6- (عوالم البحر وعذابات التشرُّد في رواية "طُرُنْجه" لإبراهيم مفتاح)

 6- عوالم البحر وعذابات التشرُّد في رواية (طُرُنْجه) لإبراهيم مفتاح

بقلم/ د. إبراهيم أبو طالب

#إشارات_أدبية

      هذه الروايةُ الثالثةُ في تجربة الشَّاعر والأديب السُّعودي الأستاذ إبراهيم مفتاح، صادرة عن مشروع (100) كتاب الذي تقوم عليه دارُ أدب للنشر والتوزيع، ط1، 2023م، في 90 صفحة من القطع الوسط. وقد جاءت بعد روايتيه: الصِّنجار 2015م، وأم الصبيان 2019م. هذا فضلًا عن مؤلفاته الأخرى الكثيرة شعرًا وتاريخًا وجيولوجيا وتوثيقًا لحياة جزيرته (فرسان)، وتاريخها، وطبيعتها، ولغتها، وحياة إنسانها.

     الرواية تحكي قصَّة إنسانة تسمَّى (طُرُنْجه) قَذَفَ بها البحر مع ذويها من الأفارقة الذين أقلَّتهم سفينةُ قراصنة لا ترحم، وألقت بهم في تلك الجزيرة بلا رحمة بعد عذابات البحر والخوف والبؤس لأيام كثيرة، وحلمهم كان زيارة (مكة والمدينة)، ولكن ذلك الحلم ظلَّ بعيد المنال، جاءت هذه الطفلة مع أولئك القوم من البؤساء أصحاب البشرة الداكنة واللهجة الغريبة إلى الجزيرة، بحثًا عن النَّجاة والطعام، وظلُّوا يعانون من الحاجة والفاقة والبؤس، وإن حقَّقوا نوعًا من الاستقرار في بيت قديم مهجور، ثم لكثرة احتياجاتهم والطبيعة التي جُبلوا عليها من التكاثر والمتطلبات الإنسانية، بدأ أولئك القوم تحت ضغط الحاجة يبحثون عمَّا يسدُّ احتياجاتهم ولو بالسَّرقة، ومن هنا تبرَّم منهم سكانُ الجزيرة، ورغبوا إلى كبيرهم وتاجرهم (صاحب الأيقونة) كما وصفه الكاتب من البناء النادر والرفاهية العالية والذوق الكبير غير المألوف لدى سكان تلك الجزيرة من بناء وزخارف لمنزله الأيقونة؛ حيث جلب إليه بتجارته للؤلؤ والمجوهرات العمالَ والأثاث والزخارف من مدن العالم شرقًا وغربًا عندما كان يسافر إليها ليبيع تلك البضاعة البحرية، رغبوا إليه في أن يعيد للجزيرة أمنها السَّابق، ويتخلص من أولئك البشر، فدبَّروا لهم -تحت رغبتهم الملحة بالذهاب إلى مكة- سفينةً تقلّهم مع سفينة التاجر مجهزةً بما يحتاجونه من مؤونة وماء، ولكنها ألقت بهم بعد اطمئنانهم لأيام من الرسو والإبحار في جزيرة أخرى فيها حياة.

     وأبقت تلك الجماعة (طرنجه) الطفلة عند ذلك السَّيد التاجر العقيم؛ لتكون ضمن من يعمل لديه، فمنحها بعض حنان أبوته، وأعطاها كلَّ ما قد تحلم به طفلة، ثم فتاة تنضج في النعيم والرغد، ولكنها تستمر معه حتى حين ينقلبُ عليه الزمن، ويتنكر له الدهر، ويفتقر بعد غِنى، فيصبح عزيز قوم ذللَّ، وغني قوم افتقر، فيشيخ، ويهرم، وتقف الرواية لتصوير تلك الحال، ثم يموت، وتلحقه زوجُه المسنَّة، وتصبح حالة (طرنجه) سيئةً، فتعود لخدمة الناس في الجزيرة بما يقوم بلقمتها، وتعاكسها الأقدار حتى فما كان حلما لها وللشَّاب الوسيم- مجهول النسب- من راحة وعيش كريم أيام سيِّدهما التاجر فينقلب تشردًا من جديد، فيرحل الشَّاب الوسيم الذي لا اسم له، وهنا لفتة ذكية من الكاتب في أن جعله بلا اسم، فلا هُوية له، بل يختار هو اسما ولقبًا لأبٍ؛ ليسافر به إلى مكان بعيد لا يعرفه فيه أحد قبل زمن الهويات، وهكذا تنجح الرواية في عرض مأساة إنسانينِ يعانيان من تقلُّبات الزمن، فيما لا ذنب لهما فيه.

     طفلةٌ، ثم امرأة جاءت إلى الجزيرة ضعيفة شريدة، ورحلت من الدنيا ضعيفة شريدة، وشابٌّ جاء إلى الدنيا نتيجة خطيئة ونزوة ظلَّ يدفع ثمنها طوال عمره، وانتهى فارًّا شريدًا بذنبٍ لم يرتكبه، تلاحقه لعنة الخطيئة.

