16- (ساق الغراب- الهربَة) ليحيى امقاسم روايةٌ ثرية بالدلالات والرموز في موروث جنوب المملكة العربية السعودية
16- (ساق الغراب- الهربَة) ليحيى امقاسم روايةٌ ثرية بالدلالات والرموز في موروث جنوب المملكة العربية السعودية
#إشارات_أدبية
بقلم: د. إبراهيم أبو طالب
(ساقُ الغرابِ) رواية للكاتب السعودي (يحيى امقاسم)، وتُعَدُّ هذه الرواية التاريخية الاجتماعية السياسية الثرية بالدلالات والرموز من الأعمال التي تسلِّط الضوء على المجتمع الجنوبي في المملكة العربية السعودية، وتحديدًا في منطقة تهامة في الامتداد الساحلي لوادي الحسيني الذي يمتدُّ من سَراة (ساق الغراب) وجبالها حتى (صَبيَا)، بوديانها وقبيلتها المحكمة الانضباط بسبب توارث العادات والتقاليد والتكاتف الاجتماعي والانغلاق على ذاتها بحماية شيخها (عيسى الخير ابن مشاري) ووالدته (الصَّادقيَّة) التي تمثِّل الحاكم الفعلي للقبيلة بما يذكِّرنا بحكم المرأة في المجتمعات الأموميَّة القديمة، حيث تكون هي صاحبة القول والقرار والرأي، وما ولدها (عيسى) إلا المنفِّذ لآرائها في قالب مقنع لرجال القبيلة وأبطالها المدافعين عنها، ولا ينسى الكاتب أن يخلع على هذه المرأة صفات الاتصال بالعالم العلوي والغيبي منذ طفولتها حيث يروي حادثة مهمة تكسبها لدى القارئ ما تتصوره عنها القبيلة عمومًا من أن الجن قد اختطفوها لمدة ثلاثة أيام ثم أعادوها تحمل في يدها قرصًا مصنوعًا من حب الخضراء الذي لم يكن في ذلك الموسم، لتكون علامة على أنها كانت في ضيافة الجنِّ الذين سيحيطونها بهالة من المعرفة مستقبلا والهيبة والرأي الغيبي.
وكذلك شخصية ابن اختها (بشيبش) فهو شخصية غامضة تُضفي على الرواية بعدًا أسطوريًا، يرمز إلى الحكمة القديمة وربما إلى صراع الإنسان مع قدره، وهو بطل الرواية الحديدي والذي ينفِّذ مهامّها الصعبة بتوجيه من الأم/خالته.
وتتناول الرواية التحولات الاجتماعية والثقافية التي طرأت على هذه البيئة من خلال شخصيات متعدّدة، وقصص متشابكة، تبدأ بحادث مهم يتهدد القبيلة بهجوم (قوم امذلول) وهم الجماعة التي ستنشئ الدولة الحديثة، وتضمها إلى سلطانها، ولهذا يفرُّ أهل تلك القبيلة إلى الجبال ويتركون منازلهم ليتحصَّنوا من هجوم مباغت، فيما أطلقت عليه الرواية عنوانًا ثانويا هو (الهربة)، وبذلك تبدأ الحكاية التي تدور أحداثها في تلك القبيلة وقراها بجنوب السعودية، حيث ترصد التحولات الكبرى التي طرأت على المجتمع التهامي وتعكس الرواية الصراعات بين القيم التقليدية الثابتة والتي نشأت عليها القبيلة وأفرادها والحداثة أو التغيير في المذهب والمعتقد والخضوع لدولة مركزية تدعو إلى الانتقال من نظام القبيلة إلى بدايات نظام الدولة، وتُقدّم الرواية من خلال مجموعة شخصياتها التي تنتمي إلى بيئتين مختلفتين، مما يعكس التنوع الثقافي في المنطقة. الشخصيات تعيش تحولات قاسية تتعلق بالهُوية، والنفوذ القبلي، والصراعات الدينية، والاجتماعية. وتتميز بأسلوب سردي يقترب من الحكايات الشعبية بعوالمها من حكاية إطارية، وحكايات صغيرة تتخللها، مع لغة قوية مليئة بالوصف الدقيق للطبيعة والإنسان، وللعادات والتقاليد، حيث يستغرق وصف عملية الختان التي يجترحها الطفل (حمود) لنفسه بآلته الحادة حيزا كبيرا من الرواية بما يرتبط بالختان (الطُّهرة)، و(الشهرة): إعلان الختان لسبعة أيام من الأفراح والرقص والطعام، وفيها بيان ثقافة مترسخة في ذلك المجتمع ودلالات كبيرة أخذت الكثير من الرموز، فالختان ليس مجرد تطهير للفتي/الرجل، بل هو رمز للخروج من حال الطفولة ورعاية الأسرة، إلى حال الرجولة والفروسية والذكورة والفحولة، وهو في المعنى البعيد يحمل التحوِّل -فيما يبدو- من حال الانغلاق إلى حال آخر فمن القبيلة بعاداتها، وبراءتها وطفولتها فكرا وسلوكًا إلى الخروج إلى عالم المسؤولية والاندماج ضمن نظام جديد أكثر اتساعًا وبما يكون جزءًا من وطن كبير.
