5) أ.د/ أحمد الجرموزي (المتحدث حكمةً وشعرًا... أستاذٌ مثاليٌّ في زمنٍ مُراوغ)


- من هؤلاء تعلمت-
*سيرة ذاتغيرية*


من أوَّل لقاءٍ في محاضرة مقرر "شخصيات وقدرات عقلية" كان متميزًا بفصاحته وبلاغته، لم يكن مثلَ بقية أساتذة علم النفس ثقيلًا أو متكلِّفًا، بل كان شخصيةً مختلفة ومتميزة إنه يحفظ من غرر الشعر العربي ومن الحكمة والبيان الكثير، وربما أكثر مما يحفظه بعض أساتذة قسم اللغة العربية ممن تخصَّص في الأدب أو النقد أو البلاغة، وليس التخصص مقياسًا لحب الأدب والشعر وطريقة إلقائه والاستشهاد به وروايته، فتلك موهبة لا يملكها إلا العارفون بجمال العربية وجلال أثرها في النفوس.
لا تجد للأستاذ موقفًا أو حديثًا إلا وهو يحفظ من الشِّعر فيه ما يسعفه عند التعبير أو البيان ويمدُّ حديثه بجمال مضاعف، ورونقٍ أصيل.
ذلك هو الأستاذ الدكتور أحمد بن علي الجِرْمُوزِي (1952- 2013م) رحمه الله، كان له أسلوبه الخاص في التعليم وطريقته المتميزة في التدريس التي تؤثِّر في طلابه، فتدفعهم إلى تقليده والاقتداء به بشكل أو بآخر، البسمةُ لا تفارقه إن استقبل طالبًا مُجدًّا مع شيء من الاعتداد بالنفس، وعزَّة العالم القدير وسموّه، وأسلوب المتحدِّث المهيب ورصانته، منضبطٌ إلى حدٍّ كبير يظهر أثر ذلك الانضباط في محاضراته وفي إدارته وفي جميع شؤون حياته، ولعلَّ لتكوينه العلمي -في بداية حياته والتحاقه بالتعليم العسكري- أثرًا واضحًا في ذلك الانضباط؛ حيث تخرَّج في الكلية الحربية عام 1974م.



 ثم استقال عن السلك العسكري حين التحق بالعمل الأكاديمي، وحصل على بكالوريوس إعلام من جامعة القاهرة 1980م، ثم عاد لدراسة الماجستير في كلية التربية - تخصُّص (صحة نفسية) من كلية التربية، جامعة عين شمس عام 1989م، ثم كانت الدكتوراه في نفس التخصص من جامعة القاهره 1992م، هذا التنوُّع في التكوين العلمي والمعرفي صحبَهُ تنوّعٌ في العمل في حقول معرفية مختلفة شكَّلت منه مزيجًا فريدًا من التعامل مع الناس، والانفتاح على مدارات الحياة، فظهرت ملامح انضباطه – أيضًا- في محافظته الدقيقة على الوقت، وحرصه الشديد على مواعيده، ومنها أنه لا يسمح لأحد أن يدخل بعده إلى قاعة المحاضرة، حيثُ يغلق الباب تمامًا بعد دخوله وعلى رأس الساعة، ولا أحد يغادرها قبل انتهاء زمن المحاضرة الذي كان (ساعتين إلا ربعًا) بالضبط فيها من العطاء العلمي والأكاديمي ما يخفِّف من جفاف المادة العلمية في علم النفس بما  كان يرويه من الشعر، والحكمة، والقصص المفيدة، والأمثلة الذكية، والنماذج الإنسانية.

