قراءة في قصيدة (الفاجعة) في رثاء المرحوم عصام السياني..




قراءة في قصيدة (الفاجعة) للدكتور إبراهيم أبو طالب
في رثاء صديقه المرحوم عصام السياني..
(انتقل إلى رحمة الله  هو وزوجه بحادث اختناق بدخان مولد كهربائي
 في يوم 4  من رمضان 1430هـ، الموافق 25 من أغسطس2009م)

دراسة بقلم: الأستاذة/ عُلا علي

(المعيدة بقسم اللغة العربية، كلية التربية -أرحب، جامعة صنعاء)

يشكل الرثاء حلقة مهمة من الهيمنة النوعية للتفرد بأحاسيس ووجدان المتلقي الذي بالتأكيد قد عاش مأساة فقدان عزيز ما، الأمر الذي سيعيد في ذكرياته جراحات قديمة وعميقة لم تتمكن سنوات الماضي من نسيانها مهما طال الزمن.
وقد تمكنت قصائد الرثاء في الشعر العربي من تخليد شخصيات مختلفة جراء تلك المراثي التي بقيت في ذهن الإنسان العربي، ومن تلك القصائد ما قالته الخنساء في أخويها صخر ومعاوية.
ولما يمتلكه الرثاء من صدق العاطفة وتأجج المشاعر، فقد حلقت قصائد الرثاء بإحساس ومشاعر الشعراء، وما تحمله تلك المراثي من رقة المعاني، وعذوبة الألفاظ، وصدق العاطفة،  فتحولت دموع الشعراء إلى مراثيَ حزينةٍ حروفُها الأحزانُ، وسِفرها قلبٌ مُضنى، وقافيتها اللوعة والأسى،وبحرُها من فيضانات العبرات.
 والشاعر الكبير الدكتور: إبراهيم أبو طالب. حلق في سماء الشعر باعا طويلاً، وله العديد من الدواوين الشعرية المتنوعة القصائد بين الشعر العمودي، وشعر التفعيلة، والشعر الحميني.
 ومن ضمن هذه الدواوين ديوانه " تنويعات مسافرة"، وقد دلَّ العنوان على المحتوى فتنوعت محطات السفر في ديوانه كما تنوعت قصائد الديوان، فمنها ما كتب على الشعر العمودي، ومنها ما كتب على شعر التفعيلة، كما تنوع استعماله للبحور بين البسيط وبحر الكامل" وقصيدة على بحر الوافر وأخرى على الخفيف"(1)، وكذا طرق الشاعر أغراض متنوعة كالغزل والرثاء، فتنوعت أحاسيسه وتغنى بوحدة الوطن وحضارته في قصيدته " روح بلقيس " كما كان قلبه معلق بقضية القدس في قصيدته " يا ليتني يا قدس " وقضية بغداد في قصيدته "على أطلال العرب ".
ومن خلال قصائد الديوان استطاع الشاعر أن يبث فيها روح الوفاء لكل محطة وقف بها، فقد كان وفياً مخلصاً للوطن، وتجلى ذلك في بعض القصائد كقصيدة " روح بلقيس" و" لعيني صنعاء".
وفياً للأرض التي احتضنته أثناء دراساته العليا في القاهرة، ومنها قصيدة " النيل يشهد"، وقصيدة " وداعاً".
 إلى أن تجلى الوفاء عند آخر محطة وقف عندها الشاعر، وحيث السفر الأخير في قصيدته " الفاجعة"؛ لترتسم الفجائعية ودهشة الفقد غير المتوقعة، وليست هذه المرثية إلا بكائية ولدت من هول الحدث وشدة الخطب، وما موت إنسان عزيز إلا فاجعة، فكانت هذه المرثية تخليداً للراحلين.
والوجود لا يخلو من المنغصات التي تثير الحزن والألم في نفوس الشعراء، فتنطلق كلماتهم معبرة عما تجيش به صدورهم من لواعج الألم وطوافح الحزن.
وهذه المرثية التي رثى بها الشاعر الدكتور: إبراهيم أبو طالب أخاه وصديق عمره من المراثي التي تستجيش العاطفة، ويستدر عند قراءتها الدموع فهي قصيدة تذوب رقة وحزناً ولوعة ووجداً.
فكانت الثيمة الشعرية التي استند عليها الشاعر في هذه المرثية هي عبارة عن سلسلة من الآهات والجراحات المتواصلة، والفجائعية الممزوجة بالأسى والحسرة والتألم.
والعنوان يمدّنا بزاد ثمين لتفكيك النص وقراءته، وهو المحور الذي يحدّد هويّة النّص، وتدور حوله الدلالات، وتتعالق به، وهو بمكانة الرأس من الجسد، والعنوان في أيّ نصّ لا يأتي اعتباطياً، إذ أنه يكون دالاً على النص.
وقد أراد الشاعر من خلال لقطة محورية هي" الفاجعة" أن يعبر عن الأبعاد النفسية لعالمه الداخلي وأوجاعه النفسية، فأفضى العنوان" الفاجعة" بالدلالات الصوتية الموحية على شدة وعمق الألم إذ أن "أل" التعريف صوت دال على الاستغراق، والفاء صوت دال على فتح خفيف منضم، وحرف المد دال على الاستقامة والامتداد، والجيم صوت يدل على جهد ومشقة، أما العين فهو يدل على عمق الألم، والتاء المربوطة صوت يدل على دفع خفيف متوقف.
