9- الدكتور عبد الله المقالح؛ نقيب الأساتذة ومسعِّر حقٍّ لو كان معه رجال


- من هؤلاء تعلمت-
*سيرة ذاتغيرية* 
************
(الحلقة التاسعة، مجلة أقلام عربية، العدد (31)، مايو 2019)
الدكتور عبد الله المقالح
 (نَقيبُ الأساتذةِ، ومُسَعِّرُ حَقٍّ لو كانَ معهُ رجال)

حديثُنا اليومَ عن رجلٍ مختلفٍ في كلِّ شَيءٍ، رجل حينَ تشاهده أو تستمع إليه ينقلُك إلى عالم من الثِّقة والشُّموخ والرجولة والطموح بكل معانيها وآفاقها، يذكِّرني دائمًا بمقولةٍ لأحدِ مشايخ "الحيمة الخارجية" وكان شيخًا جليلًا خبيرًا بالحياة وبالناس،
حين يقارنُ في المواقف بين الناس كان يقول -وبلهجته الصَّارمة البسيطة -"بِهْ رِجَالْ، وبهْ ناسْ!" أي هناكَ رجالٌ وهناك أناسٌ، فالناس كُثرٌ ولكنَّ الرجال قِلِّة، وفي ذلك فَهمٌ عميقٌ منه، وتناصٌّ مع ثقافته القرآنية الممزوجة بخبرته الشعبية، فالله عز وجل يقول: )رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَليهِ...(، ويقول: ")رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ...([الآيات]، فقرن هذه الصفات بالأعمال الكبيرة في الدين، وفي الحياة، ومن هنا فأستاذنا الدكتور عبد الله المقالح أُمَّةٌ من الرِّجالِ، وليس مجرَّد فردٍ من هذه النَّاس، (إن المكارمَ شتَّى لا عدادَ لها..سبحانَ جامعها في ذلك الرجلِ).
سنقفُ عند محطاتٍ من علاقتي به، وهي في نموذجها البسيط مِرآةٌ كاشفةٌ لحياة أخرى مليئة بالدلالات الكبيرة على سيرة أستاذٍ جامعيٍّ متمكِّن، ونقابيٍّ حقوقيٍّ عادلٍ، وإنسانٍ يمنيٍّ أصيلٍ، جمعَ بين صفات القرية بأصالتها وقوَّتها وثوابتها وقيمها وعاداتها النبيلة، وبين رقَّة المدينة وتحضُّرها وجمال روحها، وقرنَ بين ثقافةٍ عربية شرقية راسخة، وتكوينٍ ثقافيٍّ غربيٍّ تشكَّلَ عِلميًّا في أعرق الجامعات الأمريكية وأكبرها، وهي جامعة "إنديانا" التي تخرَّج فيها بشهادة الدكتوراه عام 1988م، وقد فرضتْ عليه الجامعة -ليجتاز برامجها- أن يجيدَ أربع لغاتٍ: غربيتين وشرقيتين، وتلك اللغات هي الإنجليزية، والفرنسية، والعربية، والتركية حتى يتخرَّج بثلاثة تخصصات، تخصص عام ورئيسي: هو الأدب العربي، وتخصصان ثانويان: هما الأدب المقارن، وتاريخ الحضارة الإسلامية، فكان التَّحدي كبيرًا لإتقانها، وإنجاز مهمته العلمية التي ذهبَ من أجلها، ومن هنا يتَّضح مقدار التَّحدِّي الذي يخوضه الأستاذ دومًا في تكوينه، ومن ثَمَّ في عمله، وفي حياته جميعها، فهو خلاصة لهذا التَّحدي المتجدِّد، وهو فاتح لتلك الآفاق، وحتى في طريقةِ شرحه وتدريسه لطلابه.
 ظهر لنا أستاذًا مختلفًا، ففي الفصل الثاني من العام الجامعي1991 - 1992م تلقيتُ على يديه مع زملائي في كُليَّتي التربية والآداب مقررَ (الأدب المقارن)، فكان أسلوبُه مختلفًا لا يقوم على التَّلقين؛ بل ينبني على أحدث أساليب التعليم، وهو التعليم التعاوني بالتشارك والعودة إلى المكتبة، والقراءة، والتلخيص، وأسلوب الشرح في المحاضرة والنقاش، بحيث يُكلَّفُ الطالبُ بالحديث عن جزءٍ من المقرر يرجع فيه إلى أكثر من كتاب، وبذلك يعود الطالبُ إلى المكتبة لزامًا، وكان يقولُ لنا: "انفضوا الترابَ العَالقَ عن الكتب في أرفف المكتبة