فلتفكر في هذا الجرد السنوي..




جرد القلوب السنوي استعداداً للحوار الوطني
د.إبراهيم أبو طالب
   من الجميل أن يحاسب الإنسانُ نفسه مع نهاية كلِّ يوم عمّا فعله في يومه، وعمّا فعله بالمجمل في عامه كجردٍ سنوي لإنجازاته التي قام بها خلال عام مضى أو إخفاقاته التي وقع فيها استعداداً للوقوف مرة أخرى والنهوض من جديد، يقوم بذلك الجرد السنوي لأيامه ولياليه، لأحلامه وأفعاله، لخيره وشره، تماماً كما نفعل عادةً في مؤسساتنا الحكومية أو الخاصة مع نهاية كل عام تقوم تلك المؤسسات بجرد للممتلكات من مواد ثابتة ومتحركة،
وحريٌّ بالإنسان أن يقوم بمحاسبة نفسه أولاً بأول، ويقوم بجرد حياته وأعماله، وليتوجه بالتركيز على القلب لتصفيته وإعادة ترتيبه وتنظيفه، ولعلّ في قصة الصحابي الجليل الذي شهد له الرسول صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم بأنه من أهل الجنة، لأنه - بحسب رواية ورؤية أحد صغار الصحابة له ومتابعته في داره حين نزل ضيفاً عليه- رأى أن ما يقوم به في ليله من صلاة أو عبادة خلال ثلاث ليال لا يزيد عما يفعله جميع الصحابة من صلاة العشاء، ثم القيام لصلاة الفجر في جماعة، ثمَّ إنه يؤدي عمله اليومي دون زيادة أو نقصان، وحين سأله بمَ استحقَّ هذه البشارة بالجنة رد: بأنه لا يزيد على ما رأى من حاله سوى أنه حين ينام يحاسب نفسه ولا يُبقي في قلبه لأحدٍ ذرةً من حقد أو غلٍّ أو ضغينة، ويسامح الجميع ممن أساء له سائر يومه.
   وهو بذلك يَبيتُ وقد نظَّفَ قلبَهُ من كلِّ صغيرة وكبيرة من علائق البغضاء، والشحناء وعوائق الأحقاد وروائحها المزعجة التي قد تعشِّشُ في زوايا القلب وتتحول إلى وباءٍ مُؤَجَّجٍ بالضغينة، ومُدَجَّجٍ بالحقد الذي لا بُرْءَ منه، وربما دفع بصاحبه إلى ارتكاب عظائم الأمور، وارتياد كبريات الآثام والأفعال "فمعظم النار من مستصغر الشرر"، وأقول:"عظائم الذنب قد يأتي من اللَّمَمِ)، وهكذا يبدو أن محاسبة النفس أولاً بأول، وتنظيف القلب باستمرار من الأمور المهمة على المستوى الشخصي والإنساني، وكثيراً ما نهتم في المناسبات الاجتماعية بترتيب البيوت، وتنظيف الملابس وننسى تنظيف القلوب كأهم ما يجب تنظيفه، وبذلك ما أحوجنا أن نقف بصدق مع أنفسنا وفي نهاية هذا العام -وغيره من الأعوام- ونحنُ نستقبل عاما جديدا ما أحوجنا إلى جرد لما نحتاج إليه، وسينفعنا في مستقبلنا، ونتخلص مما لا نحتاجه في مشوار حياتنا القادم مما قد يشكل عائقا مؤلما من الأحزان أو الذكريات المعيقة، والآهات المعطلة حتى لا تزدحم به ذاكرات القلوب.
   ومن هنا نتساءل لمَ لا نستقبل الحياة بشكل جديد، وندخل إلى أمورنا الخاصة والعامة بأفق أوسع وبنظافة سريرة، وبقلوب خالية من الضغائن والأمور التي تسوّد القلوبَ، فتنعكس بلونها المعتم على الوجوه والضمائر والتصرفات، والحياة بشكل عام، ومن أهم تلك القضايا العامة أن نَقبل بعضنا بعضا بكلّ تنوعنا واختلافنا في الرأي أو التوجه أو الفكر، وأن ننسى جراحاتنا، ونتناسى أحزاننا أو مطامعنا التي كانت في العام الفائت أو فيما قبله سبباً في كثير من مشاكلنا، ونستقبلُ عاماً جديداً بأحلام جديدة وطموحات مشروعة نجيد بها صناعة الحياة بدلاً من إنتاج أسباب الموت والفرقة والخلافات، وأن ننظر إلى الحياة بمنظار حقيقي فنتأمل جمالها ونستشعر أهميتها ونحياها كما ينبغي متأملين جمالها مدركين بأنها أقصر مما يمكن أن نضيعها بما لا يفيد وفيما لا يجدي من الشحناء، والمكايدات، والأهواء الفارغة الجوفاء، لنفيق وقد وقعنا في عَجْزٍ يقدِّمه كشف حساب أيامنا، وسنواتنا بشكل عام والتي أنفقناها في كثير من المتاهات وملأناها بالتعاسة لنا، ولمن حولنا من الناس، والحياة، والكون.
   ومن خلال تلكم التصفيات الأولية والمسامحات المفيدة أولاً بأول نستطيع الخروج من الشأن الخاص، وندخل في الشأن العام -الوطني منه بالتحديد- فنملأ قلوبنا محبةً وإخلاصاً لوطن نحن جزء منه، تكويننا من أرضه وسمائه وأفيائه وأحلامه، ولا بدَّ من تلك التهيئة لقلوبنا، وتنقيتها من كلِّ الشوائب المناطقية والحزبية والولاءات الضيقة والعقائد المحرفة غير المستندة إلى مصدر سماوي نقي كالقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والسنة النبوية الصحيحة، وهما المصدران الداعيان إلى المحبة في جوهرهما وخلودهما، دون الاستناد إلى آراء متطرفة  أو أقول خاطئة ما أنزل الله بها من سلطان، وما عرفناها في أمتنا، ولا في يمننا الحبيب الذي تعايشت فيه مذاهبنا الإسلامية المعروفة بكلِّ الحب والتآخي والتآزر عبر تاريخها الطويل، وبهذا نستطيع أن ندخل في الحوار الوطني الذي هو بنا ونحن سببه وصنَّاعه وأطرافه ونتائجه في ذات الوقت، وقد قدمنا بين يديه صدق النوايا وآفاق الغايات الحميدة، وضمان النتائج في نجاحه وحقيقته وتطبيقه، يدفعنا في كل ذلك حكمةٌ راسخةٌ وتراثٌ حضاري واسع يمتدُّ زمانه إلى خمسة آلاف سنة من العراقة والأصالة والقلوب اللينة والإيمان اليماني.
    سبقت ذلك الحوار تهيئة عظيمة موفقة تتمثّلُ في قرارات رئيس الجمهورية بشأن هيكلة الجيش وترتيبه - مهاماً واستراتيجيات-، لتتبعه نجاحات الحوار الوطني في استكمال العملية السياسية والحزبية في اليمن بما يكفل التعايش الديمقراطي الحضاري، والغد المأمول من أجلنا، ومن أجل شبابنا الحر الغيور الطموح النقي، ومن أجل مستقبل أطفالنا الذين سيكبرون، وسيذكروننا بخير، وفخر، وإعظام، قائلين: أولئك أبائي الذين صنعوا الحياة لننعم بها، ونبذوا الموت والفرقة والجفاء، فهل نحن فاعلون؟!


* نشرت في مجلة الجيش: العدد(382) يناير 2013م. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)