قراءة في مجموعة قصصية نشرت بمجلة أقلام عربية

" زرقاء عدن" عوالم المرأة ولذةُ السرد
*******
د. إبراهيم أبو طالب
" زرقاء عدن" مجموعة قصصية رشيقة البناء، خفيفة الظلّ، عميقة المعنى، لا يملُّ قارئُها عند الاطلاع عليها، فما يكاد يبدأ في قراءة أول سطورها حتى يجد نفسه منغمسًا في لذة السرد وعوالم التخييل التي تلامسُ فيها السَّاردة العالم الخارجي
حتى توهمنا بأن ما نراه مشاهد لشخصياتٍ وأحداث وأماكن نكاد نعرفها، بل ونعيشها وليست سردًا يقدِّم شخصيات وأحداث وزمكان على الورق شأن القص وعوالم السرد، وهذا واضح في لعبة التوهّم والبناء السردي العميق في هذه المجموعة.
"زرقاء عدن" للقاصة والإعلامية لارا نجيب الضراسي الفائزة بالمركز الخامس في جائزة "دبي الثقافية"، والصادرة عن كتاب الرافد العدد (123) لشهر أغسطس 2016م، تنسجم فيها هذه الروح القصصية لساردة متمكنة مع ما تتمتع به القاصَّة من حضور إعلامي مميز عبر ما تقدمه من روح يمنية أصيلة من خلال برامجها التلفزيونية التي تسعى إلى تقديم جمال اليمن وإنسانها المتميز وحكاياته المتعددة من خلال عدد من برامجها التي منها برنامج "اعرف بلدك"، وبرنامج "إطلالتي مع لارا" وغيرها، وحين نمضي في قراءة هذه المجموعة سنقف عند ثلاثة محاور: الأول نتحدث فيه عن قضايا المرأة التي تناولتها المجموعة وكانت مدار اهتمامها، والثاني عن عنوان المجموعة وارتباطها بالمحتوى، والثالث: يتمثل بالوقوف على اللغة والتقنيات.

·      أولاً: قضايا المرأة في الريف والمدينة:
       تدور قصص المجموعة في مدار المرأة وعوالمها المختلفة، بطلاتُها وشخصياتها جميعا من النساء بمعاناتهن وأحزانهنَّ وهمومهن، وبما يفرضه عليهنَّ المجتمع من طقوس حياتية قاسية سواءً في الريف أو في المدينة.
ففي الريف تعالج عدد من القصص موضوعات الحرب، والثأر، وانتظار الأزواج والأبناء الذين أخذتهم الغربة بحثا عن الرزق وتحسين الحال، أو استدعتهم نقمة الحرب ولعنة الثأر وجعلتهم يحبون البنادق ويخلِصُون لها أكثر من إخلاصهم لزوجاتهم وعوائلهم المكلومة حتى إنه لم يبق في القرية سوى طفلٍ واحد (ذكر) لم يبلغ السابعة من عمره، هو "مختار" الذي كذبَ عليه شيخ القبيلة وأعطاه بندقية يجرها جرًّا ليحافظ على نساء القرية ويحميهنَّ، بهذا الوصف تجسِّد الحال: "نساء القرية ينظرن إلى مختار وهو ممسكٌ بحبيبته ويجرّها ذهابا وإيابا، ومن حين إلى آخر يتمتمن: ذهبوا جميعًا منذ سنين وتركوا مختارا، كانت النساء – مثلهن مثل مختار- يعتصرهن الجوع والفقر"(ص12).
       وحين تدخل زبيدة مع مختار في حوار لكي تقنعه بأنه لم يعد هناك أحدٌ من الرجال بسبب الحرب، وأنه لن يحارب أحدا يجيبها مختار بصرامة: "شيخ القبيلة قال لي قبل ذهابه إلى الحرب يجب أن تحمي القرية! هذا واجبي، وأنت امرأة.. لن تفهمي كلام الرجال!" (ص12).