المركزية ومكتبة كلية الآداب، واستخرجوا العلم من بطونها"، وهنا تتجلَّى شخصيته المتدفقة بالحركة والعطاء والدينامية الفاعلة التي تنعكسُ من روحه الشابَّة الوثابة لشاب طموح في السَّابعة والثلاثين من عمره حين عرفناه، يعلِّمنا الثقةَ بالنفس والوقوفَ أمام الزملاء متحدثين شارحين، فمن أعجبه أسلوبه صاحَ مشجِّعًا: أحسنتَ! وهو على مقعد الطلابِ؛ حيث كان يجلس معهم في آخر القاعة مستمعًا- حتى يتيح المجال لأحدِنا أن يشرح فقرتَهُ من على مقعد الأستاذ.
أذكرُ فيما أذكرُ من محاضراته النافعة أنني قارنتُ بين الأدبِ الفارسي والأدب العربي والآثار المتداخلة بينهما، واتخذتُ من كتاب "الأدب المقارن" للدكتور محمد غنيمي هلال مرجعًا لخَّصتُ منه أهمَّ الأفكار والآراء وشرحتها لزملائي ارتجالًا، في وجود أستاذنا الجالس في آخر القاعة، فما كان منهُ إلا أن وقفَ بعد انتهاء العرض، وقَدِمَ إلى منصَّةِ الدرس، وهو يقول: "ممتاز هذا هو التلخيصُ والشرحُ، أحسنتَ يا إبراهيم!"، كانت لكلماته تلك فعل السِّحر في وجدان طالب متطلِّعٍ، وكان ذلك هو أسلوبه، وتلك هي طريقته في التغذية الراجعة المشجِّعة لطلابه "ومن لَانَتْ كَلمتُه، وَجَبَتْ مَحَبَّتُه"،  ثم أتبعَها بحديثٍ مفيدٍ عن مفرداتِ المقرر، وعناصره وموضوعاته، وتفاصيله العلمية.
أستاذنا الدكتور عبد الله المقالح رجلٌ كثيرٌ كبيرٌ، فهو كثيرٌ بعلاقاته الواسعة وحركته الدؤوبة؛ حيث كانت الجامعة مفتاحًا لعوالمه وآفاقه ومُنطلقًا لهُ، وهو كبيرٌ بهمته وطموحه؛ حيثُ كان رئيسًا لنقابة أعضاء هيئة التدريس في أول انتخابٍ لها بعد الوحدة اليمنية المباركة ممثلًا لجامعتي صنعاء وعدن، وقد خَطَا بها خطوات، بل قُلْ: قَفَزَ بها قفزاتٍ كبرى؛ فقد حقَّق في فترةِ تولِّيه -مع رجالٍ صدقوا معه- ما لم تحقِّقه النقابةُ من قبلُ، ولم تشهدْ له مثيًلا من بعدُ، ومن ذلك إصدار قانون الجامعات اليمنية، وإنجاز الكادر الخاص بأعضاء هيئة التدريس في الجامعات اليمنية؛ ذلك الكادر الذي عادل فيه وضع أعضاء هيئة التدريس بوضع الوزراء في الدولة، مع رفع مرتباتهم وتحسين مستوى معيشتهم، وكانَ يكافحُ من أجل ذلك، ويصارع صراعَ الأبطال الفاتحين، وبهمَّة الرجال المخلصين حتَّى حقَّق لهم ذلك، واستمرَّ ممثلًا للنقابة في مجلس جامعة صنعاء لعشر سنوات تقريبًا يدافع عن حقوقهم الأكاديمية والإنسانية ويرسم استراتيجيات تطوير الجامعة وأدائها، كما عُقِدَ في عهده أول مؤتمر علمي تحت شعار (الجامعة في خدمة المجتمع) قدَّمَ فيه أعضاء هيئة التدريس أبحاثًا علميَّة جادَّة نُشِرتْ في كتاب.
        ومن مقولاته التي تدلُّ على خبرته ومعايشته وفهمه للوضع الاجتماعي والسياسي في اليمن آنَ ذاك أنه كان يقول: "الحقوق في بلادنا تُنتزع انتزاعًا ولا توهبُ هِبةً..." سمعتُها منه أكثرَ من مرةٍ وبصياغات مختلفة حين كنتُ ألقاهُ بين فترةٍ وأخرى بعد تخرُّجي، وهو يسألني ماذا فعلتَ؟ هل تعيَّنتَ في الجامعة مُعيدًا؟ ويرى الإحباطَ باديًا عليَّ، فيقول محفِّزًا: "ثَابرْ ودافعْ عن حقِّك وانتزعه"، إنه محرِّك هِمَمٍ، يمنحكَ طاقةً إيجابيةً عاليةً حين تراهُ أو تستمعُ إلى كلامه.
