أ.د/ عبد العزيز المقالح مقدمة ديوان (ملهمتي والحروف الأولى)



إبراهيم أبو طالب
ملـهمـتي
والحـروف الأولى
شعر
صنعاء، الهيئة العامة للكتاب، ط1، 1999م
إشـــارات
د . عبد العزيز المقالح
    تناقل الرواة عن أحد كبار المتصوِّفة قوله ( ليس هناك في الصوفية معلمون ، كلنا متعلمون ) وفي ضوء هذا القول يمكن لنا أن نشير إلى أنه لا وجود بين الشعراء إلى معلمين وأنهم كلهم متعلمون ، وإن الشاعر الحقيقي يظل متعلماً إلى أخر قصيدة في حياته ، فهو دائم التلقي للدروس الشعرية من قصيدة إلى قصيدة ، ومن ديـوان إلى ديوان ، وربما من شكلٍ إلى شكل ، هذا شأنه مع نار الشعر التي لا تنفك تكوي وجدانه وتشوي لغته لتصهرها وتصبح قادرة على التقاط ما هو مشتعل ومضيء ، وما هو عميق وصادق التأثير.
   ولستُ أشكُّ في أنَّ كل الشعراء العظام الذين أسهموا في إقامة صرح الخطاب الشعري في التاريخ العربي قديماً وحديثاً ، قد كانوا يبحثون عن رنين الشعر ومقوماته الأولى في أعماقهم أولاً ثم في ما تفيض به الطبيعة على تلك الأعماق ثانياً ، وبعد ذلك يأتي دور التثقيف والقراءة والرحيل في تاريخ الأدب العربي والآداب الأخرى ما أمكن السبيل إلى ذلك . والشعراء المبدعون العظام في كلِّ العصور وفي كل اللغات هم هؤلاء الذين يكتشفون دروبهم بأنفسهم وبما يمتلكونه من طاقاتٍ خلاّقة ، وتميزهم يأتي من أنهم لا ينصاعون للتعليمات و لا يستجيبون للنصائح ، وتمردهم هذا ، وهو تمرُّدٌ واع ، هو السبب الأول في نجاحهم وفي قدرتهم على بناء الصور الطازجة والاستعارات المدهشة ، وباستثناء الاحترام البالغ للغة ولقواعدها فهم أحرار لا يخضعون لمجموعة المحرمات الفنية التي من شأنها إعاقتهم عن التماهي في نسيج الخطاب الشعري القائم على الفرادة وتحدي الرتابة والتقليد .
-         2 –
 الشعر موهبة ، هكذا يقولون ، وهم على حقٍ في ذلك ، وقد لاحظوا ، ولاحظنا أيضاً أنه بدون موهبة شعرية تتحول الكلمات إلى جثث من الحبر على الورق ، قد تكون مصحوبة بموسيقى عالية أو خافتة أو لا تكون ولكنها في كل الحالات صناعة من خارج الروح ومفردات فاقدة للنكهة و الارتعاشة .. وفي النظر النقدي إلى تلك ( القصائد العصماء ) التي أفقدت الخطاب الشعري العربي ما يقرب من سبعة قرون بعد أن غربت شمس الحضارة العربية وتوارت لغة الضاد في زوايا المسـاجد والكتاتيب ، في النظر إلى ( القصائد العصماء ) ما يؤكد أن أصحابها كانوا من فاقدي الموهبة وأنهم لم يعرفوا شيئاً عن معاني الشعر وخصائصه وما عرفوا منه سوى الشكل ( القالب ) والشكل مطواع لكل من يجيد إتقان معادلاته ولكنه لا يصنع الشعر وليس في مقدوره أن ينفخ في أرواح النظامين وفي ( قصائدهم ) فتصير شعراً نابضاً بالحيوية والرغبة في الارتحال إلى عصور قادمة دون أن يدركها الانطفاء أو يؤثر في حضورها المتوهج تعاقب الأزمان .
