مقدمة مجموعة (وتنفس الأقحوان)



مقدمة لمجموعة عائشة المحرابي الشعرية
(وتنفس الأقحوان)
د. إبراهيم أبو طالب
جامعة صنعاء
 15 يناير 2013م
للحداثة عند متابعيها ونقادها حديث طويل، يُغْرقُ بعضه في التنظير والبحث عن خلاصات ذهنية تقعيدية شديدة التركيز في سبيل البحث عن جوهر تلك الحداثة ورسم إستراتيجيتها العليا وبعضه الآخر يظهر في تفاصيل تطبيقية تتوزع في ثنايا نصوص مختلفة شعرية أو سردية والجميع ما بين هذا وذاك يبحثون عن المصطلح المحدد غير المختلط، ويظل بين ثبات نسبي وتجدد يقود إليه تزاحم منابع الحداثة ومصادرها المتنوعة وعدم ثباتها في أيِّ حالٍ وفي أيِّ وقت، كونها متغيراً لا يقبل الثابت ولا ينبغي له لأن في استسلامه نهاية محققة تتناقض وجوهرها، ومن هنا يحاول الكثير من نقاد الحداثة ودارسيها رصد خصائصها المتنوعة وبحسب مقتضياتها الدالة، ولعلَّ من أبرز خصائصها خمس خصائص سنذكرها هنا على سبيل الرصد الموجز والاستدلال المقتضب.
 أولاً: الرؤية، رؤية العالم والحياة، ويرى أحد نقاد الحداثة الكبار وهو الشاعر والأكاديمي المغربي د.محمد بنيس أن منطلق الحداثة هو الواقع والرؤية له، وهما عنصران أساسيان في فهم الواقع والإنسان.
ثانياً: الزمن، وهم منقسم بطبيعته وإمكاناته إلى زمن أفقي عمودي، وزمن دائري قد يكرر نفسه ويعود على ذاته، ولو بعد حين.
ثالثاً: التأكيد على الذات والرمز.
 رابعاً: الغموض، وقد يكون هذا الغموض مقصوداً في إنتاجية القصيدة المعاصرة ونماذجها الأكثر حداثة أو الأحدث.
خامساً: - وأخيراً حتى الآن على الأقل- إدهاشات اللغة وممكناتها من إزاحة، وتكثيف، ومفارقة تقود إلى خلق توليدات تأويلية، وإنتاج للدلالة.
قادني هذا التأمل في خصائص الحداثة وأنا أقرأ في مجموعة شعرية نثرية لعائشة المحرابي ذات الصوت الشعري اليمني النقي في صفائه، الواضح في تدفق مشاعره، إنها تكتبُ بأسلوب تربط فيه بين رؤيتها للعالم والحياة من جهة والتأكيد على تحيق الذات من جهة أخرى، هذه الذات التي تتماهى مع ما حولها تماهياً يكاد يصل إلى الرغبة في التطابق مع غيرها سواء كان القرين/ الحبيب، وهو الموضوع الرئيس والأثير في قصائد المجموعة والذي تدور حوله جُلَّ نصوصها إن لم تكن كُلها، لكنّه الحبُّ الذي قد يكون في إحدى تجلياته حُبَّاً صوفياً من نوع خاص مغرقاً في التوحد بالآخر، أياً كان هذا الآخر زوجاً أو ابناً أو صديقةً، ولأنه حبٌّ صادقٌ يكون فيه قدر من بروز الذات حتى درجة الغرور كما تصفها في إحدى قصائدها، وهي تمازج بين الاسم والصفة في الْتقاء الذات بالحياة وبالآخر.
"عائشة أنا
سوسنةٌ أنا
لحن الحياة
نبضها من دفء إحساسي
وبهاؤها من بريق دموعي
تدور الكواكب حول خاصرتي
ومن فمي تولد  الأمنيات
وتشرق الشمس من غصوني
وفاكهتي"
إنها بلا شكٍّ الذات الأنثوية الخالقة المتشظية في كلِّ شيء والمتعددة لتكوين كلِّ شيء، وهكذا هي الذات الشاعرة القوية والمتجددة في روح الأشياء والأحياء.