أما المعنى المعجمي للعنوان نجده بمعنى:المصيبة المؤلمة توجع الإنسان بفقد ما يعز عليه. (2)
ومن الملاحظ أن دلالة أصوات" الفاجعة" ارتبطت بالمعنى المعجمي، وتمتد دلالة العنوان" الفاجعة"  للنص الرثائي كما سنرى من خلال شرح الأبيات.
ويبتدئ الشاعر في مطلع القصيدة بتهيئة المتلقي قبل الدخول إلى العالم الشعري بكل أجوائه، فالحديث عن "الحياة- الموت" يُعدُّ موضوعاً خصباً للتأمل والتفكير، والشاعر لا يصور الواقع من أجل التصوير لكنه ينفذ إلى ما وراء التصوير للتعبير عن رؤيته لهذا الواقع وموقفه منه.
 إذ يلجأ الشاعر في مطلع القصيدة إلى العقل بصفته مصدرا للحكمة؛ كي يحافظ على تماسك المتلقي لخبر الفقد لدى تلقيه النبأ الفاجع، فاستخدم تقنية الحكمة في مطلع القصيدة ؛ لأن فاجعة الفقد غير المتوقعة شديدة على الشاعر كما أنها ستكون  كذلك على المتلقي فكان لابد من الاحتكام إلى العقل.
ولعلَّ افتتاح الشاعر قصيدته بالحكمة ساعد القارئ على استيعاب حجم المأساة التي حلت به، فجاءت أبياته الأولى خطاباً عقلياً صرفاً.
وهنا يحضر في ذهن القارئ أشياء كثيرة مما جادت به حوادث الأيام من مرارة وأسى تختلف باختلاف وقعها عليه، إلا أن ما يحضر في ذهن الشاعر هو تجربته مع الحدث الراهن.
  ومن خلال هذه المقدمة نستطيع أن نتعرف على بعض تجارب وخبرات الشاعر، ونستدل على مقدرته في إدراك الواقع ومعايشة الصراع مع الحياة، والتي تكشف عن نظرته وفهمه لمكنونات الحياة، فيقول في مطلع القصيدة:
هذي الحياة كثيرة الأكدار               ونعيمها قد حُفَّ بالأخطار
وكؤوسها قد أترعت بمرارة               مملوءة بغرائب الأقدار(2)
إن اسم الإشارة (هذي) في هذا المطلع يعمل على إدانة "الحياة" ويضعها داخل قفص الاتهام؛ لكثرة أكدارها ومنغصاتها التي لا تخلو منها، ثم يعمل على تضييق دائرة "النعيم" بتخيره لفظة" حُفَّ" والتي تعني: الإحاطة بالشيء من جميع الجوانب،وتأتي بمعنى :ضاق( 3)، فالنعيم الذي ازدهت به الحياة محُفوف بالأخطار، وهنا إيحاء على ضيق العيش بكثرة الأكدار، ويعمل الحرف "قد" دور المحقق ليثبت الإدانة للحياة بكثرة أكدارها الناتج من تلك الأخطار التي حفّتْ نعيمها.
وفي البيت الثاني يتخير مفردة "كؤوس" ومعنى الكأس(4) :الإناء يشرب فيه، قال ابن الأعرابي: لا يسمى الكأس كأسا إلا وفيها الشراب.وهنا إشارة إلى لذة وراحة الحياة.بدلالة ضمير الغائب العائد على الحياة في "كؤوسها" ولم يكتفي الشاعر بهذا القدر من التضييق لنعيم الحياة، فهذه الكؤوس وصلت إلى حد الاكتفاء بالامتلاء عند استخدامه لمفردة " أترعت" وتعني: امتلأت (والامتلاء: هو شغل الشيء جميع أجزائه) أي امتلأت بالمرارة، ثم يأتي بمرادف للفعل" أترعت" في الشطر الثاني على هيئة المصدر"مملوءة" فقد وظف الشاعر الترادف لينفذ من خلاله إلى عقل القارئ محققا الوضوح، و مبسطاً الأفكار، وللتأكيد بأن الحياة كثيرة الأكدار.
إلا أن غرائب الأقدار شكلت محور الحكمة في هذا المطلع إذ الحياة لا تخلو من هذه الغرائب التي تنجب الفواجع.  وقد اكتسبت هذه المقدمة ثراء فنيا عندما عارض بها الشاعر قصيدة الشاعر علي بن محمد التهامي الذي تفجع على وفاة ولده ورثاه، ولعلَّها معارضة غير مقصودة من الشاعر لهذه القصيدة التي يقول في مطلعها  :
حكم المنية في البرية جار        ما هذه الدنيا بدار قرار
طبعت على كدرٍ وأنت تريدها        صفواً من الأقذار و الأكدار
  وتأتي معارضته على نفس المنحى الأسلوبي والعروضي والقافية وحركة الروي والتصريع، حيث انطلق في مرثيَّته المؤثِّرة من الحكمة التي تنظر إلى الأمور بمنظار يتلاءم وطبيعة الحياة وسنن الكون التي لا ينجو منها أحد، وهو ما عمَّق الرُّؤية في إظهار صورة التَّفجُّع، وتجسيد الألم الذي حلَّ بوجدانِّه.