حبَّب إلينا علم النفس وقرَّبه من نفوسنا بعد أن شطَّ به بعض أساتذته الجادِّين في تكلّف المتكلفين أو في الإغراق في مصطلحات ربما كان أحدهم يردِّدها دون أن يفهم تمامًا مدلولاتها، أو في العُقد النفسية التي كان لبعضهم منها نصيب غير قليل -سامحهم الله-.
كان أستاذنا الجرموزي يشرحُ مقرَّره ويلقي محاضراته باللغة العربية الفصحى، ويتقن الإعراب، فلا يكادُ يلحن، وكانت مخارج كلماته واضحة ذات نبرة مميزة حين يضغط على بعض الجمل، والكلمات، والمصطلحات لتوضيح شيءٍ ما أو بيان قضية نفسية أو علمية معينة، له طريقة تربوية لم أرها عند غيره، أتذكَّر من ذلك أنه حين كان يشرح من على منصة القاعة، وهي مُدرَّج كبير في مباني كلية التربية بجامعة صنعاء، وكنَّا في السنة الرابعة من العام الجامعي 1992/ 1993م، والقاعة مكتظة بالطلبة كان يستطيع أن يحافظ على هدوئها التام، ويشدُّ انتبهاه الطلبة جميعًا خلال (105) دقائق (ساعتين إلا ربعًا) بكلِّ اهتمام، وتركيز، ويقظة بما تحلَّى به من قدرة تدريسية عالية، كان يوزِّعُ اهتمامه على الجميع وينقِّلُ بصرَه بين طلابه في زوايا القاعة المختلفة، وإذا رأى طالبًا انشغل بشيء ما أو أخذه النعاس بميزانه –كما قد يحدث للمُجهدين عادةً- نبَّههُ وشدَّ انتباهه، وأعاده إلى يقظته وتركيزه.
أذكر أنه ذات مرة رأى طالبًا يقلِّبُ في جريدة، ويقرأ فيها، والأستاذُ يشرح فنزلَ من منصة القاعة، وهو يتحدَّث في موضوع المحاضرة دون أن يقطع حديثه أو يغيِّره، ومضى وسط الصُّفوف ونظراتُنا تتابعه حتى وصل إلى ذلك الطالب الذي أوجس خيفة واضطرابًا من عقوبة أو إهانة ما، ولكنه لم يفعل، بل ظلَّ في حديثه وشرحه مستمرا، وحين وصل إلى ذلك الزميل أخذ الصحيفة منه، وطواها بكلِّ هدوء، ووضعها تحتَ كُتبِه، وعاد في نفس هدوئه، وتأنِّيه الذي نزلَ به دون أن يغير موضوعه أو يقول كلمةً لذلك الطالب، ولكنه في الحقيقة قد قال كل شيء، وعلَّمنا نحن أيضًا بهذه الطريقة والتصرف أسلوبًا تربويًّا زاجرًا وكافيًا ومؤدبًا في معالجة أخطاء الطلاب البسيطة داخل الفصل/ القاعة.
تعلمتُ منه الكثير من أساليب التدريس وطرائقه التطبيقية أكثر مما درسته من مقررات تربوية في هذا المجال، أسلوبه تطبيقي نموذجي مدهش فيه خلاصة ما في المؤلفات، وثمرة ما في كتب التربية مجسَّدًا في سلوك تطبيقي راقٍ.
