17- (مجنون الفقيه) وجنون الوَلع بالقصة القصيرة لدى محمد مصطفى العمراني
17- (مجنون الفقيه) وجنون الوَلع بالقصة القصيرة لدى محمد مصطفى العمراني
#إشارات_أدبية
بقلم:
د. إبراهيم أبو طالب
ممَّا لا شك فيه أن المفيد للتجربة القصصية
لأيِّ قاصٍّ أن يكون على وعي تنظيري وثقافي ومعرفي بالجنس الذي يتعاملُ معه ويكتبه،
ومن المفيد أكثر أن تصاحب تلك التجربة روحٌ مبدعةٌ تتحلَّى بحبِّ الكلمة وبالحساسية
العالية نحوها، وبحبِّ الفنِّ الذي تعالجه.
والقصة القصيرة نوع أدبي يقدِّم الصوتَ المفردَ لصاحبه، على العكس من
الرواية التي يعلو فيها الصوت الاجتماعي والجماعي والفكري والأفق التوثيقي لرصد الواقع
والحياة، وإن كتبَها الفردُ.
ومن هنا فإنَّ القصة القصيرة نوعٌ لا يقبل
الحشو، ولا الزيادات التي ربما أثقلته وانصرفت به وبالكاتب إلى منطقة العادي أو منطقة
الوسط التي يقع فيها الكثير من كتَّاب هذا النوع المفرط الحساسية، وأقول- دومًا-: إن
القصة القصيرة لا تقبلُ هذا الوسط في الإدهاشُ، فهي إمَّا أن تكون ممتازة أو لا تكون.
ومن هنا سيتظافر لها الكثيرُ من العناصر المهمَّة
في بنائها، والتي من أهمِّها اللغة، والمفارقة، ولحظة الإدهاش أو كما يسمِّيها النقادُ
(لحظةَ التنوير) التي تنبني عليها القصةُ من أول كلمة فيها، ثم تمضي في تسريد تلك العناصر
حتى تصل إلى النهاية، فتتركُ القارئَ في لذَّة الدهشة التي هي أصلٌ في القصة القصيرة
وبُنيتها، وفي جمال السَّرد عمومًا، ولذَّته المنشودة التي من أجلها نُولعُ بهذا الفن،
ونندهشُ له، ونعجبُ بعوالمه، كما أنَّ دائرة العَدْوَى تلك تنتقل من الكاتب إلى المتلقّي،
ولهذا فإنَّها يجبُ أن تصل بالدرجة نفسها التي كانت لدى المبدع، فإن قلَّت لديه أو
تشتتت، قلَّت بالضرورة لدينا.
وفي هذه المجموعة المعنونة بـ"مجنون
الفقيه" للقاص اليمني والصحفي والأديب محمد مصطفى العمراني الكثير من القصص
التي اتخذت من الموضوعات الاجتماعية المحيطة بالكاتب وعالمه الخاص، وخبراته المعرفية
واليومية سبيلًا لوجودها، ومبررًا لبنيتها الفنيِّة مما يسجل الواقع بمتغيراته الحادثة
من معاناة يومية، وأحداث ومواقف، وفيها رسمٌ لصورة الواقع المحيط بالكاتب أثناء كتابته
لعددٍ من قصص هذه المجموعة، وإن كان قد غلبَ عليها عنصرُ الواقعية، وفي المقابل توارى
إلى حدٍّ كبير عنصر التخييل، حيث نجد الشخصيات والمسميات والأماكن والأسماء ربما كما
هي في الواقع، لكن القاصّ قد استطاع في أغلب تلك القصص أن يحافظ على أمرين مُهمين في
قصصه- من وجهة نظرنا- الأوَّل: هو الروح الفكاهية الساخرة اللماحة، والآخر: المحافظة
على لحظة التنوير والإدهاش بوصفها العنصر الرئيس في بنية القصة القصيرة التقليدية
(الموباسانية، والتشيخوفية، وغيرها) وربما يعودُ السبب في ذلك إلى قراءات القاص لهذه
النماذج والإعجاب بها ومحاكات بعضها محاكاة في البنية، وليس في المضمون.
وعلى كلِّ حالٍ فإنَّ هذه المجموعة هي حلقة
مهمة في تجربة القاص العمراني، الذي يذكّرنا في انطلاقه وكثافة إنتاجه مؤخرًا؛ حيث
نشر أكثر من أربع مجموعات -كان ذلك حين كُتبت هذه المقدمة للمجموعة، وصارت الآن أكثر
من 14 مجموعة نشر منها 11 مجموعة والبقية في طريقها للنشر بإذن الله - في وقت قياسي
يذكّرنا بمن يتدفَّق لديه الإبداع وغزارة الكتابة- وإن تأخر زمنًا- كما حدث للنابغة
الذبياني قديمًا في قصَّته المشهورة مع الشعر حتى غدا حَكَمًا له (أي للشعر) وناقدًا
للشعراء، فهل نحن أما نابغة جديد هو النابغة العمراني، الذي تدفّق سردًا وقصصًا في
وقت متقارب؟ ربما، ولكن لعلَّه يتجاوز هذه المرحلة والتجربة القصصية- وإن كانت على
قدر جيدٍ من الإتقان والوعي بالفن القصصي- إلا أن القادم من أعماله سيكون أكثر تطورًا
وتجريبًا وحداثةً، وخوضًا في عوالم القصة القصيرة بحكايتها، وخطابها السَّردي، وتقنياتها
المفارقة، ولغتها الجديدة، حتى يتجاوز في كل مجموعة جديدة نفسَه، ويتخطَّى تجربته السابقة
بأخرى مختلفة ومتقنة، ويقدِّم الأفضل والمختلف في كل مجموعة جديدة. فذلك هو شأن من
يحبُّ هذا الفن، ومن يعيش معه مراحله المختلفة ويخلص للقراءة فيه والخوض في كتابته
سواء على مستوى التجربة أو على مستويات اللغة، والأداء، والتخييل، والفكر، والرؤية.