ومن هنا جاءت قصيدة" الفاجعة" متسقة ومعارضة لقصيدة الشاعر علي بن محمد التهامي في رثاء ولده.
إلا أن أثر الفجيعة وإن جاهد الشاعر لإخفائها بادية تؤرقه وتكوي فؤاده, فلا بُدَّ له من إعلانها إذ نراه ينتقل لأسلوب آخر، وهو الأسلوب الإنشائي الذي استطاع به أن يفجر انفعالاته ويصور حزنه وحسرته، فكان أن انطلقت منه صرخة مدوية، هي صرخة الفجائعية الممزوجة بالألم والمرارة التي أذاقها له ذاك الموت الغدار بنداءٍ مدوٍ، فنجد في هذا البيت حسرة وألماً عميقاً ينبعث من ثنايا الألفاظ :
يا موت تباً.كيف تأخذ صاحبي          غدرا؟! وفيك سجية الغدَّار
إنه الموت الذي يرث الأرض ومن عليها، والذي لا يعرف سوى الأخذ، إذ تحيل مفردة " الموت" إلى نهاية الحياة والانتقال إلى الحياة الأخرى، ومن هذا البيت تتجلى الثنائية الضدية لـ " الحياة والموت " إذ تمثل النواة الدلالية للنص والتي تشكل مقوما من مقومات " الفاجعة" عند سلب الموت حياة صاحب عزيز للشاعر سلباً مفاجئاً غير متوقع.
  و مع علم الشاعر بأن الغدر سجية من سجايا الموت وطبع متأصل فيه، إلا أنه لم يمنعه من الصراخ كمداً بوجهه يؤنبه و يزجره على اقتراف الغدر برفيق عمره.
 لقد علتْ موجة الحزن والحسرة وزاد أوارها عندما استخدم الشاعر أداة النداء "يا"؛ ليفجر بركان الغضب الممزوجة بالحسرة والتألم، وكأن "الموت" ماثل أمامه يتوعده على جرمه الذي أحدثه بصاحبه، والنداء الذي جاء لغير العاقل دلَّ على لهفة الشاعر وعذابه الداخلي علَّ هذا النداء يكون ضرباً من التفريج.
وقد أحدث توعده انفجاراً مدوياً باستخدامه لفظة "تبَّاً" وما يحمله حرف الباء من انفجار الصوت المعبر عن  الحسرة الممزوجة بالغضب.
فالشاعر لم يكن مستعدا لتلقي خبر الموت المفاجئ لذا نراه يستبعد وقوع الموت بصاحبه باستخدامه الاستفهام في قوله: "كيف تأخذ صاحبي غدرا؟! " حيث أن غرض الاستفهام يتضمن الاستبعاد أي استبعاد وقوع الأخذ الذي لم يتوقعه الشاعر مع تعجبه من غدر الموت؛ ليبث من خلاله حسرته الشديدة، ودهشته من هول الحدث.
وتتدفق الآلام  ويستمر الشاعر في التعبير عن حالته النفسية وإحساسه بالأسى مخاطباً "الموت"، ومع أن الموت حقيقة محتومة، إلا أن الموقف الرهيب الذي ملأ كيان الشاعر جعله يستمر في تأنيبه إذ يظهر واضحاً جلياً في هذه الأبيات التي تفيض حسرةً ولوعةً وحزناً على فراق "عصام"  في قوله :
هلَّا تركت عصام ينعم فترة           بشبابه وبعمره الفوار؟
يعبر الشاعر في هذا البيت عن عمر الفقيد المتقد بالحياة والحركة والحيوية، إذ تحيل مفردة" الفوَّار" إلى الجري المتدفق والحركة الشديدة، ليدل على أن الموت غدر به وهو ما يزال في ريعان الشباب ينعم بالعافية.
و ينتقل الشاعر إلى الجملة الفعلية لتمور بالحركة التي يظهر أوارها عند الصدمة، وهو يعبر عن تجارب إنسانية حية جماعية تنطلق من داخل الشاعر لتعبر عن أحزان الكل فيقول:
وفجعتنا فيه بقسوة صدمة       سقطت  كهول الصخر والإعصار
إذ يصرح الشاعر في خطابة للموت بأن ما اقترفه من غدر يُعدُّ فاجعةً كبرى وصدمة عظمى، فالفاجعة  قد وقعت على الناس كافة، أهله، وأصدقائه، ومحبيه، وكل من عرفه؛ ولذلك بدأ البيت بالجملة الفعلية "فجعتنا" و تلقي الخبر الفاجع صدمة عبر عن قسوتها بسقوط " كَهَوْلِ الصخر والإعصار" وهنا كناية على هول الخطب وشدته، وتخير الشاعر لفظة "السقوط" عن قوله : "وقعت" لما لهذه المفردة من إيحاء قوي دال على شدة الفاجعة غير المتوقعة.