 يعالج الحوار نفسية مختار وحرص زبيدة وصدقها مع هذا الطفل (الأمل) البريء الذي تحمَّل أكثر مما يحتمله الرجال في مجتمع يئد الطفولة في مهدها ويحمّله المجتمع البندقية، ويقوده للعنف والحرب والدفاع عن نساء القرية، وفي هذا رمز واضح لقهر الطفولة في مجتمع يضجُّ بتخلّفه وبحروبه التي لا تنتهي.
والقصة تعبير عن قضية في غاية الأهمية والحيوية في حياة المجتمع اليمني ليس في بقعة محددة من هذا المجتمع، ولكنها ظاهرة عامة وقضية وجودية في مجتمع القبيلة الممتد في عموم اليمن، ونقصد القبيلة في جانبها السلبي وليس القبيلة التي تقوم على العادات الإيجابية والأعراف الحميدة.
القصة تظل مفتوحة في نهايتها على أمل الوعي من الناس، وفي روح هذا الطفل الممثل للمستقبل وفي تعليم المرأة له، وبحبها وهي تحاول إقناعه.
       وفي عالم القرية – أيضا- تصوِّر قصة (في انتظار ..ظل) معاناة المراة التي لا حياة لها بلا رجل، تستهلُّ القصة بهذا المدخل: "علمتني الأيام ونساء القرية أن الحياة بلا رجل تخصم من رصيدي السعادة ..ورشاقة الخطوة، وموسيقى الضحكة، ودوران الأثداء، وشهوة الجسد الممتلئ بالرغبة، كم كنتُ أكره القرية التي تذكرني كلّما مات الضوء فيها أني عانِسَتُها الوحيدة، كل رجال القرية يخافون لبن الذيبة في دمي، يقولون إذا تزوجت سأنجب طفلا نصفه إنسان ونصفه ذئب" (ص27).
هذه القصة تكتنز عوالم السرد بلغة صافية، وتركيز ليس فيه حشو أو ترهل ينفتح على عوالم القرية بأساطيرها بحكاياتها الشعبية بحوارات النساء والرجال فيها بتفكيرهم الخرافي، كما تنفتح أيضا على موروث المثل الشعبي – في بقية أحداثها في قولها عن الفقيه "ليتك يا فقيه رجَّال تربط على الدابّة" وهي بهذا تذكِّر بحكايات القرية وأمثالها الشعبية التي لا ترى في الفقيه رجلا كبقية الناس، بل هو قريب من النساء، ولا يكلَّف من الأعمال الشاقة كالحمل والحرث وغيرها؛ لأنه صاحب عمل محدد يرتبط بالصلاة وقراءة القرآن، ولكنها ضرورية في مجتمع القرية فلكل قرية فقيهها حتى من دون فقه حقيقي.
       هذه المرأة تعبِّر عن حالة مكرّرة من حالات نساء القرية في انتظار الزوج وفي تفسير كثير من ظواهر العنوسة، إضافة إلى معتقدات شعبية تؤمن بها القرية مثل تأخر الحمل لدى بعض النساء وتفسير الحمل لأخرى بأنه سَرقة، وسحر كما في قصة (أم الصبيان) [وأم الصبيان اسم يطلق على الجنيِّة في اليمن]، وقصة (جئت بعار السرقة).
       تعالج القصص بوعي ما يختلط فيه الواقعي بالمتخيل، والشعبي بالاجتماعي حين تصف حالات الجنس في القرية بأنه نوعٌ من الحِيل والخرافات وسط تخلُّف غير مُبرَّر لما يحدث للمرأة من حرمان من الأولاد بسبب معتقدات الرجال الخاطئة وهاجسهم المتكرر عن الخيانة، وعدم صفاء الأنساب.
