13- ما لا يُنسى من الذكريات الجميلة عن اليمن الجميل. بقلم: أ.د/ السيد إبراهيم محمد

- من هؤلاء تعلمت-
*سيرة ذاتغيرية* 
(الحلقة الثالثة عشرة، مجلة أقلام عربية، العدد (35)، سبتمبر 2019م، المحرم 1441هـ.).

في العدد الماضي من مجلة أقلام عربية العدد (34) لشهر أغسطس، وفي هذه الزاوية من سلسلة (من هؤلاء تعلمت، سيرة ذاتغيرية) الحلقة رقم (12) كان الحديث فيها عن (الأستاذ الدكتور السيد إبراهيم محمد؛ مسافرٌ زاده الخيال والحُلم، وناقدٌ عدَّته المنهج والحِلم)، ولقد أسعدني أستاذي الدكتور السيد إبراهيم بهذه الإضافات والتعليقات فتداعت ذاكرته وقلمه السارد بهذه الكلمات الجميلة، وبتلك الذكرى العميقة التي مضى ينشرها على صفحته في الفيسبوك ويشاركني وأصدقاءه بها، فرأينا أن ننشرها هنا لتكتمل بذلك الغاية التفاعلية للمجلة بين الكاتب والمكتوب عنه والقارئ الكريم: فإليكم ما كتبه عبر ثلاثة منشورات حتّى الآن خلال الأيام الماضية؛ حيث قال:

        (1) "بدا لي أن أسجِّلَ - تحيةً لما كتبه الدكتور إبراهيم أبو طالب- شيئًا من ذكريات اليمن السعيد خصوصًا معرفتي بالأستاذ الجميل. طرقتْ الفكرة بالي فوجدتني أعود بالفعل إلى كثير مما لا يُنسى من الذكريات الجميلة.


لم يكن مقررًا في ذلك الفصل الدراسي- ربما كان الفصل الدراسي الثاني- أن أقوم بالتدريس لطلبة قسم اللغة العربية في كلية التربية جامعة صنعاء عندما ذهبت إليها –لأول مرة - للعام الجامعي 87- 1988م.
لم يكن ذلك على خطَّة الجدول الدراسي الذي سلم إليَّ. وكنا جالسين أنا وصديقي العزيز د. شكري الماضي- أين هو يا ترى الآنَ- حيَّاه اللهُ إن كان لم يزل حيا وأطال له في العمر والعافية.
                                             (أ.د/ شكري عزيز الماضي)


لم تكن أحاديثنا تخلو من حوار علمي متصل في مسائل مختلفة من العلم والأدب. وبينا نحن في معمعة الحوار في الحجرة الضيقة المخصَّصة في مركز اللغات لرئيس القسم الذي كنتُ أحاوره.

                                        (أ.د. أحمد نعيم الكراعين)


إذ دخل علينا كهلٌ في الخمسين من العمر تقريبًا عرفنا فيه زميلا من الزملاء المتضلعين في تدريس العلوم العربية كالأدب والنحو وما إليهما، هو الزميل محمد سعيد إسبر، أخو الباحث والشاعر علي أحمد سعيد إسبر المعروف بأدونيس.