إن الصدمة تكون من فاجعة والفاجعة تولد الصدمة، فقد يسقط المتلقي للفاجعة من شدتها ووقعها عليه إلا أن الشاعر عبر عن شدة هذه الفاجعة بسقوط " كهول الصخر والإعصار" فما الذي يسقط كهول الصخر؟!
لولا أن وقع الصدمة شديدٌ على الشاعر لما جعله يتخير مفردات توحي بتفجر ألمه وهو يستمر في خطاب "الموت" مثل:  "القسوة، الصدمة، السقوط، كهول الصخر، الإعصار" إذ نلاحظ تكرار الصوت المهموس" الصاد"في: "الصدمة، الصخر، الإعصار" مندمجا مع صوت السين الصفيري في "القسوة و السقوط" ليكوّن انفجاراً قويا مفعماً بالحركة والاهتزاز.
وقد تجاوزت المآتم موقعها لتحل وتستوطن القلوب بعد هذه الفاجعة التي أذهلت العقول والقلوب، وجرت دموع الفراق من كل عين مدرارا:
في كل قلب مأتمٌ لفراقه          جرت العيون بدمعها المدرار
وفي استخدام الشاعر لكلمة "قلب" على إطلاقه بلفظ العموم "كل" إشارة إلى الأثر الإنساني العام لهذه الفاجعة، والعيون هي عيون الناس كافة، وعينا الشاعر، وتخير الشاعر للفظة "مأتم" إيحاء على تجاوز الدلالة المكانية و الزمانية للفاجعة.
إن الشاعر يعبر عن الحدث وقد ارتقى إلى مستوى الحقيقة غير القابلة للنقض في قوله: "جرت العيون بدمعها المدرار".
ويمتد الحزن امتداد الأماكن التي عاش بها الراحل؛ لتعلن الحداد حزناً ونوحاً وبكاءً، فكان لها دور المشاركة، كيف لا؟ وهي الموطن والسكن، بل هي من خُطتْ عليها معالم الذكرى لمن رحل.
صنعاء وشَّحَها السواد لفقده              ومناخة تبكيه ليلَ نـَهَار
ومناخة صارت مناحة ثاكل             قد زلزلتْ من كاهل لمسار
لا يزال الشاعر مغرقاً بالأسى عند وصفه لصنعاء، تلك المدينة البهية التي لطالما تغنى بها الشاعر، وبجمال مناظرها ورونقها، هاهي اليوم وفي هذا الموقف الذي يغشى الشاعر تفقد ذاك البهاء وتوشح بالسواد حداداً لفقده.
  أما "مناخة" الأرض التي احتضنت الفقيد وعاش في ظلالها بقية حياته، فهي تبكيه ليل نهار؛ لكن بكاء مناخة ليس كأي بكاء إذ من شدة الألم والحسرة وهول الفاجعة النازلة بـ"مناخة" تحول البكاء إلى نواح وأي نوح هذا الذي عمَّ مناخة بأهلها صغارهم وكبارهم وديارها ووديانها وجبالها؛ إنه نواح الثكالى، وأيُّ شيء أشدُّ تألماً وتحسراً من نوح الثكلى؟!.
إن صوت الصاد في "صنعاء" لها وقع صارخ يؤلم الشاعر؛ لذلك تتابعت أشجانه بصوت الشين الذي يعد صوتا صفيريا في " وشحها" فصوت الشين صوت شجن يتفق مع السين في كلمة" السواد" إذ هو صوت صفيري يوحي بالانزلاق والامتداد للسواد، فالصفير خارج من نفس الشاعر ليدل على تأزم حالته النفسية بشكل يتناسب مع الحزن والتجربة المأساوية العميقة.
لقد جرد الشاعر مظاهر الكون الطبيعية وجعلها متأثرة باكية معه، ليجسد بالتالي رؤيته القائمة على تغير وتأثر كل شيء بعد موت المرثي إعظاما وإكبارا لذلك الفقد.
ولا يقف الشاعر عند هذا التصوير البديع لهول الفاجعة؛ بل نراه يستخدم أقوى الألفاظ إيحاءاً على هول الحدث وعظمة المصاب ويتجلى ذلك في الفعل  "زلزلت" في قوله : "قد زلزلت من كاهل لمسار"
إذ أن مسار منطقة تقع غرب "مناخة " أما كاهل فهو اسم جبل يقع شرق "مناخة"، و"الزلزلة" توحي على حدث عظيم إذ هي الحركة الشديدة للأرض، و" الزلزلة" مشهد خفي غيبي وقد جاءت في السياق لتبث هول الكارثة، فهذا الانقلاب الكوني واختلال نظامه أراد به الشاعر التعبير به عن هول الخطب وشدته،  ومن خلال هذين البيتين استطاع الشاعر أن يعبر عن شدة الفاجعة التي هزت هذه المساحة المكانية الواسعة.