-         3 –
   أسوأُ ما في جدل الحداثة والتحديث الذي يدور منذ خمسين عاماً في الـوطن العربي ، أنه يتم في ربوع أقطار متناثرة تتفاوت في حضورها مع العصر وفي قدراتها على تلقي المؤثرات الإيجابية للتحديث وهذا الوضع جعل بعض الشرائح الحالمة بالإبداع لا تدرك أن الرؤيا الجديدة للشعر الحديث تنطلق من رؤيا جديدة للحياة ومن رؤيا جديدة للعالم ، وهي رؤيا تؤمن بإمكانية اللغة في تغيير واقع الناس من حال إلى حال ولا يمكن لها أن تكتسب هذه الإمكانية ما لم تبدأ في تغيير نظام الخطاب الشعري نفسه .
   صحيح أنها – أي اللغة – ثابتة في قواعدها وهي تشبه الطبيعة في ثباتها لكن الفنون القولية التي تستخدم هذه الأداة متحركة لا يتوقف حوارها مع الواقع و لا صراعها بين قديمٍ وجديد لذلك تولد أشكال وتموت أو تختفي أشكال ، وليس في تغيير الأشكال ما يضير اللغة نفسها ولا ما يضير الشعر بوصفه مستوى من التعبير المتجدد الراصد لقوة مع الإبداع دورة الزمن وروح الإنسان المتحرك .
-         4 –
   الشاعر إبراهيم أبو طالب واحد من المبدعين الشبان هؤلاء الذين يحملون أرواحاً صافية صفاء النجوم . وصفاء الأرواح بالنسبة للشعر بالغ الأهمية من وجهة نظري على الأقل فالأرواح المظلمة تضيق بالشعر وبالفن وبالجمال . و لا أعرف أن روحاً مظلمة قد نجحت في كتابة بيت واحد من الشعر ، ربما تمكن صاحبها من اصطناع المنظومات والعبث بالأوزان إلا أنه يظل بعيداً عن الشعر بكل معاييره ومصطلحاته ، فالشعر ضوء ، والشعر تعبير متوهِّج عن وجدان نقي ، قد يكون الشعر حزيناً وقاسياً ومتمرداً لكنه لا يكون مظلماً و لا ظلامياً ، و " ملهمتي والحروف الأولى " هو عنوان ديوانه الأول ، ونقطة البدء لهذا الشاعر الذي يقدم نفسه للقارئ على هذا النحو من الصدق و التواضع .
                         سأعبرُ شاطئ الأحزان
                         والأرق المسافر في جفون الدمع يبكي
                         أثقلته مفازتي بالنَّوْح
                         يبحثُ في سديم العمر
                         عن حرف البداية .
   ما تزال التجربة في بداية الشوط ، وما يزال صوتها منقسماً على نفسه قصيدة معلقة بالذاكرة الشعرية للموروث الأصيل ، وأخرى تشد الرحال نحو الصيغة الجديدة لشعر التفعيلة ، وبين السطور تترقرق ملامح رومانسية عذبة تصبح معها القصائد كلها إرهاصاً بميلاد شاعر جديد اسمه إبراهيم أبو طالب .
-         5 –
   في البلدان المتقدمة – ولأسباب ليس هنا مجال شرحها – لم يعد للشعر وظيفة ، لذلك فالشعر في تلك البلدان لا يستخدم اللغة في مستواها المباشر ، ويصبحُ مفهوم اللغة عند شعر تلك البلدان نسبياً مختلفاً تماماً عن المفهوم السائد لها في حياتنا نحن أبناء العالم المقترح له تسمية مبهمة هي " العالم الثالث " في حين ما تزال مفردات اللغة في شعرنا محملة بكل الدلالات التي كانت لها . قد تنـزاح قليلاً ولكنها تظلُّ مترعة بالمعنى . والشعر في بلادنا لا يأتي للمتعة البصرية أو الذهنية و لا يصدر صافياً أو متخففاً عن قضايا الإنسان و أحلامه ، والجزء الأكبر منه صدى لأحزان أُمة تحاول أن تصعد و أن تفيق من بقايا السبات العالق بأجفانها من أزمنة غابرة جعلتها نهباً لكل غازٍ وطامع ، و الاستثناءات النادرة في قائمة الشعراء العرب والمتمثلة في عدد لا يكاد يزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة من المنفلتين عن مسئولية التوصيل ، ومن الذين يقولون إنهم يكتبون لأنفسهم فقط ، هذه الاستثناءات ليست صادقة فيما تزعم و لا مؤمنة أو جادة بما تبشر به . وإنما هي التعبير الحزين لحالات التمزق بين الواقع والحلم .
