التربية من منظور إسلامي



المراحل العمرية في التربية الإسلامية
د.إبراهيم أبو طالب
      لا شك أن علم نفس التعلم قد قطع أشواطاً كبيرة في مجال التربية الحديثة وطرائقها، وله اسهاماته المتعددة في فهم المراحل العمرية لدى الأطفال بما يتناسب مع احتياجاتهم النفسية ونموهم البدني، وكيف يمكن التوفيق في طرائق التعليم بين النضج العقلي والبدني والنفسي وبين ما يقدم لهم من مواد تعليمية ومقررات تدريسية مناسبة، وتلك الجهود قد بُني بعضها على تراكم الخبرات الإنسانية التطبيقية في هذا المجال من ناحية، وعلى الاستفادة من التراث الأخلاقي التربوي الإنساني من ناحية أخرى.
   وهذا الأمر مشهود في كتب كثيرة، ودراسات متعددة، وسنقف هنا على الجهد التربوي الإسلامي في فهم قضية واحدة تعامل معها تراثنا في معالجته للمراحل العمرية، وهي قضية تقسيم المراحل العمرية إلى ثلاث مراحل؛ عمر كل مرحلة منها سبع سنوات، وقد جاء ذلك التقسيم في أبلغ عبارة وأوجز جملة بما يضع الخطوط العريضة والمهمة في المساق التربوي لمن أراد أن يتمَّ التأملَ ويُنصفَ في الربط، وذلك مبني على خبرات وثقافة دينية إسلامية مستمدة من ديننا الحنيف ومن رسالته العظيمة، هذه العبارة تبين احتياج الأطفال إلى معاملة خاصة مع كل مرحلة عمرية من تلك المراحل الثلاث، ومما هو معروف أن علماء النفس والتربية قد اختلفوا حول تحقيب المراحل العمرية وتزمينها، فمنهم من يقسمها إلى ثلاث مراحل هي: الطفولة، والمراهقة، والشباب، ومنهم من يجعلها أربع: الطفولة المبكرة والطفولة المتأخرة والمراهقة، واليفاعة، ومنهم من يقسمها بحسب السنوات العمرية إلى المرحلة المبكرة (2- 5)، والمتوسطة (5- 8)، والمتأخرة (8- 12 سنة)، ولا يمتد بها أكثر من ذلك وغيرها الكثير من الاجتهادات والتقسيمات التي يمكن العودة إليها في كتب علم نفس النمو.