ثم ينتقل إلى تعداد محاسنه وبيان أخلاقه الفاضلة وشمائله الفريدة،  وجمال روحه التي جذبت إليه الآخرين وطيب حواره،  إلا أن الشاعر لا يعدد تلك الصفات بصيغة الغائب فصدمته برحيل" عصام" جعلته يخاطبه ويحاوره، بما امتلك من صفات، ففاح شذاه كما يفوح عطر النسيم: 
قد كنت تملؤها حضورا غامرا            حب القلوب دعاك في إصرار
والناس حولك في اشتياق دائم          لجمال روحك أو لطيب حوار
أصبحت فيهم كالنسيم بعطرهِ          وغدوت فيهم أصل كل فخار
ثم نراه يبعث الحزن والأسى في القلوب، ويذكي مرارات النفوس، ويلهب جذوة الشوق، ويحزُّ في نفسه مفارقة خليله، فتنساب العبرات بالواقع الذي ما يزال يذهل الشاعر غير مصدقٍ أنَّ أخاه وترب طفولته قد رحل، وقد غمرته لفحة الدهشة وهو يخاطبه قائلا: "حقا رحلت؟!" وهنا يستميلُ الشاعر المتلقي ويشعره بما يعتلجُ في صدره، ويبث شكواه عن طريق الحوار مع صديقه:
حقا رحلت؟! أخي وترب طفولتي       وتركتني للهم والتذكار
وبغصتي أقضي الحياة معذبا          رحل الخليل وموطن الأسرار
إن وقع الفاجعة جعلت الشاعر يقف موقف المذهول،  فكيف له أن يدرك ما حدث وربطه بالحقيقة إذ تبدى ذلك في تعجبه من الرحيل، فهاهو ينعي نفسه بقضاء هذه الحياة معذباً وقد ترك له الهم والتذكار.
ومما لاشك فيه أن الراحل له مكانة كبرى في قلب الشاعر؛ لذلك كان نعته بـ "الصاحب" و"الأخ"  و"ترب الطفولة"، و"الخليل"، و"موطن الأسرار" وقد عكست هذه المفردات قوة ارتباط الشاعر بالفقيد في الحياة وبعد الموت على السواء، وأنه ساكن في قلبه وخياله وعقله.
وعندما يتذكر الشاعر أن فقده حقيقة يزداد انفعاله حتى يبلغ درجة يمتزج فيها الحزن بالحسرة من غير أن يتخلى عن تقنية الاستفهام الاستنكاري، ولعلَّ تزاحم مشاعر الحزن والألم والغضب والمرارة دفع به إلى حالة متقدمة من اليأس تفقده توازنه وتجعله يكثر من الأسئلة الاستفهامية والاستنكارية والتعجبية ومن الحوار:  
لِمَ يا عصام تركتنا في حسرةٍ          واخترت موتك دونما إخبار؟
وأخذت زوجك كي تحلقَ عاليًا         وذهبت في صمت إلى الغفار
ما يزال الشاعر مستمراً في خطابه معاتباً "عصام" على رحيله المفاجئ، والحسرة تملأ كيانه؛ مكررا فعل "الترك" بصيغة الجماعة إذ سيطر على عقله؛ لعدم تصديقه بأن "عصام" قد رحل؛ فدلَّ على ارتباطه الروحي والنفسي بالفقيد،  لكنه لم يرحل بمفرده فقد أخذ معه زوجته التي لم تفارقه في الحياة، فأنىَّ له أن يفارقها ويرحل دونها ؟!
وهنا تجلت قسوة الفاجعة تلك الصدمة والدهشة التي غمرت القلوب والعقول بأن يرحل "عصام" وزوجته في آن واحد، وكأنه من قرر رحيلها معه فاختار الرحيل ثم أخذها وذهب بدلالة تعاقب الأفعال الماضية. الترك" تركت"، فاختار " اخترت"، ثم أخذ " أخذت"،  وبعد ذلك ذهب "ذهبت"؛ ليوحي بتمسكه المتين وحبه العظيم لزوجته الذي تجلى في عملية الرحيل.
ونجد في هذا البيت إشارة إلى أن الرحيل كان رحيلا غير معهود له، إذ كان رحيلهما هادئا تسري الروح إلى بارئها بصمت في استخدامه لكلمة " صمت "  حيث أن الصمت مؤشر للريبة والخوف، ورحيلهما بصمت دونما إخبار فجر فاجعة الرحيل ودوت تهز أركان الحياة. 
   لقد صدق الشاعر في مطلع قصيدته بأن الحياة مليئة بغرائب الأقدار، فهاهو يضع القارئ أمام مشهد تجلت فيه الفاجعة بدهشتها للناس جميعاً، عندما تسري روح إلفين بصمت مريب في آن واحد وتتصاعد النفوس محلقة عاليا.
ومثلما استطاع الشاعر في بدء القصيدة أن يأسر عقل القارئ ويبقيه معه طوال مراحل القصيدة، هاهو الآن وفي هذه الأبيات استطاع أن يترك صدىً بعيد المدى في عقل ووجدان القارئ من خلال سيطرة الحزن والشعور العميق بالفاجعة؛ إذ يمضي في الخطاب والحوار بصيغة المثنى للراحلين في رحلة قصيرة لحياتهما، وكيف أن الود الذي ازدهى بحياتهما ظل يرافقهما إلى أن تركا دنيا العناء والمتاعب.