 كان متجهم الوجه شاحبًا. عرفنا من سيماه أنه أخذه الإجهاد والتعب؛ ربما لما كان يأخذ به نفسه من الإخلاص في التدريس. وفوجئنا به يعلن رغبته في الاعتذار عن تدريس مادة الأدب العربي لطلبة كلية التربية.
                         (الكتاب الذي كان مقررًا على طلاب كلية التربية بجامعة صنعاء)
وسألناه ما لك؟ فأجاب بأن صحته لم تعد تسمح له بالمواصلة. وعرض عليَّ الصديق د. شكري الماضي أن أحلَّ محلَّه وأن أنهض بجدوله، ولم أشأ أن أخذل الصديق الودود.
 كنت في ذلك الوقت قد انتهيت من تأليف كتابي (الرمز والفن)، فقلت: سألقي إليهم شيئا من فصول الكتاب. وتقدَّمت إليهم وقد عزمتُ على أن أنفِّذ ما كنت قد أعددت نفسي له. ألقيتُ إليهم السَّلام فما كدتُ أجد ردًا، وما هي إلا أن انطلق سيلٌ عاصفٌ من الأسئلة في علوم مختلفة كان أبرزها عندهم النحو الذي لم أذهب إليهم لتدريسه، وكلها أسئلة في غوامض العلم ودهاليزه. ويشاءُ المنانُ أن يمنحني يومئذٍ من قوَّة العارضة وسلامة الذاكرة حتى لم أتوقف عن إجابة سؤال. أنا لا أتوقف وهم لا يتوقفون. طالبًا بعد طالب كأنما أعدوا العدة وتهيأوا من قبل للنزال، كلما استنفد طالب ما في جعبته انبرى آخر. حتى طال الأمرُ وخرج عن مداه. فبدأ بعض الطلاب يتململون ويعلنون عن ضجرهم وتبرمهم بما يصنعه زملاؤهم من إضاعة الوقت وهتفوا يا دكتور: من كان له حاجة في سؤال فليسأله بعيدا عن المحاضرة!.
أما أنا فكنت قد أدركتُ اللعبة. فبدا لي أن أصل بأصحاب التَّحدي إلى الحافَّة. قلتُ لزملائهم مدافعًا عنهم: دعوهم يسألون! فهذه كلها أسئلة في العلم، والعلم كلٌّ لا يتجزأ وبعضه يخدمُ بعضًا. لا تقهروا أحدًا. فما هو إلا أن صمتَ الجميعُ، ولم أعد أجد ﻷحد رغبة في كلام، وإني لأهيب بهم ليخرجوا عن الصمت. كان عددهم في قاعة الدرس كبيرا ربما كان يربو على سبعين طالبًا مشدودين جميعا لما يجري متحفِّزين إلا طالبا واحدا وجدته في آخر صف في القاعة مستندًا على الحائط أمامه أوراق بيضاء يسوِّدها بالنقل من أوراق أخرى. ربما كانت محاضرات بعض زملائه. قلت في نفسي هداك الله يا بني أنت العاقل الوحيد في هذا اليوم الأيوم. وانتهت العاصفة وشرعتُ في الدرس وكان بالفعل مما كتبته عن الحمار الوحشي.
تذكرت حينئذٍ فقط ما كان يدور من أحاديث عن التيار الديني في الجامعة وشدَّتهم مع من يفد إليهم في قاعات الدرس. فقلت في نفسي: لقد أهديتني يا دكتور شكري الهديةَ التي لا تُردُّ. كنت أظنها هدية الأصدقاء أيها الصاحب الذي لا يمل. عفا الله عنك أيها الصديق!.