تقربتُ من أستاذي أحببتُه لحبِّه للشعر وللأدبِ، كنتُ أذهب إلى مكتبه وأسمعُه أو أعطيه آخر ما كتبته من الشعر فكان يشجعني، ويرفع من معنوياتي الأدبية، بل زاد على ذلك أن حفظ قصيدتي (الواسطة) وكان يرويها لمن يصادف وجوده في مكتبه من الأساتذة منوِّها بأن القصيدة لهذا الشاعر، ويشير إليَّ بكل اعتزاز، وقد رواها كثيرا حين كان يجد فيها لسان حالي، وأنا أراجع مكتبه وأزوره خلال أربع سنوات في انتظار الإعادة في جامعة صنعاء.
وكنتُ كلَّما يئستُ أو أثقلتني خطوات المعاملة والمراجعة للجامعة، وآنستُ من نفسي ضعفًا أو تهاونًا أزوره في مكتبه، وهو رئيس قسم علم النفس في كلية التربية – آنذاك- وكان له مكتب خاص ومميز بلمسات ذوقية خاصة به من الورد، والتأثيث الجميل، وكنت أجد في حديثي إليه أجملَ سلوان، وأرقى مواساة، وأخرج من عنده قويًّا محمَّلًا بأملٍ كبيرٍ، ودَفْعَة نفسية كافية لعدَّة شهور قادمة.
(ولا بدَّ من شكوى على ذي مروءةٍ .. يواسيك أو يسليكَ أو يتوجَّعُ)
كان يتعاطفُ معي، ويسألني عن سبب تأخُّر تعييني، ويتابع ذلك باهتمام، وكان يأسفُ كيف وجد غيري فرصةً ولم أجد؟ ويتابع أخبار تدريسي في مدرسة ثانوية (عمَّار بن ياسر) لمدة أربع سنوات، وكنت خلالها أواصل دراستي في الجامعة، وما انقطعتُ عنها، حيث درست عاما مقاصَّة في كلية الآداب، ثم التحقتُ بتمهيدي الماجستير فيها.
كلَّما زرته خرجتُ من لديه كمن تطهَّر من غبارٍ عَلِقَ بنفسه فآلمها، فإذا بحديثه يشفيها، وإذا بحواره يزيل كلَّ ما علق بالهمَّة من شوائب الإحباط، وعلامات الانكسار، يملؤني رغبةً في الحياة، وفي طلب العلم والنضال من أجل ذلك، لأنه كان عصاميًّا مكافحًا، ولديه من نماذج الحياة الكثير الكثير ممن لا يملُّ من الحديث عنهم، ولا ينيَ في سرد قصصهم، والتمثيل بنجاحاتهم، وكفاحهم، وتجاربهم.
لا أستطيع أن أنسى له مواقِفَهُ معي ودعمه النفسي لي كان يقدِّمُ لي خدمة نفسية جليلة وعلاجًا تطوعيًّا مجانيًّا من حيث يدري ولا يدري.
تعلمتُ منه كيف يراعي الأستاذُ طلابَهُ، وكيف يهتم بمن يعتقد فيهم خيراً أو يتوسَّم فيهم نجاحًا وتفوقًا ومستقبلًا ما.
استمرَّت لقاءاتي بأستاذي في مكتبه أو حين أصادفهُ في مناسبةٍ اجتماعيةٍ ما، وكان يحضرُها بزيِّه اليمني الأنيق والأصيل، ولكن دون لبس الجَنْبِيَة (الخنجر اليمني) يرتدي كوفيةً وشالًا طويلًا مدلَّى على كتفيه، ولا يلبس ذلك الزيّ إلا خارج الدوام الرسمي والمحاضرات، يرتديه يوم الجمعة أو في زياراته الاجتماعية، كان يملأ المكان بهاءً بحضوره البَهي، وبحديثه الشَّهي.