قد عشتما نيفا وعشر مليئة              بمودة ومحبة ووقار
وتركتما دنيا المتاعب والضنى             كي تنعما في جنة الأخيار
إلفين عاشا في ودادٍ رائع              وترافقا في آخر المشوار
هكذا ترافق الراحلين في الحياة بالمودة والإخلاص، وتجسدت معاني الوفاء لكليهما في حياتهما؛ ليقدس هذا الوفاء العظيم بأن يترافقا معاً ويتركا الدنيا بما احتوت من متاعب وضنى،  إذ صار الود الذي رافقهما ودَّاً خالداً يقدس فيهم أسمى آيات الحب الخالد.
لقد شدت المأساة مشاعر الشاعر واعتصر الألم قلبه إلا أن إيمانه بقضاء الله وقدره لا زال حياً في نفسه  فكانت زفراته تنطلق تهليلاً لعظمة الله وشأنه في خلقه، فعند الإيمان بهيمنة الموت وحتمية وقوعه فلابد من الإحساس بأنه قضاء من الله وقدر مكتوب لا محيص عنه ولا انفلات منه، والشاعر هنا بحكم انتمائه وتكوينه يؤمن بذلك، ويعلم أنه من لوازم الإيمان بالقضاء والقدر، الذي هو أحد أركان الإيمان، فلابد من التسليم لله بذلك:
الله ما هذا الجلال وما أرى             روحين من ألق ومن إكبـار
لقد أيقن الشاعر برحيلهما الأبدي دونما رجعة؛ لذلك نراه يخاطبهما بصيغة الغائب، ويصور حياتهما وقد تسارعت وانتهت بقوله:
طافا معاً سبل الحياة كريشة             عبرت كطيف الحلم بالأعمار
رسمت على كل القلوب جمالها             قد علمتْنا عيشة الأحـرار
ما أسرع انتهاء الحياة ! هكذا عبر الشاعر عن حياتهما التي عبرت بخفة الريشة  دونما استثقال والتي رسمت الجمال على القلوب كرسمها الجمال على لوح مصلوب.
إن تخير الشاعر للفظة "الريشة" فيه إيحاء على حرية الروح العابرة المنعتقة من أسر الحياة؛ لذلك نرى الشاعر يؤكد على الانعتاق من أسر الحياة، بقوله: " قد علمتْنا عيشة الأحرار".    
ويعود مرة أخرى إلى رفيق عمره "عصام" ويذكر اسمه للمرة الثالثة؛ ليخفف من آلامه وأحزانه عند ذكر اسمه،  ويمضي بالحديث عنه بصيغة الغائب يذكر مناقبه ويوجز سيرة حياته ليتجلى للقارئ عيشة الأحرار في قوله:
وعصام أستاذ المحبة والنقا            عاش المخف بسيرة الأبرار
ما كان يوما عابسا أو قانطا            هو سلوةُ المهموم والمحتار
قد عاش دنياه كعابر رحلة              لم يلتفت لمناصب وعقار
جعل الحياة جميلة من حوله             حتى وإن كانت بطعم مَرَار
يعطيك حين تراه بسمة صادق            يا للبراءة فيه والأسرار
 إن المحبة الخالصة للآخرين لشيء عظيم و"عصام" هو أستاذ المحبة فقد أتقن بمهارة وأجاد في حبه بنقاء قلبه، وصفاء وخفة روحه؛ ليرسم البسمة على شفاه من حوله، فهو الباسم دوما رغم الإحن،  وقد سار في الحياة سيرة المؤمنين الصادقين في إيمانهم، فلم يكن يوما متجهما مستاء غير راض بما كتب الله له، ولم يظهر الحزن على وجهه، ولم يكن ساخطاً يائساً، وقد زهد عن المناصب والشهرة ولذا تمثل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "كن في الدنيا كغريب أو عابر سبيل"
هذه حقاً عيشة الأحرار التي أشاد بها الشاعر في البيت السابق"قد علمتنا عيشة الأحرار" فهو "عصام" الذي كان له من اسمه نصيب.
وهاهي الزفرة الأخيرة تنطلق من قلبٍ مجروح في اللفظة "رباه" لتدوي هذه المناجاة وتصل إلى أعماق الروح، حيث يستشعر عظمة الله وقدرته الماضية، فيشكو إليه ويلتجئ به من مصابه الذي قد راع قلبه بقوله:
رباه كل الطهر سار مودعا               فاقبله يا رحمن في الأطهار
وكعادة الشعراء في المراثي إنهاء القصيدة بالدعاء الخالص لمحبيهم، كذلك الشاعر يختم هذه المرثية بدعوات صادقة خالصة لرفيقه و زوجته طالباً لهما العفو والمغفرة قائلاً :
واغفر له ولزوجه يا ربنا               أسكنهما غرفا مع المختار
بجوار أحمد كي ينالا رفعة               وشفاعة من سيد الأخيار
القيم الجمالية في القصيدة:
إذا ما سلطنا الضوء على قصيدة الشاعر الرائية وجدناه يعمد إلى تصوير الصدمة تصويراً يثير الحزن والأسى في القلوب، ونحن نجد في هذا الشعر قوة التعبير، وتماسك العاطفة، وصدق التجربة، والتفاعل الحي مع معطيات الأحداث ومواصفات الواقع الذي أثقل كاهل الشاعر.