        أخذتْهُ السِّياسة بعد ذلك بعيدًا، وأخذتْ منه أكثر مما أعطته، وأستأثر به العمل النقابي وحقوق الناس الذين آمن بقضاياهم وسار في نصرة الحقِّ معهم، وفي السَّعي وراء التنوير لهم وبهم، فكان لبلدته "النَّادرة" ومديريته نصيبٌ منه، وكان لأهلها حقٌّ رأوه واجبًا عليه، فنهض تلبيةً له، ومحبةً لهم، فترشَّح لمجلس النُّواب عن دائرته، وفاز بها عن جدارة واستحقاق، وكانَ صوتَ الشَّعبِ في مجلس النوَّاب خَدُومًا لدائرته وأهل مديريته وغيرهم، وكان ضميرَ المثقفِ والأستاذ الجامعي الحصيف، ولهذا فقد كانَ فاعلًا ومؤثِّرًا، حيثُ كان رئيسًا للجنة التعليم العالي والشباب في مجلس النُّواب، وكان الصَّوت الأقوى والمنظِّر الأقدر، وفيها كانت له أعمال تُذْكَرْ، ومواقف لا تُنكر، ومن أهمها بلورة قانون إنشاء صندوق رعاية النشء وإصداره، وقانون كلية الرياضة، وقد كان لهذين القانونين أهمية كبرى في حركة الشَّباب والرياضة في بلادنا، ولأنَّه يَرى أنَّ الشَّبابَ والعلمَ هما عمادُ المستقبل والمخلِّص الحقيقي لليمن من كلِّ كبوةٍ وعثرةٍ فقد دافع دفاعًا كبيرًا وسعى بمقترحاتٍ تنويرية وعلمية ونقابية تحسب له، ولا تصدر إلا عنهُ بروحه الوطنيَّة التي لا تعتريها المناطقية ولا تشوبها الجَهَويَّة بحالٍ من الأحوال، فكان من آرائه التي طرحها في مجلس النُّواب أن يتمَّ توزيع المنَحِ الدراسية على المحافظات جميعها، ويتمُّ التنافس عليها بين أبناء المحافظات بالتساوي بعدما لاحظ أن المحافظات التي كانت تتفرَّد بالمنح هي محافظات بعينها منها: محافظة تعز، وصنعاء، وعدن، وتحرم بقيةُ المحافظات إمَّا للكثافة السكانية أو لعدم الوعي لدى تلك المحافظات وممثِّليها، ولأنَّه يرى أنَّ السَّبيلَ للتطوير والتنمية هو العلم ولا شيء سواه، فكان من نتائج ذلك القرار أن شملت المنح الدراسية المحافظات النائية مثل: مأرب، والجوف، وصعدة، وشبوة، وغيرها .
        هكذا كان يتحرَّكُ الأستاذُ الجامعي بأفقه الإنساني الرَّحب، وبإحساسه بالمسؤولية نحو المجتمع، وبروحه الشابَّة المؤيِّدة للشباب والمهتمَّة بهذه الشَّريحة النوعيَّة الحسَّاسة، فكان أن سعى إلى حقوقهم ودافع عن مطالبهم، فكما كان له دورٌ جوهري في قانون إنشاء صندوق رعاية النشء، وقانون كلية الرياضة -كما ذكرنا- كان له أيضًا دور بارز في مساندة الشَّباب وتعليمهم، فحين كان مستشارًا ثقافيًّا بدولة الإمارات قام بالتعاون مع السَّفير في "أبو ظبي" باستخراج 101منحة دراسية لطلاب وطالبات من أبناء الجالية اليمنية المقيمين في الإمارات خلال فترة عمله هناك، هكذا يكون الغيثُ حيثُ وقعَ نفعَ.
ألم أقل: إنه فاتحُ آفاقٍ ومُسعِّرُ عِلمٍ وحَقٍّ، هذه هي أبرز ملامح شخصية أستاذنا الجميل الجليل ما وقع في أمر إلا أتى بأحسنه، ولا ملأَ مكانًا إلا كانَ جوهرتَهُ المشعَّةَ وروحه النابضة بأخلاق العلماء وهمَّة الخبراء، تحرِّكُهُ ثوابتُه من العدالة والمساواة بين النَّاس، وتدعوه وطنيتُه إلى النظر إلى الجميع بعين المحبة والتوازن والوطنية الصَّافية التي سمت به عن الصغائر، وترفَّعَ هو بها عن الضيق والنقائص، فكان أفقُه الوطن، وسماؤه اليمن، وطموحه العدالة، وغايتُه الحياة الكريمة.