كنتُ أزورُه حين عودتي من مصر وأنا طالب في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، وكانت زيارته هدفًا مُهمًّا وواجبًا من أهداف زيارتي لصنعاء، وللأهل فيها، أزوره وفي يدي مجلة "علم النفس" الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.



 وقد كان حريصًا عليها لتخصُّصه في هذا المجال، ومتابعة الجديد فيه، أو قد أحمل إليه في زيارتي بعض أعدادٍ من (مجلة المثقف العربي) التي كانت تصدر عن "منتدى المثقف العربي" بإشراف السفير الشاعر المثقف الدكتور عبد الولي الشَّميري، وكان أستاذنا الجرموزي متابعًا جيدًا للنشاط الثقافي والأدبي في مصر، وقد أحملُ إليه كتابًا يلفتُ انتباهي عنوانه في مجال تخصصه، ومدار اهتمامه وكان يفرح بذلك، وقد كتب إليَّ ذات مرَّة رسالة عظيمة، فيها من التوجيه والإرشاد والنصائح السَّامية المحبَّبة ما فيها، و كتبَها بخطِّه الجميل – وهو صاحب خطٍّ جميل- وأرسلها مع أحد الدَّارسين في القاهرة، وحمَّلني فيها السؤال عن أحد أساتذته في علم النفس والتحية له، وبالفعل ذهبت للسؤال عنه في كليته، فقيل لي بأنه قد توفي رحمه الله، وكم كان وفـيًّا لأساتذته، ومحبًّا لهم، ومتحدِّثًا عنهم.


ما كدتُ أنتهي من الدكتوراه، وأنهي ابتعاثي حتَّى رفع لي ترشيحًا بالعمل لديه في مركز الإرشاد التربوي والنفسي، وعيَّنني رئيسًا لقسم رعاية المبدعين، ورفع طلبًا بذلك إلى رئيس جامعة صنعاء في حينها الأستاذ الدكتور خالد طَمِيم، وذلك المركزُ هو الوحيد الذي قَبِل الجرموزي إدارته، وأن يكون عميدًا له في حين كان زاهدًا عن كل المناصب التي عُرضت عليه؛ حيث رفض عمادة الكلية، وكل عمل إداري آخر أسند إليه سوى هذا العمل، وهذا المركز الذي بناه منذ أن كان فكرةً في الجامعة في العام 2005م، ورعاه بكلِّ ما استطاع حتى صار مركزًا متفردًا مشعًّا وسط جامعة صنعاء كأنَّه شامةٌ، أو قل كأنَّه بنظامه، وانضباطه، وترتيبه في فضاء آخر أكثر تحضرًا ونظامًا، مركزٌ نظيف منظم لا تجد العاملين فيه يغادرون مكاتبهم إلا لعمل إداري، ولا يخرجون منه إلا مع مديرهم الذي لا يغادره إلا مع نهاية الدوام الرسمي عند الثانية ظهرًا من كل يوم، وكان يحضر قبل موظفيه عند الثامنة صباحًا في نظام شديد وانضباط مثالي ربما كان يضايق بعض موظفيه هذا الالتزام الصارم؛ لكنهم مع الوقت تعوّدوا عليه، وكذلك فَعَل كلُّ من عمل معه.

عملتُ معه في ذلك المركز ثلاث سنوات من عام 2009 حتى 2011م، قمنا خلالها بعمل الكثير من النشاطات، والندوات، وورش العمل، وكان يَعْهَدُ إليَّ في أشهر الصيف بإدارة المركز لعامين متتاليين، حيثُ كان لا يأخذ أجازة صيفية أبدًا من قبلُ، ولعلَّه لمس فيَّ ما شرَّفني به في ذلك التكليف، وهو يقول لي: "إنَّك أنا" سعدتُ بهذه الثقة من أستاذي الجليل، وهو أنموذج للحرص، والتفاني في العمل.
كان محبًّا جدًّا لهذا المركز كأنَّه منزله، فلربما وجد فيه نفسه، من خلال عمله، وتخصصه، ولقاءاته الاجتماعية والعلمية؛ حيث كان يزوره فيه عددٌ من أصدقائه القدامى والجدد، والكثير من الشخصيات الوطنية، والعلمية، والاجتماعية، وكانت من عادته أن يُنهي زيارة من يزوره بطواف على مكاتب المركز، ومكتبته، وصيدليته وعياداته، وهو يشرح للزائر دور المركز وأهميته، ونشاطاته، وأعماله وغيرها بكل فخر واعتزاز مبينًا كيف كوَّن المكتبة بجهود شخصية وبتبرعات أصحابها من المؤلفين والأساتذة والجهات الثقافية، وكيف أسَّس قاعدة بيانات بلغت أكثر من 200 رسالة علمية أكاديمية، وما يزيد عن ثلاثة آلاف وخمسمائة عنوان ودورية حتى عام 2010م، إضافة إلى أجهزة الكمبيوتر الحديثة التي حصل عليها المركز بطلب ومتابعة من جهة حكومية.