     تقوم الرواية على لغةٍ واصفة متمكِّنة سببُها ثقافةُ شاعر قارئ مؤرِّخ، وطبيعة الوصف هي الغالبة على بنية الرواية؛ حيث تكتنز بالمصطلحات الكثيرة عن عالم البحر والسفن وثقافة الحياة البحرية بما يمثِّل قاموسا لغويًّا مهمًّا في بابه، ومن تلك المصطلحات الكثيرة: (القروع- الصُّرر-المشارع- الرِّيَش- القلفطة- الدقلان- البروصيات- الجوش- الرَّم... وغيرها من المصطلحات المشروحة في الهامش)، وهو جزء من اهتمامات الأستاذ مفتاح في الأصل؛ حيث يعمل على قاموس لغوي لجزيرة فَرَسَان بمصطلحاتها وحياة الناس والبحر فيها، ومن هنا فالرواية تمثِّل قيمةً لغويةً بجوار قيمتها الإبداعية التي تتحدَّثُ عن مرحلة زمنية قديمة عاشتها الشَّخصيات والجزيرة، وهو زمنُ الخلافة السُّلطانية (التركية) والاستعمار، وتنقُّلات الناس بين المدن والموانئ بلا هويات سوى ألوانهم ولهجاتهم التي يعرفون بها، وتجارتهم التي يتنقلون بها بين تجارة اللؤلؤ والمحار والصيد لخبراء هذه التجارة البحرية، وبين احتياجات الناس من المدن الأخرى بالمقايضة والتبادلات المختلفة.

    الرواية عملٌ إبداعيٌّ محكمُ البناءِ على الرغم من الوصف الكثير الذي كان يوقفُ السَّردَ لصفحات طويلة؛ لكنَّ الكاتب ظلَّ محافظًا على ترابط الرواية، وما تقدِّمه من معلومات مهمة ولغة عالية فيها الكثير من التناص مع القرآن الكريم، والشعر العربي، والمثل، والحكمة، وغيرها من فنون القول الدالَّة على ثقافة الكاتب وعلوِّ معرفته، ولكنها على الرغم من ذلك جاءت منسجمة مع البناء العام للرواية، ومندغمةً في وصف أحداثها وشخصياتها وزمكانيتها، ولهذا فإن عنصر الجذب والتشويق في معرفة مصير أبطالها كان هو العنصر المهيمن في الرواية.

    ومن ثقافة الكاتب الواضحة وتناصِّه مع الثقافة العربية إطلاقه لاسم البطلة (طرنجه) الذي يذكِّرنا بحكاية (الحنفشار) في مجلس الخليفة المأمون مع ذلك الذي يدَّعي المعرفة بالنباتات وعوالمها في قالب ساخر كما ترويه الحكاية التراثية، وبالطريقة نفسها يختار كل واحد ممن في مجلس التاجر ويضمر حرفًا، ثم يجمعون تلك الحروف لتصبح اسم (طرنجه).

     حكاية (طرنجه) هذه حكايةٌ إنسانيةٌ بامتياز، سلَّطت الرواية عليها آفاقًا من حياة إنسانة ضعيفة في زمن ما، وفي جزيرة ما؛ لتحكي قصَّةَ ظلمِ الإنسان لأخيه الإنسان، ولكنها تحمل في الوقت ذاته رفقًا ولطفًا يسوقُه اللهُ لعباده، فيخفِّف عنهم تلك المعاناة بما ينفِّسُ عنهم شيئًا من مأساتهم، وما تنتاب حياتهم من فصول ومواقف وأحداث تدعو للتأمل، وتبعث على القول بأنَّ عالم الإنسانِ منجمٌ كبيرٌ للأحداث، وأنَّ محبًّا للأدب، وللمكان، وللحكايات مثل (إبراهيم مفتاح) يمكن أن يستثمر من جزيرته (فرسان) حكاياتٍ ومعارفَ وتاريخًا يؤصِّلُ للمكانِ، ويبعث فيه روحًا من روح الأدب وسرًّا من أسرار تلك الجزيرة السَّاحرة، المكتنزة بالحكايات والأسرار.

     #يقول_إبراهيم_مفتاح: "طرنجه وسط كلِّ هذه التراكمات من المآسي كانت تشعر بأن فصلًا من فصول حياتها لم يكتمل، وأنها أصبحت الكرةَ التي تتقاذفها أقدامُ الأيامِ، وأنَّ عليها أن تحتملَ المزيد من الركلات القاسية التي ستأتيها من كل مكان. وبدأت ثمارُ غصنِها الرطيب تتساقط بعد أن أنهكها اكتمالُ النضج، وفوات موسم القطاف، وتتابع نوائب الدهر، وذلّ الحاجة الذي جعل الكثيرين يتقاذفونها خدمةً تكفلُ لها كفافَ لقمة العيش بين أناس في دواخلهم إنسانية الإنسان، وأناس ما زالت نزوات الماضي تحرِّض في نفوسهم ضراوة الانتقام. وأخيرًا قضتْ طُرنجه نحبها دون أن تجد من يقرأ على قبرها الفاتحة، أو يفتح لها في داره مجلس عزاء...".

نشرت بالتزامن في مجلة #أقلام_عربية العدد (97) بتاريخ 23 يناير2025م.

على الرابط الآتي:

 https://aqlam.de/download/aqlam_magazine_97/


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

كتاب (الإعلان بنعم الله الواهب الكريم المنان...) كتابٌ يمنيٌّ فريدٌ ومدهشٌ يضمُّ ستة كتب في الصفحة الواحدة

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)