ومن هنا فقد تمثَّلتْ سيرتُه سيرةَ الكبار وسعى في جميع أعماله سعيهم لأنَّه أحد الكبار الذين لا تهدأ لهم نفس ولا يغمض لهم جفنٌ إلا إن حقَّقَ الجميعُ ما يرجونه، ونال الخيرَ كلُّ الناس، اشتغل منذُ بدايات حياته مع الكبار، فكان كبيرًا مثلهم، واجتهد في العمل الحقوقي والنقابي كثيرًا حتَّى أخذه ذلك عن البحثِ والكتابة والنشر لكنه كان ينشرُ أبحاثَه عملًا ويجسِّده إنجازًا يخرج من بطون الورق وأغلفة المجلات إلى واقع الحياة والعمل النِّقابي، كان يقوم بعمل شاق لا يجيده إلا أصحاب الهمم العالية والنفوس الكبيرة التي تتعبُ في مرادِها الأجسادُ. وقد كانت ترقيته إلى أستاذ مشارك في عام 1999م مبادرة من مجلس الجامعة تقديرًا لجهوده في خدمة الجامعة ومنتسبيها.
 ذلك هو أستاذنا الدكتور الكبير المقالح عبد الله كانَ مشروعَ كاتبٍ ومبدعٍ كبيرٍ، ولكن ربما كان النَّقدُ –سواء منه المبالِغُ في الثناء أو المسفُّ في التَّحطيم- سببًا في عزوفِهِ المبكر عن أن يكون شاعرًا كبيرًا، وقد روى لي حادثةً نقديةً كانت سببًا في ذلك العزوف عن مواصلة الإبداع، وربما كان ذلك خيرًا له ليتحوَّل إبداعه إلى عملٍ مُنجَز، وواقع ملموس.
في العام 1997 وفي شهر رمضان تحديدًا كان النقابيُّ الكبيرُ الدكتور عبد الله المقالح قائدًا لعددٍ كبيرٍ بلغ أكثر من (خمسة ومائة رجل) من أعضاء هيئة التدريس بجامعة صنعاء والهيئة المساعدة من المعيدين والموظفين في رحلةٍ إلى بيت اللهِ الحرام برًّا، وفي موكب كبير قوامه خمسة باصات تحرَّكتْ من صنعاءَ إلى مكة المكرمة لأداء فريضة العمرة في آخر شهر رمضان المبارك 1417هـ.
وكم كان لشخصيته القوية، وحضوره الباذخ من أثر ٍكبيرٍ يعلَّمُنا فنَّ القيادة للناس على اختلاف مشاربهم، وأعمارهم، وحاجاتهم، ويظهر فيها حسن التصرف في المواقف، وجمال الروح في التخاطب والتعامل كأنَّه الأب للجميع في قدرة وثقة على الرغم من وجود من هو أكبر منه سِنًّا، ولكن لم تكن القيادة بالسنِّ في يومٍ من الأيام، ولكنَّها بالروح المختلفة والمسئولية المنظَّمة الوقورة، وكان الأخ والصديق للجميع، حقًّا إن السَّفر يسفرُ عن الأخلاق والصِّفات، وكان مُسفِرًا فيه عن إنسان نبيل وجليل، عرفتُهُ في السفر والحضر "فكان أحسن ما في الأحسنِ الشِّيمُ".
إنه قائدٌ منظَّمٌ صاحبُ خلقٍ رفيعٍ وعلمٍ وثقافة، يحترمُه الجميع ويجلُّونه، ولا يخالفون له رأيًا، وهو بصيرٌ بالنَّاس، خبيرٌ بالنفوس، فلم تحدث أيُّ مشكلةٍ، وأنَّى لها؟! وفي الموكب والركب "أبو رَعدٍ" وما كانَ لأحدٍ أن يخالفَه، فبذلك كانت الرحلة الروحية من أجمل الرحلات التي عشتُها وعايشتُها في أول عام تعيَّنتُ فيهِ معيدًا في جامعة صنعاء، ومن قبلِها بأيامٍ كانت النَّقابةُ قد أقامتْ مأدبةَ إفطار رمضاني كبيرة ومتميزة، وكانتْ حينها نقابةً ناهضةً قويةً حيَّةً متلاحمةً لوجود "عبد الله المقالح" على رأسها مع شخصيته القوية وحضوره الرصين الواسع، فقد انتُخِبَ رئيسًا لنقابة هيئة التدريس بجامعتي صنعاء وعدن لثلاث دورات انتخابية متتالية وبالإجماع، وقد حقَّقت النقابة الكثيرَ من نشاطاتها ومطالبها، بل كانت-بشهادةِ الجميع- من أخصبِ فترات النقابة تماسكًا وقوةً وهيبةً وإنجازًا، وكان يا ما كان.
 