وأما صيدلية المركز فكان حريصًا عليها جداً، ويصرفُ للناس منها العلاجَ النفسي مجانًا، وذلك من خلال سعيه الدَّائم ورسائله إلى الشركات للتبرع بالدواء، وكذلك ممن يلتمسُ فيهم الخير في توفيره حتى يصل للحالات النفسية التي كان معظمها من الطلاب أو من أولياء أمورهم البسطاء، أو من بعض منسوبي جامعة صنعاء من الموظفين، كما أن عيادات العلاج والصحة النفسية كان يعملُ فيها أكبرُ أساتذة الطب ضمن ساعات نصابهم التدريسي والأكاديمي، ووفق جدولٍ محدَّد أسبوعيًّا.

قبلَ أصواتِ عام 2011م، وخروج المتظاهرين،كان هناك احتفالُ وفاءٍ كبيرٍ سلَّم الدكتور الجرموزي فيه برغبته إدارة المركز إلى نائبته د/ بلقيس جباري، وقد جمعَ الموظفين، وقرأ عليهم استقالته المبرَّرة في خمس صفحات ببلاغته المعهودة، وحديثه المؤثر الجميل، ثمَّ سلَّم متعلقات إدارته بما في ذلك أنه سلَّم التلفون (المحمول) والشريحة الخاصَّة به لأن المركز كان قد اشتراهما له بحكم عمله، وكان لا يستخدمه إلا لعمل المركز فقط، في موقف نادر جدًا فمن يعيد ما أخذه من وظيفته العامّة –قلَّ أو جلَّ-؟! يذكِّرنا هذا الأمر بزهد من نقرأ عنهم في كتب التراث، وقصص الزهَّاد، والأتقياء، فأين هذا النموذج اليوم؟! وقد بيَّن في سبب استقالته "عدم القدرة على المواصلة وسط معيقات إدارية عُليا، وفساد إداري واضح"، ووسط حب موظفيه ودهشتهم التي ظهرت في عباراتهم، وملامح وجوههم كانت الاستقالة، وكان الوداع.
ويالعجائب الأقدار! لم يمض على الاستقالة سوى أسابيع قليلةٍ حتى حالت دون الوصول إلى الجامعة خيامُ المعتصمين، وما كان له أن يشهدَ مثلَ ذلك الأمر، ولا يستطيع أن يذهب إلى الدوام، ولا يتأثر به؛ إذ كانت حياته وشريانها هي المركز؛ يستيقظ معه مع إشراقة الصباح، وينتهي منه مع سكينة الظهيرة ونهاية دوامها.
ويا للأحداث المتسارعة! حين تداعت صحتُهُ، واستسلمَ جسدُه للمرض كما استسلمت صنعاء لاضطرابها وتداعيها، فأصيب بالمرض الخبيث، وانشغلت عنه الجامعة باعتصاماتها وبثورة الربيع العربي المختطفة من أيدي الشباب، وسرعان ما تدبَّر أمره في السفر للعلاج إلى القاهرة، ومكث فيها غير بعيد؛ شهورًا قليلة، ثم عاد إلى صنعاء ليعيش أسابيعَ قليلة بعد العلاج، ولكن المرض يفتكُ به من جديد، زرتُه في منزله، وهو شاحبٌ متعبٌ، لكنَّه لم يتركْ عادته المحبَّبة في الترحيب بضيفه والحفاوة به، وكم كنتُ سعيدًا بزيارته في منزله المتواضع، ورغم تعبه الواضح وإجهاده كانَ حريصًا على طقوس الضيافة الأصيلة، وقام يريني مكتبته المنزلية العامرة، وصورًا له مع كبار الشخصيات الوطنية والأكاديمية، وأكثر ما توقَّف عنده شرحًا وتوضيحًا، وكان يعتزُّ به هي شهادة تقدير علَّقها على جدار غرفته مع صورة تكريم من رئيس جامعة صنعاء بأنه (الأستاذ المثالي).
وقد كان بالفعل أستاذًا مثاليًّا في كلِّ شيء في علمه، وخلقه، وأدبه، وعمله الإداري، وحياته العامة.