أرجو للقاص العمراني أن يحقِّق حضورَه الكبير، واسمَه الإبداعي في الوسط
السردي اليمني، كما نقشَه من قبلُ في عَمله الصحفي والبحثي، وإنه على ذلك لمستطيع،
ومن خلال موهبته وروحه المتدفقة بين كلماته وقصصه، وما يحمله من تنوُّع معرفي وخبرة
حياتية كبيرة لقادر وجدير، وننتظر منه في كل عملٍ جديد إبداعه المتجدد، وسرده المتميز.
تلك كانت الإشارة عن مجموعته المعنونة (مجنون
الفقيه) وهي مطبوعة في مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر بالقاهرة، ط1، 2022م،
في (102) صفحة، احتوت على (12) قصة هي: (الجارة الغامضة، فرحة القمر، انتقام، ليلة
عصيبة، انقلاب غريب، مجنون الفقيه، مرض غريب، تفتيش، مخاض، كابوس، مكان للتذكّر، الثأر
الأكبر).
وكما تمنيتُ له في كلمتي تلك حضورًا يمنيًّا فقد حقَّقه في وقت قياسي
كما حقَّق حضورًا عالميًّا- بوصفه أول يمني تُترجم قصصه إلى اللغة الكردية- حيث ترجم
له المترجم الكردي طاهر عثمان مجموعةً قصصية مختارة من قصصه المنشورة في مقدمتها قصته
الشهيرة (نحن والحمير في المنعطف الخطير)، وقد حضرتْ تلك الترجمة في معرض أربيل الدولي
السابع عشر للكتاب في كردستان.
القاصُّ والصحفي المثقف محمد مصطفى العمراني عرفتُه من خلال قصصه، وكانت
نواة التعارف المستمر، ومن قبلها كتبَ عن أعمالي للأطفال في صحيفة الثورة عند صدورها
عام 2005م، وكذلك تابعتُه من خلال منشوراته على صفحته في الفيسبوك وفي الواتساب، وهو
غزيرُ الإنتاج، جميل التواصل دؤوب فيه، ثم أنشأ قناته على اليوتيوب، وكان يعرضُ فيها
مقاطع عن كتبٍ أو أعلام في اليمن بأسلوب سهل وممتع، وبإمكانات بسيطة من خلال التصوير
بهاتفه وفي مكتب منزله المتواضع، ولكنَّه يقدِّم دُررًا وفوائدَ وفرائد كبيرة، وكل
ذلك بلا دعم ومن قوته اليومي، وهو صاحب همِّة عالية، وإرادة قوية على الرغم من مرضه
المزمن؛ لكنه لم يستسلم، ولم يتراجع، وهو يمضي في طريق القراءة والكتابة والنشر؛ لأنها
الطريق الذي يبث فيه الروح والأمل والحياة.
تحيةً لهذه الروح الوثَّابة المثابرة الصَّبورة،
ولا عزاء لمن يستسلم وينهزم، ولا نملكُ أمام إرادته الكبيرة وحضوره المستمر إلا أن
نحييه، وندعو له بمزيد من العطاء والصحة والعافية، وحسب الأديب والكاتب كلمة شكر، وتحية
عرفان، ووقفة قراءة واستماع، وذلك ما يصبوا إليه، وأمَّا الأمل في جهات حكومية أو غيرها،
فيتراجع في هذا الزمن العجيب الذي يُعلي من شأن الإمَّعات، ويرفع من قَدر الهباء، والفقاعات.
يقول #محمد_مصطفى_العمراني:
" قصة (مجنون الفقيه) منذ مشاهدته لمسلسل "ليالي الجَحملية"
تملَّكته شخصية الفقيه نعمان، يقلده في كل شيء حتى صار يلوي لسانه، ويتحدث مثل الفقيه،
يفتعل مواقف وحركات الفقيه ويعامل زوجته كما يعامل الفقيه زوجته في المسلسل!
بدأت القصة
بالتقليد، ثم تطور الأمر حتى أقنع نفسه أنه الفقيه نعمان فعلًا، وأنه عقيم ويرغب في
إنجاب طفل من زوجته العاقر رغم أنَّ لديه خمسةَ أولاد.!
الجو في
هذا الصباح غائم ومناسب لمن يريد النزهة.
لبس ملابس
الفقيه وغرسَ في عمامته شتلة من الريحان وتوجه نحو حارة الجحملية، تمشّى لساعة، ثم
توجه نحو جبل صَبِر، وحين رآها بدت له "غدير" التي يكرهها بشدة لرفضها عروض
الفقيه للزواج بها في المسلسل.
اقترب
منها ليتخذ الموقف المصيري، فصاح في وجهها:
_ غدير
المرة عاقر.
صعقتها
المفاجأة فتوقفت تنظر إليه، وكلها ذهول واستغراب، فأضاف:
_ وأنا
نفسي بجاهل.
تأكدت
أنه مجنون فعلًا، فمضت في طريقها غير أنه تبعها وغمزها بعينه:
_ نتزوج
یا غدیر.
أسرعت
في مشيتها هاربة منه فتبعها: خيرة الله عليك يا غدير..."
***********
نشر في مجلة (أقلام عربية، العدد 101، مايو 2025م).
على الرابط: https://drive.google.com/file/d/125thP_c4xxW0jGlHBCRZwvTvjNG05snU/view
تعليقات
إرسال تعليق