ثم هي تعرف حقيقة هذا التماهي والخلق للذوات المحيطة بها حين تقف مع زمنها لمراجعته بين ماضٍ وآتٍ ولحظة فارقة تقف عليها في سؤال الذات للحبِّ ومعه، وهي تدركُ أنّ ما يعتمل في هذه الذات من حُبٍّ لم يعدْ حبَّ طفولةٍ تلهو ولا مُرَاهَقةٍ تبحثُ عن فارس أحلام لأنها قد نضجتْ تماماً، وتحوَّل حبُّ هذه الذات إلى سموٍّ وعلوّ وبحث عن حبٍّ يبلغ مراتب أعلى، ومواطن أعمق، إنه ذلك الحب الصافي الذي كثيراً ما تبحث عنه النفوس المستقرة والخيّرة المتأملة في الآخر وفي الذات:
" أحبك
إحساس لا شيء يبرره
لست طفلة تلهو
ولا مراهقة تبحث عن فارس أحلامها
ولا تصطاد القلوب من شط الهوى
 سيدة أنا
 أوراق الخريف من عمرها تتساقط
وفي آخر الطريق
أول موعد للحب
هل فات الأوان ؟
أهو ميلاد عمر جديد ؟!
أو غيمة محمّلة بالأوهام؟
وروح يواريها الثرى فترتاح"
هو سؤال الحيرة ولكنّه يحمل في ثناياه روح الحياة لذاتٍ متجددةٍ لا كما توهمنا به النهاية "يواريها الثرى لترتاح" لأن الأرواح مكانها السمو لا الثرى ووجودها التجدد المتمثل في الميلاد الجديد من العمر الذي لا يعرف النهاية.
إنَّ تلك الذات –كما قلنا- لا تقبل بسوى صوت التوحد وأن ترى كلَّ شيء فيها وبها حتى حين تتناجى مع الأنا المخاطب/الآخر لا يطالعها سوى أناها هي، وذلك غاية المحبِّ ونتيجته، ألم يقل الحلاج يوماً حين بلغ به تناهي ذلك التماهي بينه وبين من أحب ففهم على غير ما أراد: "ليس في الجبة غير الله"؟!، إنه عمق تماهي الأحبة ومجازية توصيفه في تجاربهم الأرضية، غاية مرادهم توحُّد ذاتين في ذات واحدة.
"خدني إليك يا أنا
الشوق يفتك بي
تعانقني الذكريات
أرى وجهك
أتحسس نبضك
أتنفس أنفاسك
أداعب طيفك
أُلامس شفتك
أضمك بكل ما في القلب من عشق
ومن إحساس
يقرصني الواقع
ويلفني الليل الكئيب بوشاحه
ومخدتي بين أحضاني
تسألني عنك
يا أنا"
أما خاصية الغموض واللغة وإدهاشاتها فإنها واضحة، ولكنها تميل إلى كثير من الوضوح نتيجة وضوح العاطفة، وفي اللغة قدر لا بأس به من مجازية إنتاج الدلالات، وهي تعبِّرُ عن ثقافة الشاعرة بالمدونة الشعرية العربية والاطلاع عليها قديمها وحديثها وكذلك بالموروث الديني والتاريخي يظهر في تناصاتها التي تطرز النصَّ بفسيفساء مشعة –على حد تعبير جوليا كريستيفا في كتابها علم النصِّ- حين تظهر كلمات من قاموس كبار الشعراء أمثال: نزار قباني، وجبران خليل جبران ولكن بدلالات خاصة في تجربة الشاعرة عائشة المحرابي:
"تهمس في أذني فأراني فوق الغيمات
ألبس من سحرك ثوباً يحملني لجناني...
وارسمني خيط دخان عاطر"
وتقول في موضع آخر:
"اعطني النبضَ، وغَنِّ"
ومن الموروث تستثمر جماليات الكلمات المقدسة وإشعاعها الخاص في توظيفها توظيفاً منتجاً "لا تقصُّ رواية حبنا للبحر/ فماؤه متقلب غدار" إنها ﴿لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ هنا توظيف لبحر الحياة وماؤها المتقلب الغدار. ثم تقول في موضع آخر:
 "وكم تكسّر على شواطئه آمال
 ظلمات فوقها ظلمات
آهاتٌ تتلوها آهات
ملوحته دموع العاشقين
ورماله فتات أمنيات"
هكذا توظف الشاعرة تناصها في مدِّ أفق التجربة وتعزيز شعرية قصيدة النثر التي اعتمدتها الشاعرة شكلاً وطريقاً في هذه المجموعة التي تنفتح لغتها على تعدد المعنى، وتتسع بأفقها على الحياة والذات المحلقة في الجمال وبه.
إنه صوت شعري صنع ذاته بهدوء واعتملت داخله كثير من التجارب والقراءات والعواطف لكي ينداح مرة واحدة بهذا القدر من صدق التجربة ونقاء العبارة، وإن كان ما يزال مشوارُ الشعرِ بعيداً، وآفاقُه طويلةً أمام عائشة المحرابي التي نرحب بها في عالم الإبداع، وهي تقدم أوراق اعتمادها الأولى في عالم الشعر بهذه المجموعة النابضة، والتي لا شك أنها بداية القطر الشعري والغيث الذي يتبعه الكثير من الشعر والإصرار عليه.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)