   ومن هنا فإن الشعر لا بد أن يكون توصيلاً جمالياً لموضوع ما ، لقضيةٍ ما ، لمشاعر ما ، وهذا بعض ما يقوله المقطع التالي من قصيدة :
                                   قد يكون الشعر أحياناً قُصَاصةْ
                                   شبقاً حيناً
                                   وأحياناً رصاصة
                                   قد يكون ...
                                   رقصة شوها على أوراق ملصق
                                   فوق صدرٍ لفتاةٍ عارية
                                   ويداً تمسك " فِلْم الهاوية "
                                   ونشيد الراعية .
                              قد يكون الشعر أحياناً ...
                              نجوماً وغيوما وسماء
                              وصباحاً ؛ وحياةً ؛ ومساء .
-        6 –
   يعود تاريخ أولى قصائد هذا الديوان كتابةً ، وعنوانها ( الحب الأول ) إلى بداية هذا العقد ( 1991 ) . وهذا يعني – وفقاً لتقسيم الشعراء إلى أجيال – أن إبراهيم من شعراء التسعينات وأنه – سواء استقام أمر هذا التقسيم أم لم يستقم – ينتمي إلى أحدث موجة شعرية في البلاد ، وأن على عاتق هذه الموجة تنهض مسئولية ما كان الشعراء في الأربعينيات و الخمسينيات يبشرون به من تجديد وتجاوز . وإذا لم تفِ الموجات المتلاحقة من الشعراء الشـبان بهذه المسئولية فإن تطورنا المزعوم مشكوك فيه ، وأن كلّ جيل يجترُّ محاولات سابقيه ويبدو عاجزاً عن تجاوزها أو الإضافة إليها .
  وتكشف القصائد ذات البناء البيـتي " العمودي " في هذا الديوان كما تكشف قصائده المنتمية إلى نظام التفعيلة أن شعراءنا الشباب بحاجة إلى مزيد من التعرف على كلِّ ما تطرحه الساحة العربية من إبداعٍ شعري ومن مغامرات في حقل الكتابة الإبداعية كحاجتهم إلى مزيد من التعلق بالتراث والحوار مع النصوص الكبيرة والكثيرة التي امتلأت بها ساحات المدن العربية ومكتباتها في عصور الازدهار .
   ويمكن القول بعيداً عن أي قدر من التحيّزِ أو التحامل أن مواهب الشعراء الشبان في هذه البلاد أكبر من نتاجاتهم ، و أن ثقافتهم الواسعة تؤهلهم لكتابات أعمق ولكن مشكلتهم الحقيقية أنهم لم يحسموا علاقتهم مع العصر و إبداعاته فهم يعانون من الحيرة بين القديم والجديد وما يترتب على هذه الحيرة من تمزق ومن القبول بنشر أعمال ضامرة خائفة لا هي بالذي ينتمي إلى الجديد المعاصر ولا بالقديم الكلاسيكي . وفي تقديري أن هذه البلاد لن تشهد أعمالاً إبداعية ذات تعبير عال ولافت للاهتمام خارج هذا القطر ما لم يتمكن المبدعون من حسم هذه القضية المؤجلة .
-         7 –
لكل شيء واسطة
         كلامنا بواسطة
             أفعالنا بواسطة
                أفكارنا بواسطة
                    أحلامنا بواسطة
                         أنفاسنا بواسطة
حياتنا وموتنا بواسطة
     والواسطة بواسطة
                     ربَّاهُ ؛ إني قادمٌ
                     إليك دون واسطة
                     أنت الوحيدُ عندنا
                     من لا يريد واسطة ...
   هذا جزء صغير من مقطع في إحدى قصائد هذا الديوان أختتم به هذه الإشارات ، وهو في بساطته ودلالته الواضحة تعبير عميق عن خطأ إنساني تحول في السنوات الأخيرة إلى ظاهرة جديرة بالفضح والمواجهة .
كلية الآداب – جامعة صنعاء
في 4 / 5 / 1999م.
للاطلاع على الديوان أو تحميله. اضغط على الرابط الآتي:


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)