لكن النظرة التربوية الإسلامية للمراحل العمرية قد قسمتها إلى ثلاثة أقسام شاملة مانعة رائعة واضحة حيثُ قسمتْ المراحل العمرية أثلاثاً، فيكون لكل قسم منها سبع سنوات، وفقاً لما يروى عن السلف الصالح بهذا الشأن في قولهم: "سبع تلاعبه، وسبع تؤدبه، وسبع تصاحبه" وبعض أهل العلم يرى أنه مروي بنص: "لاعب ابنك سبعاً، وأدبه سبعاً، وآخه سبعاً، ثم ألق حبله على غاربه وقد نُسِبَ ذلك الأثر إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما جاء في بعض كتب تربية الأولاد وفي صحة نسبته إليه رضي الله عنه نظر، والله أعلم .
   ولكن هذا القول فيما يبدو – حتى وإن لم تثبتْ نسبته إلى عمر رضي الله عنه-  مأخوذٌ – ولا مشاحة في ذلك- من روح السنة المطهرة والتربية الإسلامية الغراء التي جعلت بداية التكليف وتعليم الأبناء للصلاة مؤشراً مهماً لاستعدادهم التام للتعلُّم، ونضجهم البيّن للتلقي الكامل، فقد جاء في الحديث الشريف عن رسولنا الأعظم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه "علموهم الصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر.." أو ما معناه، وقد أعطى متسعا للتعليم، بعد المرحلة السابقة وهي مرحلة اللعب، ونحن نعلم من دراسات علم النفس أن أفضل طريقة تربوية في تلك المرحلة – مرحلة "سبعٌ تلاعبه..." هي التعليم عن طريق اللعب، حيث يتعلم  الطفل كثيرا من المعلومات والمهارات في العدد، وفي الحروف، وفي الأناشيد، وهو يلعب، وفي تكوين العلاقات الاجتماعية السوية وهو يلعب، وفي بناء شخصيته المتزنة من خلال اللعب، وغيرها، وفيها ما فيها من سبق تربوي يُحسب للرؤية الإسلامية والثقافة الدينية الذكية الموجزة في التعامل مع الطفولة لا قهرَ فيها، ولا كبت، ولكن لعب.
 وحين تأتي مرحلة التأديب، وهذه المرحلة من أهم المراحل في تراثنا الإسلامي ومن معاني التأديب التعليم والتدريس كمفهوم عام يشمل المهارات التعليمية والأخلاقية في ذات الوقت، ومن هنا نفهم قول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: "أدبني ربي فأحسن تأديبي.." -إذا صح الحديث - وقد قال عنه شيخ الإسلام ابن تيميه : (إن معناه صحيح ، ولكن لا يعرف به إسناد ثابت، انظر مجموع فتاوى شيخ الاسلام ابن تيميه 18/375) ونحن هنا يهمنا معناه، وقد كان المعلمون في زمن الدولة الأموية والعباسية يسمون بالمؤدبين، ومنهم: المفضل الضبي (ت 178هـ) مؤدب المهدي بن جعفر المنصور، والأصمعي (ت 216هـ) مؤدب الأمين بن هارون الرشيد وغيرهما.
   ومن هنا نفهم "واضربوهم عليها لعشر..." بعد أن أُعطي الطفل ثلاث سنوات للتعلم وهي كافية، لأن الصلاة عماد الدين وعليها يقوم الأمر كله، فإذا لم يستجبْ لها الطفل، ويتعلمها ويتقنها، ويؤديها في هذه المرحلة من مراحل التكليف والإلزام، فإنه لها ولما سواها سيكون أضيع، وقد تحددت شخصيته وبنيتها الإسلامية، ولذا كان قليلاً من الشدة مطلوبٌ للمتهاون، وليس الضرب المبرح بمعناه الحقيقي، ولكن بمعناه التربوي الذي تحتاجه بعض النفوس لميل فيها، فيغدو ضرورة.
   وأما المرحلة الثالثة فهي مرحلة مهمة وحساسة للغاية في حياة الأطفال إنها مرحلة المراهقة، ولعلها من أخطر المراحل التي تحتاج إلى البوح والتنفيس والرعاية لما يعتري الطفل فيها – ذكراً كان أو أنثى- من تغيرات فيسيولوجية/ جسمية ونفسية لخروجه من طور الطفولة إلى طور الرجولة أو الأنوثة، وهو طور مختلف بلا شك، وهنا ندرك أهمية ما أشارت إليه العبارة السابقة المتميزة من الاحتياج إلى الأبوين أصدقاءً وأخوةً لأبنائهم، فالصداقة والصحبة من أهم الاحتياجات في هذه المرحلة، فعلى الأبوين أن يشاركا الأطفال حياتهما، ويتفهما احتياجات هذه المرحلة، فلا إقصاء ولا  حواجز وهمية مع الأبناء مما يضطرهم حينئذٍ أن يبحثوا عن أصدقاء، ويستعينوا بأصدقاء من الخارج – وهم سيفعلون، ولا مانع من ذلك لأن الطيور على أشكالها تقعُ، وشبه الشيء منجذب إليه وتلك فطرة لا يمكن تجاهلها- ولكن على الأقل، فليكن من هؤلاء الأصدقاء الأبوين أيضاً ليتصرفا عن قرب، ويطلعا عن كثبٍ على حياة أبنائهم دون خوف أو حواجز نفسية أو عقد تراكمية.
   وهكذا ندرك أهمية هذه المقولة التربوية الإسلامية وعمقها، وقدرتها البلاغية على الجمع بين احتياجات الطفولة والتعبير عنها في أبلغ عبارة وأوجز إشارة، مما يدل على عظمة موروثنا وجمال لغتنا، وقد احتوت تلكم العبارة على مدلولات واسعة، وتضمنت علماً كبيرا وجهودا متنوعة لعلماء العالم عبر تاريخ علم النفس والطفولة والنمو الحديث، وتبدو مشاركتنا الإسلامية الجادة حاضرة في التمدين والحضارة، وفي العلوم المختلفة وعلى كل الأصعدة باقتدار وفاعلية تربوية ومنهجية.
وهو منشور على موقع تربيتنا:


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)