كنت قد تركتُ لهم من قبلها نسخًا من كتابي في المكتبة ليتسنَّى لهم الحصول عليها. حين رأيتهم سكنوا وتراجعت نزعة التحدي، بل ورأيت اطمئنان أنفسهم قلت: لأضاعفنَّ عليهم البلاء، فحدثتهم عن الأفكار الفلسفية التي تُعدُّ خلفية لتحليلاتي في الكتاب، وأتيت على ذكر (فرويد) وأفكاره المختلفة عن اللاشعور.. الخ. وانشرحَتْ (بفتح الحاء وتسكين التاء)- لفرحتي وسروري ولذهولي أيضًا وتفاجُئي- صدور الطلاب وانبعثت فيهم الأريحية، فانطلقوا يحيطونني بعد انتهاء الدرس، ويسألونني مستبشرين فرحين، وفيهم صديقي العزيز إبراهيم الذي فاجأني بعدها بما يقارب عقدين من الزمان بوجوده في جامعة القاهرة مُنجِزًا رسالته للدكتوراه. أخي الحبيب أبو طالب. أتذكَّر وجهَهُ الآنَ في الوجوه المحبَّة التي أحاطت بي.
وجدتُ وجهًا آخرَ من الوجوه الطلابية عرفت فيه الأخ العاقل الذي دعوت له بالهداية يسألني ضمن الطلاب المحيطين بي. ثم فجأةً يعرضُ عليَّ الكتاب مستنكرًا ما جاء به مما ذكرت من سيرة الحمار، وكيف لا يكف عن ملاحقة الإناث يسوف- أي يتشمم أبوالهن، فتثورغريزته وينطلق صوته بالنُّهاق وهذا هو العطر الأنثوي عنده. وكأن صديقي الطيب ظنَّ أنه مقطع "بورنو حَمِيْرِي" فأراد أن ينبِّه عليه. صاح به زملاؤه الذين كانوا يبحثون منذ ساعة أو يزيد- عن مضيق يلجئون إليه الأستاذَ، ومأزق يدفعونه إليه: إنما هذه حقائق مشاهدة في سيرة الحيوان! ظهر عليه الهدوء والانكسار. كان ذلك قبل أن يبتلى الناس بالبورنو بزمان، وقبل أن يحاصرهم ويلاحقهم حيث كانوا. فالحمد لله الذي ليس لسواه الحمد على مكروه. كنت تعترض على جملة بريئة في كتاب. اليوم ما أنت صانع أيها الصديق القديم. بدا كأنه اقتنع وتحوَّل ليسألني عن "فرويد" وكتبه حتى يمكنه الاطلاع عليها، فذكرت له- وأنا حينئذ في بحر من السعادة للتأثير الحَسَن الذي تركته فيه- ذكرتُ له أهمها وأوصيته بـ"تفسير الأحلام". وجاء رده بما لم يكن يخطر لي على بال: طظ.(طز) هكذا طاء مضمومة ثم ظاء ساكنة مصرية فصيحة كما ينطقها أبناء مصر الفصحاء. ومضى لسبيله ومضيت لسبيلي، عرفتُ فيما بعد أنه كان الزعيم الذي يحرِّك التحديات، ويثير الانفعالات.
كان الطلاب يلقونني في الطرقات ويعلنون عن رغبتهم في معرفة الجامعة التي أعمل بها في مصر ليتسنَّى لهم تسجيل دراساتهم العليا معي. ولم يكونوا يعرفون أنني عن ذلك كلِّه في شئون!
ومرةً وجدتُهم يقفون لتحيتي، وسألني طالب منهم -إذا رجعت إلى مصر ثم عدت- أن أحضر له من ماء النيل لأنَّه يعتقدُ اعتقادا جازما أن فصاحة المصريين إنما ترجع إلى النيل! بل كانوا إذا صادفوني في شارع الجامعة كثيرًا ما يستوقفونني، ولا يتوقفون عن الإلحاح بالسؤال: أين أنت في مصر لنكمل معك المشوار؟.  وللذكريات حديث لا ينتهي"...
                              (مدخل فندق حدَّة في الثمانينيات، حيث استضيف الدكتور السيد إبراهيم) 