يعلمنا أستاذنا المقالح في مواقفه وآرائه الكثيرة معنى الشَّجاعة الحقَّة حين تتجسَّد في الفعل وفي القول، فلم يكن يُدَاهِنُ أو يضعفُ في قولِ الحقِّ والدفاعِ عنه، وربما كانت هذه الصِّفاتُ -التي هي قيمةٌ عُليا في غير زمنِنا المراوغ- هي التي غَمَطَتْ حقَّه في تَسنُّم أعلى المناصب التي كان جديرًا بها، لأنَّه يقول كلمته بكلِّ صدقٍ وشجاعة ومسؤولية ولا يخاف لومة لائم حتَّى أمام رئيس البلاد؛ حين أدهشَ الجميعَ في مصارحته في أول زيارة لرئيس جمهورية لجامعة صنعاء وآخر زيارة، وكذلك كانتْ مواقفُه العامَّة في حياته البرلمانية والاجتماعية، وعلى قدر تلك الشجاعة وقوَّة الشخصية، فإنه ذو خُلُقٍ جَمٍّ، قريبٌ من النَّاسِ ينزلهم منازلهم، ويعطي كلَّ ذي قدرٍ قدره.
أستاذُنا عبد الله المقالحُ سَاردٌ جميلٌ، صاحبُ عبارةٍ مشرقةٍ، وأسلوبٍ حكائي مُتمكِّن، وكان له عمود أسبوعي في صحيفة "إيلاف" اليمنية الأسبوعية، واستمرَّ في كتابته منذ تأسيس الصحيفة في يوليو 2007م حتى توقفت، عام 2014م، وعنوانه (مخازنُ في الذاكرة).
 واختيار كلمة (مخازن) لها أكثر من دلالة سيميائية، تدلُّ على ثقافة الرجل-التي تحدثنا عنها وتجمعُ بين ثقافةٍ شرقيةٍ وأخرى غربيَّة-، فهي أولًا أصلٌ للكلمة الإنجليزية (Magazine) التي صارتْ عَلَمًا للصحيفة العامة غير اليومية أو للمجلة، كما أنها ذاتُ بُعدٍ عربيٍّ ثقافيٍّ تدلُّ على ما للمخازن في الموروث الشعبي والتراث الفصيح من معنى، وبخاصة حين تحتفظ بالقَيِّمِ من الأشياءِ والكنوز، مثل "خزانة الأدب وغيرها، وأما دلالة أنها (في الذاكرة) فقد أعطاها مكانًا أثيرًا ومكانةً، إنه عنوانٌ موفَّقٌ ومكثَّفُ الدلالات، وما كان يحتويه المقال كلَّ أسبوع أكثر إدهاشًا وفائدةً وعمقًا في السياسة، والثقافة، والحياة، وكنتُ أحرصُ على اقتناء الصَّحيفة فقط من أجل ذلك العمود، ومدى إشعاعه في تلك الصحيفة وأثره المهم في القرَّاء.
تلك هي بعض ملامح شخصية الرَّجُلِ وجمالها في مرحلة نضجه وقمَّةِ عطائه الأكاديمي والنقابي والاجتماعي، وقد ظهرت كراماتُهُ القياديَّة وشخصيته التطوعيَّة مبكرًا، فقد كان في فترات شبابه ودراسته الجامعية من أنشط الطلاب، ومن أكثرهم تمثيلًا للإسلام بشكلٍ معتدلٍ وناضج، كان وهو طالب في جامعة "إنديانا" الأمريكية يعمل نائبًا لرئيس المركز الإسلامي، وإمامًا للمركز في مدينة "بلمنجتن" وكان مع بعض زملائه يُقِيمُونَ فعاليةً أسبوعيةً يعرِّفون فيها الزائرين بالإسلام. بل وقد أدارَ لمرَّتين متتاليتين مُنَاظَرةً بينَ عَالمَين مسلمَينِ وراهبين نصرانيَّيَنِ للتعريف بالإسلام، وإظهار عدالته، واعتداله، وسماحته، وجماله.
تحية:

لكَ يا (مَقَالِحُ) في القُلُوبِ مَكَانةٌ

لا شَيءَ يُشبِهُ قَدرَها وعُلاهَا

إِنْ عُدَّتِ الأَخلاقُ كُنتَ عتَادَهَا

أو قِيسَتِ الأَحلامُ كُنتَ سَماهَا

أو قيلَ مَا الهِمَمُ العَليَّةُ والعُلا؟!

مَا كُنتَ إلا رَجعَهَا وصَداهَا

رَجلٌ بِأَلفٍ والمواقفُ صَوتُهُ

والصَّادِقاتُ الثَّابِتَاتُ خُطَاهَا

كَمْ فِي بِلادِي مِن جِبَالٍ شُمَّخٍ

لا تَنْحَنِي إلَّا لِمَنْ سَوَّاها

سَتظَلُّ مِنجَمَ عِزَّةٍ في سَيرِهَا

تَهَبُ الحياةَ لِكلِّ من أحْيَاهَا..
فصلُ الخِطَابِ:
كَتبَ في وداعِ أخيه رثاءً مختلفًا بروح القاصِّ، وأفق الأديب، فقال:
"فرحتُ بكَ عند ولادتكَ، لا أعلم كم كنتُ من العمر حينها لكني أتذكَّرُ جيدًا فرحتي بولادتك، وأتذكر أنني كنت أسميك "النِّيني"حتى كبرتَ أنتَ مع الأيام، فانقلبت التسمية، فصرتَ تستقبلني بعد عودتي من" كُتَّاب" القرية فَرِحًا: "النيني النيني"..كبرتَ ولازمتْكَ الشقاوةُ والتحدِّي، فتعلمتَ السِّباحة، وكنت ماهرًا فيها بشهادة جميع أقرانك في "بيرة اليهود" والبحر" وهما تسميتان لأهمِّ مجمَّعٍ مائي تخلِّفُه الأمطار في "سيل" قرية المقالح..كنتَ عنيدًا ومُتمرِّدًا وخاصةً أمام الدِّراسة والمدرسة، فكنتَ أكثر ما تكره في حياتك هي المدرسة.. ربما كنت تمتلك عالماً خاصًّا بك، تنسج من خلاله مشروع حياتك، لكنني كنتُ شديدًا عليك إلى درجة القسوة، تصوُّرًا منِّي أن التعليم هو الوسيلة الوحيدة للحياة..
واصلت تعليمَكَ بصعوبةٍ، وكنت تبِّرر ذهابك الى المدرسة إرضاء لـ"عبدالله أخي" كما كنت تبوح لبعض أصدقائك.. أدخلتُك كلية الشرطة بصنعاء، ولم يستقر لك حال، درستَ فيها فترةً وغلبَ عليك طابع التمرد، فذهبتَ إلى عدن لتكملَ دراستك في الكلية العسكرية..وهكذا صرتَ بعدها بالنسبةِ لأمِّكَ وجميع إخوتك الوجه الغائب الذي لن يعود خاصةً في ظروف الحرب بين الشمال والجنوب..جاء يوم إعلان الوحدة اليمنية عنوانًا جميلًا للقاء الأم بولدها، والأخ بأخيه، والتقينا بك ونعمنَا واحتفلنا كما احتفل غيرُنا بنعمةِ الوحدةِ التي لمَّت الشَّمل بين جميع أبناء الوطن..تحملت المسؤولية وخدمتَ في صفوف القوات المسلحة، وكنتَ مخلصًا لوطنِك محبوبًا عند زملائك، ورابطت في المناطق النائية من حدود وطنك حتى داهمك المرض الذي كان معكَ قاسيًا، فتكالب عليك من كل جهة وطرف..هو الموت يا أخي مكتوبٌ علينا جميعا..@د.عبد الله المقالح.

