلك الفترة كانت مُلهمة بصورة فريدة، ولقد كتبت أغنيات سكنت الضمير الوطني حتى الآن مثل: (موال النهار)،
و(احلف بسماها وبترابها) لعبد الحليم حافظ،
و(بيوت السويس) لمحمد حمام وغيرها عشرات،
إذن فترة الستينات والسبعينات كنتُ أنشر كل عام ديوانا كاملا بتجارب مستقلة ومتنوعة، وأنا رجل يحبُّ أن يعطي حياته للشعر، إن كان الشعر في السنوات الأخيرة أصبح عسيرًا، واتجه نحو المراثي كأنه ينعي أحلامَ هذه الأمة إلا أنني دائما أنتظره، ولا أفرط في علاقتي به، لأنني أعتبر أنَّ من يتاجر بالشعر أو يخونه مرة، فان الشِّعر يخونه إلى الأبد. وربما كانت قصيدتي الأخيرة في رثاء عمَّتي (يامنة) هي أشهر قصائدي الآن على المستوى الثقافي والشَّعبي، وأتمنَّى أن تكون فاتحة لرحلة شعرية، أو لمرحلة شعرية جديدة في حياتي.
• حدثنا عن بعض شعراء العامية.
- (#بيرم_التونسي) رائد فن الزجل في مصر، والذي استفاد بتجربة جدِّنا عبد الله النَّديم، شاعر الثورة العُرابية الذي مزج الكلمة العامية بالوعي السياسي، والنضال الوطني، لكن المسألة عند (بيرم) أخذت صورتها الناضجة، ولقد دفع الرجل ثمنًا رهيبًا لقصائده إذ نفي وشرِّد وعاش حياة تعسة شقية يحمل أجولة الملح والفحم في (مارسيليا)، وكان يذوب شوقًا، وحنينًا لبلده مصر رغم أنَّه من أصول تونسية..
(#فؤاد_حداد) هو القنطرة التي عبرت عليها اللفظة العامية من مرحلة الزجل البَيْرمي المنظوم إلى ما يسمَّى ببدايات شعر العامية، ولقد قضى أيضًا جزءًا كبيرًا من حياته في الاعتقال، بسبب توجهاته الفكرية، وسوف تلاحظ دائمًا أن معظم شعراء العاميَّة سُجِنوا أو اعتقلوا، وذلك لأنهم أساسا حينما اختاروا أن يستبدلوا شعرهم الفصيح بشعر عاميّ كان القصد من ذلك أن ينبهوا الجماهير إلى مصالحها، وأن يلتحموا بمصائر هذه الشعوب.
(#صلاح_جاهين) هو تلميذ مخلص لفؤاد حداد، اختلط شديدا بالفترة الناصرية، وأبدع الكثير من الأشعار والأغنيات إلى جانب أنه كان فنانًا يرسم الكاريكاتير المعبِّر، وله مدرسة خاصة به في ذلك.
• وماذا عن شعراء اليمن المعاصرين، وعلاقتك بهم؟
(#عبدالله_البردوني)- رحمه الله-: كان صديقا عزيزا يربطنا تآلف عجيب بين رَوحينا، ولقد اشتركنا سويًّا في ملتقيات شعرية في الشَّمال الأفريقي ما أكد الروابط بيننا، وأعتبره درَّة الشِّعر اليمني، ولقد أهداني السَّيد وزير الثقافة خالد (الرويشان)، هذا العام تلك النسخة الذهبية من أعماله الكاملة التي أرى أنَّه يستحقُّها تمامًا، وأنَّه آن الأوان لتكريمه بصورة عربية كبيرة.
(#عبدالعزيز_المقالح) هو صديق كل الأدباء العرب، وهو الصِّلة الحقيقية بين اليمن وأقطار الأمة العربية إضافةً إلى أنه ناقد حصيف يرى بعيدًا، وشاعر -طبعًا- عربيُّ القسمات، في شعره خصوبة، وربيع دائم.
والثالث: (#حسين_المحضار): نحن مدينون للفنان أبو بكر سالم (أبو أصيل) في أنه اكتشف هذا الكنز العظيم واحتفى به قبل غيره، ومن الممكن قياس مسيرة (#أبوبكر_سالم) بمسيره المحضار.
ومنذ غنَّى أبو بكر سالم: "#شِلّنا_يا_ابوجناحين لا عند المحب حتى في الشهر ليله" أدركت مدى قدرة المحضار على التعبير عن (#صعيد_مصر) بتلك التلقائية الممتزج بوعي شديد، إن ألفاظًا، مثل: (في كل مَسمر وقيله) بذلك النطق نفسه الذي ينطقه به صعيد مصر لهو من أكثر الأواصر التي تعيدُ الرابطة القديمة بين الشَّعبين، هذا الشَّاعر عواطفه دائمًا طازجة، وحارة، وتُلمسُ باليد رحمة الله عليه.
وأنا أشكر لك جدًا هذه الجلسة الممتعة في فناء المركز الإعلامي في القاهرة، وأتمنَّى لليمن كلَّ خير، ومحبَّة، ولأهلها كل رقي وتقدّم.
تعليقات
إرسال تعليق