لقد حرص الشاعر على استخدام وسائل مختلفة للتأثير في المتلقي؛ وذلك لأن شعوره بفداحة المأساة جعلته لا يطيق حملها وحده فأراد أن يشرك معه المتلقي؛ ولذلك لجأ إلى مخاطبة العقول ومخاطبة الوجدان باستخدام مؤثرات فنية مختلفة، وأما مخاطبته للعقل فتتجلى في استفتاح قصيدته بالحكمة، أما مخاطبته للعاطفة فتبرز من خلال محاولته إثارة حزن المتلقي على ما أصابه من فاجعة الفقد.
ومن المؤثرات الفنية التي لجأ إليها الشاعر ما يأتي:
-      عنايته بالصورة للتأثير في المتلقي وتتجلى هذه التقنية لدى عرض الشاعر مجموعة من المشاهد المؤثرة لهول الفاجعة وذلك في البيت : "سقطت كهول الصخر والإعصار"  فقد أجاد الشاعر في التعبير عن شدة المصيبة وهول الحدث، واستخدامه عبارة "سقطت" التي أدت وظيفتها في تهيئة عقل ومخيلة المتلقي لحجم المأساة التي حلت على الجميع وبلغت عاطفته ذروتها اشتعالاً واتقاداً إذ أن هذه المفردة تمتزج بالخيال؛ لأنها تلائم الغرض الذي سيق من أجله، ولها إيحاءات نفسية، وقيمة جمالية معبرة.
ومن التشبيهات ما جاء في تصويره لجمال روح الفقيد وطيب حواره بصورة بلاغية رائعة في قوله :
أصبحت فيهم كالنسيم بعطرة         وغدوت فيهم أصل كل فخار
إذ شبه جمال روحه لمن حوله وطيب حواره للآخرين كالنسيم العاطر الذي يجذب الناس إليه، ولا يكتفي بهذا القدر، ولا يقف عند هذا المستوى الفني بل يكاد ألا يقدر على إيقاف جماح نفسه الحزينة وتدفق مشاعره الفياضة بالأنين والأسى والحزن والألم ليصور حياة الراحلين وتسارعها في المضي والانتهاء بقوله: 
طافا معاً سبل الحياة كريشة      عبرت كطيف الحلم بالأعمـار
- وقد لجأ الشاعر إلى تقنية التشخيص التي تقوم على الاستعارات وقد تبدى ذلك في موضعين :
الموضع الأول: تشخيص "الموت" بندائه وحواره له وقد أراد الشاعر أن يعمق إحساس القارئ بالرهبة من الموت، وبالتالي إيصال الرسالة التي تحملها القصيدة، وهي أن من أخطار الحياة "موت إنسان عزيز فجأة" وهذه من عجائب الأقدار التي أشاد بها الشاعر في مقدمة القصيدة.
حيث يقول:
يا موت تباً.كيف تأخذ صاحبي       غدرا؟! وفيك سجية الغدار
أما الموضع الثاني: فقد تمثلت غاية الشاعر من التشخيص عند تشخيصه لمدينتي "صنعاء" و"مناخة" في أنسنتها من أجل إثارة المزيد من الحزن الإنساني على فقدهما.
صنعاء وشحها السواد لفقده             ومناخة تبكيه ليل نـهار
 ويمكنني النظر إلى هذا البيت بعيداً عن لغة البيان فأقول أن في هذا البيت أنسنة وهو ما اصطلح عليه  عند بعض النقاد التشخيص أو التجسيد، وهذا نوع من التصوير ذي الجاذبية الكبيرة إذ صور"صنعاء" كمرأة اتشحت بثوب أسود و "مناخة" كمرأة  ثكلى تبكي وتنوح. و(السواد - والبكاء) من لوازم المرأة الثكلى في المآتم.
-      أما المحسنات البديعية فقد ورد في الأبيات جناساً ناقصاً عند استعراض الشاعر للحزن الشديد الذي عم مدينة "مناخة" لتصبح "مناحة" وتجانس" ثاكل، وكاهل" والشاعر لم يقصد به الزينة اللفظية بقدر ما قصد توظيفه لخدمة المعنى الذي أراد إبرازه.
-      إن الشاعر لم يكن بحاجة إلى المبالغة باستخدام محسنات بيانية إضافية لتوضيح الصورة؛ لأن الصورة في حد ذاتها تمثل المأساة في أدق تصويرها وأوضحها، لذلك اكتفى الشاعر باستخدام شكل بسيط وقليل من المحسنات البيانية وبعض الاستعارات
-      وللتكرار وظيفة مهمة في القصيدة إذ يعمل التكرار على الإيقاع الحزين المنسجم مع أجواء القصيدة وموضوعها، وذلك عندما كرر اسم الفقيد "عصام" ثلاث مرات؛ ليخفف من ألمه ووجعه عند ذكر اسمه، كما كرر مفردة "الحياة" أربع مرات في القصيدة؛ لأن الحياة مكمن كل حزن وألم.