وفي قصة "ابنة حبَّاش" وهو اسم الجني الذي أحب فاطمة وأعطاها ذريته" (ص39)، وصف لعلاقات الجن بالإنس حين يحبِّلون المرأة، وفيه تسليم بهذا المعتقد حتى تستسلم المرأة له بحكم جهلها واستلابها، وتلك صورة نمطية لمعظم نساء القرية في عوالم هذه المجموعة القصصية المكتنزة التي تضع هذه الخلاصات لاستلاب المرأة واستسلامها.
 ولعل فيها مبالغة في وصف صورة المرأة الضعيفة المستلبة،  فالرجل قوي ظالم في مقابل المرأة الضعيفة السلبية بما يمكن أن يمثّل صورة ثنائية هي صورة الخير والشر المُطْلَقين في بناء بعض القصص وليس الواقع بهذه الصورة ففي نساء القرية صور إيجابية بما غفلت عنها المجموعة لتناولها نماذج معينة من الشخصيات ذات طابع ملحٍّ في تصوّر الكاتبة من زاوية خاصة.
ولا تخلو قصص المجموعة من البعد الرمزي في ملامسة الجانب السياسي، ولكن بحذرٍ واضح، فهي تقدِّم قصصًا ذات بعد اجتماعي في معظمها تعالج الرذيلة، وظلم المجتمع، وقهر الرجل للمرأة، وحال السجينات كما في قصة "فقط" وما تعانيه السجينات الثلاثين اللائي يعشنَ في زنزانة واحدة لا تفرّق بين امرأة كبيرة عجوز وشابة صغيرة دخلت لتوِّها إلى السجن بتهمة الزنا، وسط سخرية الأخريات وتجاربهن الإجرامية، وكيف يعاملهن العسكري، ويتخذ كل ليلة منهنَّ خدينةً، وبحسب الدور.
وفي قصة "جوع" نهاية موجزة تميَّز بها سرد المجموعة كاملة مع لغة توحي أكثر مما تصرّح، وتضع القارئ في قلب الدهشة ولذَّة السرد.
تقدّم المجموعة نماذجَ بشرية ذات بعدٍ محدد من عالم المرأة كالتي يسيطر فيها الأب على ابنته بسبب طمعه وحرصه على ثروته التي لا يريد لها أن تصير إلى زوجها وأبنائها، كما في قصة (لن)، وتستمرُّ قصص المجموعة في موضوعاتها المختلفة في تقديم نماذج نسائية كما في قصة (من يسامح اللؤلؤ) التي تصف فيها حال امرأة راقصة انتهى بها المصير إلى الشلل الكامل، وهي تقدم في هذه القصة نماذج من نساء المدينة بعد أن عالجت قضايا المرأة في الريف.
ولهذا قاربت القصص تلك الموضوعات من زوايا مختلفة لم توغل في التفاصيل بقدر ما كانت تلامس بالإشارة الذكية والسرد من زاوية محددة تلك الموضوعات بمهارة عالية تظهر في عدد من قصص المجموعة التي سبق وقوفنا لديها، وكما في قصص أخرى مثل: "قصة لعنة، وفي انتظار....ظل، وجئت بعار السرقة، وابنة حبَّاش، وأم الصبيان، وقصة وإن فعل"
وهي تلتقط من المجتمع نماذج تعبِّر عن أصوات الناس فيها وحياة الفرد في مدارات سردية لا تخرج عن عالم القصة القصيرة التي وقفتْ نفسها للصوت المفرد بحسب تحديد أوكونور Frank O'connor لها، وصوت الذات المازومة والمهمَّشة، بل صوت اللحظة المدهشة كما يظهر ذلك في قصص: "ملاريا ، والدحباشي، وزرقاء عدن، وتاكسي عدني، وجوع، وفقط، ومن يسامح اللؤلؤ، ولن، وزنوة إنجليزي، وسيناريو، وزنزانة" هذه القصص يجمعها عالم المرأة وفضاءات المدينة، وكيف تقع فيها المرأة ضحية الحاجة، أو ظلم الرجل، أو فهمه الخاطئ لأنوثتها، أو للحظة ضعف أنثوية حين أرادت أن تتذوَّق فقط لذة قُبلة، فكانت النتيجة ملاريا حميدة ستزول بعد تسعة أشهر كما أخبرها الطبيب حين شكتْ له الحُمَّى، كما في قصة "ملاريا" وهي قصة ذات بناء عميق لموضوع مكرَّر، لكنها تكسِبه بسردها روحا مرحة وسخرية عميقة. 