ومن هنا فإن قضية الختان المتأخر الذي ركَّزت عليه الرواية بوصفه عادة اجتماعية يكتسب دلالات رمزية أعمق، فالتأخر في الختان يرمز إلى تأخر التحولات الاجتماعية، فالشخص الذي يُختن متأخرًا يكون قد تجاوز السن المعتاد، ما يعكس فكرة التغيير القسري المتأخر الذي يفرضه المجتمع على أفراده، والختان رمز للعبور من الطفولة إلى الرجولة في المجتمعات التقليدية، وهو ليس مجرد إجراء طبي، بل علامة على الدخول في مرحلة الرجولة والقبول الاجتماعي، والتأخر فيه قد يعكس تأخر المجتمع نفسه في التكيف مع المتغيرات، وإشارة إلى الصراع بين التقاليد والحداثة فالرواية تضع هذا الطقس ضمن سياق التحولات، وكأنها تشير إلى أن المجتمع التهامي كان مضطرًا لإجراء تغييرات معينة، لكن في وقت متأخر وبعد مقاومة طويلة.
وتُظهر الرواية كيف يتغير المجتمع التهامي نتيجةً للاحتكاك بالعالم الخارجي، حيث يبدأ دور الإمارة التابعة لما تسميه الرواية (قوم امذلول) إشارة إلى من يأتي من الشمال بأسلحتهم، ومركبهم هي الإبل، ومن يصاحبهم من دعاة لهم ملبس مختلف عن لباسهم، ويدعونهم إلى صلاة -بحسب الرواية- تختلف عن صلاتهم فلا يجهرون بالبسملة في الصلاة ولا يرسلون أيديهم في الوقوف، ولهم سمت معين في المشي وفي الحديث وفي الملبس، وهكذا تمضي الرواية في وصف طويل لرصد ذلك التحوّل.
ولعل هناك الكثير من مواضيع الرواية الكثيرة التي يمكن للقارئ أن يستخرجها ومن أبرزها:
1- التحولات الاجتماعية: كيف أثرت الحداثة بنظام الدولة الجديدة على المجتمعات التقليدية. الصراع بين الأجيال: بين التقاليد المتوارثة والرغبة في التغيير. الهوية والانتماء: من خلال شخصيات تبحث عن ذاتها وسط هذه التحولات.
2- السرد الحكائي المميز: الذي يعتمد على التراث ورصد الفولكلور بكل أبعاده المادية واللفظية، والقصص الشعبية في سرد الأحداث، وكذلك في الشعر الشعبي من الدمة والعرضة وأنواع الرقص.
3- الموروث الشعبي: تعدُّ الرواية توثيقًا ثريا للكثير من العادات التي تكاد تكون قد اندثرت أو غابت في واقع اليوم بما رصدته من مصطلحات ومفاهيم ووصف للكثير من العادات، ابتداء بعادة الختان، مرورًا بعادات الملبس والمأكل، والبناء للعشش، وعلاقات الشيخ بأفراد القبيلة، وحتى فيما يتعلق بالشعر وفنون المناسبات الاجتماعية.
4- المعجم اللغوي: تحتوي الرواية على قدر كبير من المصطلحات والألفاظ الخاصّة بمجتمع تهامة وجنوب المملكة، مصطلحات تمثِّل قاموسًا فولكلوريا وانستولوجيا وميثولوجيا على قدر كبير من الأهمية لمن يريد أن ينهض ببحث أو دراسة سوسيونصية لهذه الرواية، حيث تشكِّل مخزنًا ثريًا ومرجعا سرديا مهمًّا لذلك.
ويحيى أمقاسم روائيٌّ مهمٌّ وإن كان مقلًّا، وللتعرف عليه أكثر "فهو يحيى قاسم سبعي ولد في 14 مارس عام 1972م في قرية الحسيني التابعة لمحافظة صبيا، بمنطقة جازان في السعودية -التي منها استقى عوالم روايته الأولى التي نحن بصددها (ساق الغراب)، وانتقل من جنوب المملكة إلى العاصمة الرياض ليكمل دراسته الجامعية في كلية القانون بجامعة الملك سعود، وحصل على درجة البكالوريوس عام 1997م، ويعمل مستشارًا قانونيًا من عام 1999م، نشرت له عدد من النصوص الأدبية عبر الصحف، وكتب لعدد من الصحف السعودية مثل صحيفة الشرق، صحيفة عكاظ، وصحيفة الحياة، فيما سبق له أن نشر مجموعة قصصية بعنوان (المخش) عام 2000م، وأصدر روايته الثانية (رجل الشتاء) عام 2017م التي تدور حول تجربة العمل في الملحقية الثقافية السعودية بباريس -ومن هنا ندرك أنَّه واقعيٌّ فيما يكتب من روايات حيث يعيش عوالمه الرواية، ويطعِّمها بالتخييل في الغالب لكنَّ جوهرها معايشةٌ وواقع-
وقد ذاع صيتُه وعُرف على نطاق واسع بعد أن نُشرت روايته الأولى: ساق الغراب (الهربة) الصادرة عام 2008م، إذ تناولت الرواية أحد أكثر المواضيع حساسية، فهي تؤرِّخ بشكل أدبي قصصي للأحداث التي جرت إبان دخول الجيش السعودي إلى تهامة ومنطقة جازان تحديدًا لضمِّها إلى الحكم السعودي والحقبة التي تلت ذلك الدخول، وقد تُرجمت الرواية إلى اللغة الفرنسية عام 2019م، وكَتَبَتْ عنها الناقدة "ايغلال أريرا" في صحيفة (لو موند) الفرنسية، واختير عام 2010 ضمن 39 من الكُتّاب العرب للمشاركة في حفل بيروت 39، بمناسبة اختيار (بيروت عاصمة عالمية للكتاب). وقد عمل للمكتب الثقافي في السفارة السعودية في باريس خلال (2007-2010)، وعمل أيضًا مشرفًا ثقافيًّا في الملحقية الثقافية السعودية ببيروت خلال (2011-2015). كما أنَّه شارك في عدد من المؤتمرات والملتقيات الثقافية في كلًّا من دول الخليج العربية، والجزائر، وتونس، والمغرب، وفرنسا، وروما، والقاهرة، ولبنان، وصنعاء.