* نُشر المقال في العدد -31 من مجلة أقلام عربية، مايو 2019م. رمضان 1440هـ.
على الرابط الآتي:







تعليقات

  1. تحية و تقدير لكلا من كاتب المقال و للدكتور عبدالله كون الشرح كان في قمة البلاغة و الايضاح و الذي اضهر المعدن الاصيل و الشهاده الصادقه من التلميذ لمعلمه...

    ردحذف
    الردود
    1. ولك التحية عرفات صالح
      ودمت بخير أيها النبيل

      حذف
  2. تحية وتقدير لك وللدكتور عبدالله المقاح
    نعم هو رجل والرجال من امثاله قليل

    ردحذف
  3. تحية وتقدير لك وللدكتور عبدالله المقاح
    نعم هو رجل والرجال من امثاله قليل

    ردحذف
  4. تحية وتقدير لك وللدكتور عبدالله المقالح انه من اهم الشخصيات باليمن في الماضي و الحاضر رجل لم اشاهد مثله في هذا الزمان

    ردحذف
    الردود
    1. صدقت يا محمد الجوفي
      وشكرا لتعليقك ومرورك هنا

      حذف
  5. انصفته حقيقة لكما كل الشكر والتقدير والشكر لكليكما تبعثان الامل في ارواحنا ولا يشكرالله من لايشكر الناس
    ما زلت ابحث في وجوه الناس عن بعض الرجال
    عن عصبة يقفون في الازمات كالشم الجبال
    فاذا تحركت الرجال رايت افعال الرجال
    اما اذا سكتوا فانظار لها وق النبال

    ردحذف
    الردود
    1. وأنت تبعث الجمال من حولنا
      د. أشرف الجوفي
      شرَّفت مدونتي بتعليقك وشهادتك!

      حذف
  6. وصف جميل لرجل اجمل
    الاستاذ الدكتور عبدالله المقالح مدرسة بما تحمله الكلمة من معنى. نسخه لا تتكرر.
    نسأل من الله ان يعطيه العافية وطول العمر وان يوفقه هو قدوتنا ومثلنا في كل زمان و مكان.

    ردحذف
    الردود
    1. د. صلاح الجوفي
      شكرا لذوقك ودعواتك لأستاذنا
      ودمت بخير وعافية!

      حذف
  7. هذا الوفاء منك عزيزنا الدكتور إبراهيم منقبة لك ولأستاذنا المقالح معا، خاصة في هذه الحقبة السوداء التي طابعها الإقصاء التام والتجاهل المطبق، لكل من خرج عن مسار تقديس أصنام المرحلة وسياساتهم.
    لك كل التقدير والمحبة ولأستاذنا المقالح كل الإجلال والوفاء، وقد عبرت بلسان كل حر مخلص وفي.

    ردحذف
    الردود
    1. مرحبا بك وبتعليقك د. أحمد الدغشي
      أسعدني مرورك وحضورك
      إن الوفاء سجيّةُ الأحرار..
      دمت جميلا ولك التقدير..

      حذف
  8. التعليق السابق بقلم أحمد الدغشي

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)