·      ثانيًا: قصة عنوان المجموعة:

أما قصة "زرقاء عدن" وهي القصة التي حملت المجموعة عنوانها، فهي قصة عميقة الدلالة تعالج موضوعا اجتماعيا من موضوعات المدينة حيث يرفض مجتمعها هذه الطفلة بسبب لون عينيها الزرقاوين ولون بشرتها (الخواجية) في مجتمع لون بشرته بلون الشفق أو بلون حرارة الجنوب وسُمْرَته، ووسط هذه العائلة التي تسكن فيها خديجة -أم هذه الطفلة التي لم يسمِّها النص سوى بلون عينيها زرقاء عدن-، تصفها بمعاناة أمها بسببها " تسكن مع أخوات زوجها العوانس، والتي منعها زوجها منذ زواجها قبل خمس سنوات من الخروج من البيت خوفًا من الفتنة، أنجبت الفتنة بكل أساليبها، وجاذبيتها، وشهوتها، ولعنتها.." (ص 22).
هكذا يكون الجمالُ لعنةً في مجتمع ينكره ويتخوف منه، بل ويشكُّ في كل شيء جميل، وهذه القصة لا تخلو من أبعاد رمزية وأخرى تراثية، الرمزية تتمثل في أن عدن ذات البحر الأزرق التي تحمل هذه الطفلة/ المستقبل لونَه وخصائص فتنته وجماله، تقع في معاناة الرفض والشك والألم، وأما أفقها الممتد تراثيا فلا يخفى في تناصِّها المباشر من حيث الاسم، ثم من حيث الحدث الذي ستأتينا به القصة مع زرقاء اليمامة التي تنقذ قومها - كما في قصة المثل المعروف (أبصر من زرقاء اليمامة)- [ ينظر المثل رقم (574) وقصته في كتاب مجمع الأمثال للميداني تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، مطبعة السنة المحمدية، 1955، ج1/ 114] من خطر داهم وبؤس محقَّق، وهذه الطفلة زرقاء عدن كانت لأهلها الذين أنكروها ولا ذنبَ لها سوى أنهم توهَّموا في أمها كلَّ وهم، ومضى الأبُ يشكُّ في كلِّ شخص ممن يعرفهم، وممن لا يعرفهم ابتداء من د.وليم في الهسبتالية، وعمر دراز سائق المشفى الهندي على الرغم من معرفته المتيقنة من أن الأول لم تذهب الزوجة إلى المشفى مطلقا " ثم إنَّ لون عينيه خضراوان" (ص 23)، والثاني الهندي بشرته غارقة في الظلام، ثم يمضي في شكوكه لتنتهي بقرار الطلاق "آه.. وهنا تذكَّر مشتبهًا فيه آخر(...) تعب من الأسئلة التي تتكاثر في رأسه الصغير! وقرر أن يرتاح من المشكلة! طلَّق الزوج المسكون بظنونه خديجة ورماها مع طفلتها في الطريق، تقتات الصدقات المحبّة لجمال (الخواجية) ..(ص 23).
بهذه الصورة ترسم القصة شخصية نسائية أخرى مع امتدادها وهي طفلة أنثى هذه المرة، وليس طفلا ذكرا لكي تمثِّل المعاناة النسائية في حاضرها ومستقبلها كما هو هاجس المجموعة جميعها ومحتواها الذي أوقفت له الساردة موضوعاتها، هذه المعاناة تجعل المرأة ضحية مجتمعها الجاهل المفعم بالمتناقضات والأمراض الاجتماعية والنفسية المتشابكة التي ربما يجمعها جميعًا الجهلُ، وضعف الشخصية، وظنون الشخصية الشرقية المهزوزة والمحافظة بدون وعي أو ثقة.