ونختم وقفتنا هذه بالقول: إن لغة هذا الكاتب وزوايا التقاطه لموضوعاته وثقافته العالية تمكِّنه- لو تفرَّغ للكتابة الروائية- من أن يكون واحدًا من أهم الروائيين العرب والسُّعوديين بوجه خاص، فليته يخلص لهذا الفنِّ ويردفه بأعمال أخرى تعزّز مكانته الروائية بين كتَّاب المملكة وألَّا تكون (بيضة الغراب ولا ساقه) فينتج بعدها الكثير في عالم السرد البديع، وبخاصّة أن ما قامت عليه روايته ساق الغراب هو أنه استخدم لغة أدبية عميقة، تمزج بين الفصحى ولهجة تهامة وبخاصَّة مناطق معيَّنة من جازان، مما يعطي الرواية طابعًا خاصًّا. كما أنه يعتمد على توظيف الأسطورة والخيال أحيانًا لجعل الأحداث أكثر تأثيرًا وإدهاشًا، ومن حيث الحبكة العامة فإن الكاتب يركز على أن تدور الرواية حول التغيرات الاجتماعية والسياسية التي طرأت على وادي الحسيني في تهامة جنوب الجزيرة العربية. وتصور صراع الأجيال، والتحولات التي عصفت بالمجتمع القبلي بفعل التحديث والانفتاح. والحبكة مبنية على الصراع بين الشخصيات التي تمثل الماضي والتقاليد، وتلك التي تسعى للتغيير ومواكبة العصر الجديد.
ختامًا: فإن رواية (ساق الغراب) ليست مجرد رواية اجتماعية أو تاريخيَّة، بل هي عمل أدبي يعكس عمق التحولات التي مرَّت بها المجتمعات القَبَليَّة في الجزيرة العربية، بأسلوب سردي يمزج بين الواقعية والرمزية، ويقدِّم التاريخ في قالبٍ سردي حديث. وتمثِّل مواضيع الرواية المحورية: الصراع بين التقاليد والحداثة أو التحديث، ودور القبيلة في تشكيل المجتمع، وتأثير التحولات السياسية على المجتمعات التقليدية، وكذا موضوع الهوية والبحث عن الذات.
#يقول_يحيى_امقاسم: "فيما هو (حَمُود الخير) في حالة تأهُّب سمع من خلال الأحراش، وبعيدًا عن نظره، لهاثَ رجل كأنَّه يحمل سوءًا لا يعلمه، ولكنَّه لن يردعه عمَّا سيفعله شيء- كما قرّر، ولن ينهاه أحد عن إثبات رجولته وقدرته على القيام بهذا العمل العظيم، رغم العقاب الذي سنُّوه لمن يقوم بختان نفسه. هذا ما عزَّزه بداخله قائلاً لنفسه: (يقتلوني.. لكن ما يلمسُّ واحد منهم رجولتي وانا ابْن عُصَيْرَةٌ).
لم يعر اهتمامًا لأنفاس ذلك الرجل المتلاشية من المكان، ولا ريب أنَّه يُراقبه منذ دخوله الأحراش، وقد اطمأن إلى فكرة أنه عينٌ لوالده أو جدته «صَادِقِيّة»، تلك العين التي لا تغادره على الدوام. ثم أردف: (ابْن عُصَيْرَة)، متحديًا من يسمع ومن لا يسمع، هذا وهو يعود في فكرة الاطمئنان؛ لأنَّ الرجل قد يكون شرًّا لا غير، لكن ذلك لن يُثنيه عن نيَّته المبيَّتة منذ أيام خلت، فهو ليس أقل شأنًا من سواه في وادي «الحُسَيْنِي»...".
############
نشرت في مجلة أقلام عربية العدد (100) أبريل 2025م.
على الرابط الآتي: https://aqlam.de/download/aqlam_magazine_100/
تعليقات
إرسال تعليق