تعلمتُ منه معنى الوفاء وحبِّ العمل والإخلاص فيه والإيمان بأن الإنسان قيمة، بل إنه مجموعة من القيم التي يمكن تطبيقها وتمثُّلها تمثلا عمليا وسلوكًا متحقِّقًا.
رحم الله أستاذنا الدكتور الجليل أحمد الجرموزي لقد كان أنموذجًا للمثالية في أرقى صورها، وعنوانًا للإخلاص في أحسن معانيه، كم نفتقد لمثله اليومَ، وفي هذه اللحظة الحرجة التي يمرُّ بها الوطن.
 أيُّها المربي الكبير والإداري الحصيف والوطني الغيور والإنسان الإنسان، اخلد في نعيمٍ لا يزول لك منَّا الدعاء، ومن الله المغفرة والرضوان.
تحية:
(لِمثلكَ
نَرفعُ أيديَنا بالدُّعاء
فأنتَ الوفاءُ
وأنتَ النقاء
تَجَسَّدَ صدقُكَ في كلِّ شَيءٍ نَراهُ
وحَولَكَ
 قد أَشرَقتْ يانِعاتٌ
من الحُبِّ
والأمنياتِ الكِبار
بأخلاقِكَ اليَانِعة
وذلكَ شأنُ الكِبار
أتيتَ مِن الحاجةِ الدَّافِعة
وعَالَجتَ نفسكَ هذَّبتَها
فاستقامتْ على ما يكونُ عليه الكبار
هو الشِّعرُ يَنداحُ من شفتيكَ انبهارا
يغذِّي المَسامعَ بالحِكمةِ البَالِغة
وروحكَ من جانبيهِ تُشعُّ به
بتصويركَ العَذب
في همَّةٍ نَاصِعة
سلامٌ عليكَ
رَحلتَ بِنا في فَضاءِ البَهاءِ
وكنتَ البَهاءَ
وكنتَ المِثالَ
وكنتَ الضِّياءَ
وآفاقَهُ الشَّاسِعة...).

==========

فصلُ الخطاب:
مما كان يردِّده كثيرًا أستاذنا الجرموزي ويحفظُه عن ظهر قلب هذه الأبيات من كلمات الشاعر محمد مصطفى حمام:
عَلَّمَتنِي الحياةُ أن أتلقَّى   كُلَّ ألوانِها رضًا وقبولا
ورأيتُ الرِّضا يُخفِّفُ أثقالى   وَيُلقِي على المآسِي سُدولا
والذي أُلهِمَ الرِّضَا لا تَراه  أبد الدَّهرِ حاسدًا أو عذولا
أنا رَاضٍ بكلِّ ما كتبَ اللهُ   ومُزجٍ إليهِ حمدًا جزيلا
أنا راضٍ بكل صِنفٍ من النَّاسِ لئيمًا أَلفيتُه أو نَبيلا
فسحَ اللهُ في فؤادى فلا أرضى من الحبِّ والودادِ بديلا
في فؤادي لكلِّ ضَيفٍ مكانٌ    فكنِ الضيفَ مُؤنسًا أو ثقيلا
ورأيتُ الشّكاةَ تشفي غليلاً   لعدوِّي وما شفتْ لي غليلا



*****


*نشر المقال ضمن سلسلة من هؤلاء تعلمت (الحلقة الثالثة) مجلة (أقلام عربية) العدد 25 نوفمبر 2018.

 







تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)