ومن هنا ندرك أيضا قدرة القاصّة على البناء واستخدام الأطفال في مجموعتها استخداما رمزيا ذكيا يتمثل في هذه الطفلة الزرقاء (الخواجية) وهي ممثلة لقصص المدينة، كما جسَّدت قصة الطفل (مختار) مع بندقيته شخصية أطفال القرية الذين يقعون ضحية مجتمع القرية القبلي بثأره ووأده للطفولة، تماما كما تئد المدينةُ هذه الطفلة برغم جمالها وبراءتها وعفة أمها، ولكن يظلُّ الأمر مفتوحا في نهاية القصة بما ستكون عليه هذه الطفلة من رمز للإنقاذ؛ فهي ذات إعاقة نادرة "تستطيع أن ترى في الظلام، بل في أحلك درجاته، ومع ذلك هي عمياء عند اقتراب الشمس من مدينتها" (ص24).
هذه الزرقاء الرَّائية تتناصّ مع القصة التراثية في هذه النقطة بشكل أكثر وضوحا حيث ستكون سببًا في إنقاذ سكان البُرَيْقَة (حي من أحياء عدن الكبرى) "من الموت تحت أقدام الجِمَال [رمز البداوة والقبيلة] باعتباره حدثًا سنويا أنقذتهم عيون (خوجة) استطاعت أن تدلَّهم على مواقع القوارب الضائعة في الليل البهيم، وتنقذ الأرواح، فهتفت القرية ببركتها، كانت زرقاء (البريقة).. بل زرقاء عدن" (ص24).
وفي الختام يأتي رمز يمزج الحقيقة بالخيال وقصة هذه الطفلة بالأسطورة الحكائية التراثية حين تغيب وتتحوّل إلى رمز مخلِّصٍ منقذ، حيث تخرج مع البحّارة لإنقاذ مركب أبيها، فتكون سببًا في حياته وهي المنبوذة منه ومن المجتمع تكون سببا في حياته وعودة مركبه الضال التائه في عرض البحر، ولكنها تدفع الثمن بموتها.
ولهذا يتمازج الرمز بالواقع في عالم عدن المكان والبحر المليء بالتضحيات وبعوالم البحر وفضاءاته السردية والحياتية المدهشة حين تمثّل عدن بزرقة بحرها التي عبَّرت عنه القاصة في نصها بأنها سبب في الخلاص، وعنوان للنجاة في حين استثمرت الألوان بدلالاتها الواسعة في وجهٍ واحد، وذاتٍ واحدة هي ذات اليمني الموحّد حيث جعلت للون البحر الأزرق في إحدى عيون بطلتها دلالة اكتمال روح عدن وجمال أفقها وبحرها وفي العين الأخرى الخضراء لون الجبال ولون سهول اليمن ووديانها الخضراء، ومن هنا يكتمل المدلول وتتضح الحكاية، فلون عدن الزرقاء ولون صنعاء الخضراء تتواشجان في طبيعة البلد الواحد ومصيره الواحد، وروح إنسانه المتكامل مع طبيعته الساحرة وأرضه الطيبة، ولكن يظل السؤال الذي تفتحه أشرعة القص، هل ستظل هاتان العينان الجميلتان باقيتين أم ستقتلعهما تلك الجنبية كما في هذا الختام المأساوي: "وبعد عشرة أعوام من الغياب عاد صالح، كانت تقف في مكانها الأثير، ظهر أمامها فلم تعرفه، لكنه تعرَّف إليها من خلال عينيها، نظر إليها وكل غضب سنوات الفشل تأكله، أخرج الجنبية واقتلع عينها الزرقاء، تلاه باقتلاع عينها الخضراء، وانفجر الدم على وجهه الهائج وهو يصرخ ابنة جني.. ابنة جني" (ص 40) قصّة "ابنة حبَّاش".