-      وكما هو ملاحظ أن كلمة "القلب" وردت ثلاث مرات في القصيدة مما يدل على عمق تأثير هذه الفاجعة على القلوب.
-      كما تكرر الفعل"تركت" ثلاث مرات في القصيدة ولكن بدلالات متعاقبة ففي البيت الحادي عشر الفعل "وتركتني" اتصال الفعل بياء المتكلم دلالة على سيطرة الحدث على فكر الشاعر وعواطفه ووجدانه، ثم ينتقل الترك من الأنا أو الذات الشاعرة إلى الجماعة في الفعل"تركتنا" لتنتقل هذه السيطرة من ذات الشاعر إلى الذات الجماعية، وبعد ذلك تتسع السيطرة إلى فضاء أوسع في الفعل"تركتما" حيث أن فعل الترك أضيف إلى ألف الاثنين  ليمتلك سيطرة أقوى عندما يكون الترك هو رحيل إلفين معا من الحياة. 
-      وقد أحسن الشاعر في التنويع بين الأساليب الخبرية والإنشائية، ووظفها توظيفاً رائعاً بحيث يشعر القارئ بأنه يقرأ قصة تتجدد بتجدد أحداثها، فيندمج فيها بكل أحاسيسه ومشاعره.
"يعد الالتفات لونا آخر من إمكانات التركيب اللغوي، الذي يستغله الشعراء استغلالا محكما في تلوين القناة الأدائية التي يبثون من خلالها خطابهم الشعري "( 5)
"ومفهوم الالتفات عند البلاغيين يعني: الانتقال من ضمير إلى ضمير آخر أو العدول من أسلوب في الكلام إلى أسلوب آخر مخالف للأول"(6)
 ونجد جمالية الانزياح قائمة على الانتقال من حال المخاطب إلى حال الغائب والذي ينقل المتلقي من حال إلى حال فيكسر الرتابة لديه ويبعد الضجر عنه.
-      ومما يلفت الانتباه في هذه الأبيات استهلالها بمطلع" مصرع" في "الأكدار، والأخطار" على عادة الشعراء القدامى حيث التراث الموسيقي الناجم عن تماثل القافية في الشطرين مما يكون له وقع في نفس المتلقي يوقظه ويحفزه لعملية التلقي.
-      وقد اعتمد الشاعر على القافية المطلقة للتخفيف من شدة الألم وجعلها متنفسا لما يجول في صدره ولما تجود به مشاعره من الحزن والتألم ساعد في ذلك حرف الروي "الراء" وهو من الأصوات الملفتة للانتباه في هذا النص فقد تكرر ثلاثين مرة، وهو حرف متردد، فإذا كان الحرف المشدد حرفين بعد فك الإدغام فإن حرف الراء المتردد حرف دون حاجة لفك الإدغام، ولما كان صوت الراء من الأصوات التي تتميز بقدرتها التصويتية العالية فقد اتكأ عليه الشاعر واتخذه وسيلة  ليفجر طاقات نغمية حزينة كبرى، وقد تناسبت القافية الرائية مع الحدث ووافق النص الرثائي "الفاجعة".
-      نظم الشاعر قصيدته على البحر الكامل وهو بحر فيه طواعية للعديد من الأغراض الواضحة الصريحة فهو غني بالإيقاع ويناسب الجانب الوجداني الداخلي البعيد عن السطحية العاطفية، ويجمع بين القوة المبثوثة والرقة المأنوسة، ولهذا كان مناسباً للحزن والحكمة.وقد ابتعد عن الرتابة بما دخله من إضمار وقطع، وعاطفة الشاعر سارت فيه هبوطاً وارتفاعاً، وهذه عاطفة شاعر منكوب في أقرب الناس إليه وأحبهم إلى قلبه ومن الطبيعي أن تنخفض وتيرة عاطفته وترتفع تبعاً لزفرات قلبه الحزين وفؤاده المفجوع، وكأننا نصغي إلى موسيقى الروح وأنينها لا إلى موسيقى القصيدة.
فهذه الرائية تفيض عاطفة وتقطر شجناً وألماً وحزناً من خلال المفردات التي اكتظت في النص الأدبي، والتي تضمنت معاني الحزن والمرارة والحديث عن الألم الذي يكمن في صدر الشاعر.

قائمة المراجع:
1-    حاتم محسن شراح: على مشارف النص، صنعاء، مركز عبادي للدراسات والنشر، ط1، 2011م، صـ 33
2-    إبراهيم أبو طالب: ديوان "تنويعات مسافرة"، صنعاء، مركز عبادي للدراسات والنشر،  ط1،،  2010، صـ59.
3-    المعجم الوسيط: مجمع اللغة العربية، مكتبة الشروق الدولية، ط4، 2004م.
4-    لسان العرب: ابن منظور، دار المعارف.
5-      محمد عبد المطلب: جدلية الإفراد والتركيب، مكتبة الحرية الحديثة،1984، صـ 164.
6-    محمد صلاح زكي أبو حميدة: الخطاب الشعري عند محمود درويش "دراسة أسلوبية"، غزة مكتبة، المقداد، ط1، 2000م.


       



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)