·      ثالثًا: لغة المجموعة وتقنياتها:

من الواضح أن لغة هذه المجموعة لغةٌ سردية قصصية صافية البناء لا توغل في لغة الشعر ولا في عوالم المجازات والاستعارات المتكلَّفة، بل تكتفي بما يمدُّ المعنى من جمال بياني، كما في هذا الوصف: "علَّه يعتذر لجعلها خادمة تقتات من غسل أدران الآخرين، ولكنه لم يفعل قط، حتى في أحلامها لم ياتِ مرةً واحدة لزيارتها، كانت تموت نومًا بعد عبودية يومها الشاق، ويبدو أنه كان أرقَّ من أن يوقظها.. (قصة: وإن فعل. ص 69).
لغة المجموعة فيها قدر كبير من الإيجاز وتكثيف المعنى بحيث إنها تمثِّلُ صفاء النوع السردي للقصة القصيرة ببنائها المختزل ونهاياتها المدهشة ذات المفارقة التي تهتمُّ بلحظة الإدهاش فيها أو ما يسميه نقادها بلحظة التنوير وختام القصة، فهي من أول حرف في بنائها تسير نحو نهايتها بشكلٍ واضح ومتقن، لا تعتمد الإطناب ولا حشو العبارات أو زيادتها غير النافعة بما قد يصيبها من الترهل في البناء أو الإلغاز في المعنى المتخفّي خلف لغة مجازية تقودها إلى تداخل الأنواع أو اضطراب البنية.
وهي بعبارة موجزة قصص قصيرة صافية البناء في تقنيات نسيج حكائي عدني مطرَّز بالدلالات الخاصة التي يلتمّس فيها القارئ روح المكان وآفاق الإنسان ونكهة السرد اليمني الخالص، يجمعها موضوع المرأة بكل تداخلها وتشابك مشكلاتها التي تتحوّل فيها المرأة إلى بطلة وضحية، فاعلة ومستلبة، مؤثرة ومتأثِّرة في جميع القصص.
قد تبدو موضوعاتها مكررة في التناول يسندها تراث واسع من الكتابات القصصية اليمنية النسائية والرجالية على حدٍّ سواء مثل قضايا : الثأر، والحرب، والقبيلة، والغربة، والمهمشين من الأخدام -(قصة زنوة إنجليزي) وبنت زناوي- وطمع الآباء في الميراث فلا يزوجون بناتهم، وقهر الرجال للنساء واستضعافهن، والرذيلة والسقوط ، والسجن وغيرها من الموضوعات التي ظهر الكثير منها في هذه المجموعة الصغيرة إلا أن ما يحسب لها هو طريقة التناول، وزاوية الرؤية، وكيف كتبت الموضوع ،ومن أي زاوية ذكية ولجت إليه فقدمت شريحته المصغّرة في زمكانية محدَّدة تحسب للسرد والنص، للحكاية وخطابها.
ومن هنا تستطيع هذه القراءة القول بكل اطمئنان، وبحسب معطيات النص السردي وإدهاشاته التي بين أيدينا في هذه المجموعة بأن القاصة لارا الضراسي مشروع كاتبة قصة متميزة إذا أخلصت لهذا النوع ومضتْ في هذا الطريق تعطيه كلّ وقتها، وجلَّ قراءتها وجهدها واهتمامها؛ لأنها كاتبة تعرف ماذا تريد؟ وكيف تقدِّم ما تريد من نصوصها السردية، وهذه هي شهادتها الإبداعية تضعها من خلال مجموعتها السردية الأولى، بإضافةٍ محسوبة في مسيرة السرد اليمني وببصمتها الخاصة التي تضاف إلى الكتابة السردية اليمنية ذات التجارب الناضجة، والنكهة اليمنية الخالصة والخاصّة.



رابط العدد 21 ، يوليو 2018م من مجلة أقلام عربية:

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)