(2) "ولقد شاهدتُ من كرمِ أهل اليمن وبرِّهم أني كنتُ أذهب إلى بائع اللحم فيعطيني فوقَ ما أطلبه، وما يقف عنده الميزان ويختار لي أجودَ ما عنده منه وأطيبه ويحاسبني دون ما يحاسب الناس. لقد شاهدتُ ذلك بعيني. جاءه أحد الزبائن فوزن له بمقدار ما طلب وخلط له اللحم بأكثر من ثلثه عظامًا وشغتا، ثم لما جاء وقت الحساب طلب منه أكثر مما طلب مني مرةً ونصفًا في المقدار نفسه من الوزن المسمَّى. طلب منه مائة ريال في الذي أعطيته فيه سبعين، غير ما زاده لي من اللحم وهو ربع المقدار تقريبًا.

ولم أكن في هذا العام الذي نزلت فيه بأرض اليمن أستصحبُ معي زوجةً ولا ولدًا، فكنت أختلف إلى أحد المطاعم في شارع الجامعة فأتغدَّى فيه. كان صاحب المطعم يشرف بنفسه على الطعام، فلا أحدثك عن الكرم الذي كان يستقبلني به!. حتى إذا فرغتُ من طعامي وذهبت إليه؛ حيث يذهب الزبائن لدفع الحساب وجدته أعدَّ لي مكانا بجواره لأتناول الشاي معه ثم يحدثني بأدق التفصيلات عن مصر وأهلها وخصوصًا ما كان بين الأهلي والزمالك في آخر مبارياتهما. وأنا غارق في الحرج لأني لا أعلم كثيرًا مما يعلم.
وكان من عادة أهل اليمن؛ أنك إذا أردت شراء شيء مثلا، فلا بد أن تقيم حوارًا بينك وبين من تطلب منه حاجتك، وأنت ورضاه عنك في هذا الحوار: إما أن تحسن معه الكلام فيرضى عنك، ويتنازل لك عن السلعة بالثمن الذي تراوده عنه أو ينقطع بينكما الحوار.
استوقفتُ سيارة أجرة لتوصيلي إلى مكان أريده وحدَّدت لصاحبها الثمن. قال اركبْ فواللهِ حتى لو ببلاش. ثم لما دار الحوار بيننا ونحن في الطريق قال: أنتم الذين أخرجتمونا من الحُفرة. كان ذلك في خريف 1987. ولم أفهم هذه الحفرة التي أخرجناه منها، فظلَّ يحدثني عن الزعيم، وما كان من أثره في إخراج البلاد من الظلام. كان الكلام بالطبع عن جمال عبد الناصر... قال أحدُ الطلاب لي مرةً معتذرًا عن زملائه وكانوا طلاب كلية الآداب، وكنت قد خرجتُ من عندهم بعد المحاضرة غاضبًا لأن اثنين منهم أخذا يتحدثان في أثناء كلامي: "أنت لا تعرف مكانتك عندهم. هل تعرف ماذا يفعلون في المحاضرات الأخرى. إنهم يجمعون الجراد في أكياس، ثم يطلقونها في المكان حين لا يعجبهم كلام الأستاذ المحاضر. إنهم يعاملونك كأنك أنت الزعيم."!


والله يا صاحبي لقد كان الزعيمُ لي مثلًا أعلى وأنا في سنوات الشباب. انصب كلامه في رءوسنا صبًّا. كنا نحتشد في كل مرة لسماعه ونستعد ونهيئ أنفسنا من أول اليوم لنسمع خطبته في المساء. شغل عقولنا وأمانينا: العبارة التي عمرت رءوسنا من كلامه أن بيننا وبين أوروبا ثلاثمائة عام وأننا سنقطعها في ثلاثين عامًا. العام من أعوامنا بعشرة...طافت برءوسنا الأحلام، وثملنا، وأعددنا أنفسنا لما يقوله الزعيم.....وانصرمتْ الأيامُ، وتثاءب المساء والصباح، وصحونا وبيننا وبينهم ثلاثة آلاف عام !

(3) "عدتُ من اليمن بذخائرَ من الكتب. 
شحنتها معي على الطائرة وأنا أعلمُ أنَّ ذلك سيكلفني فوق ما اشتريتها به من المال بكثير. لكني لم أستطع مفارقة الكتب التي اخترتها على عيني، ولي - مع غير كتاب منها- قصةٌ، وتاريخٌ، وصداقةٌ لا أقدر معها أن أتركها وراء ظهري وأمضي. فمنها كتاب عمارة اليمني "تاريخ اليمن"، وهو الكتاب الذي لفتني إلى ابن القُم شاعر اليمن في القرن السادس الهجري وأطلقوا عليه متنبي اليمن. من شعره الذي مازلت أذكره:
الليلُ يعلم أني لست أرقده ** فلا يغرك من قلبي تجلده
لي في هوادجكم قلبٌ أضنُّ به ** فسلموه وإلا قمتُ أنشده
وبان للناس ما كنا نكتِّمهُ  ** من الهوى وبدا ما كنتُ أجحده!
وعرفتُ ديوانه في مكتبة المتحف البريطاني بلندن، فأرسلت في طلبه، وجمعتُ ما وجدته في الكتب من شعره وضممته إلى ما جاءني منه وقمتُ بواجبات التحقيق العلمي للشعر، ثم أخرجته مع دراسة في كتاب. لكن ابن القم مني بسوء الحظ مرتين: مرة حين جاء إلى بريد صنعاء عقب طلبي له مباشرة، وكان ذلك في أول العام لكني لم أعلم به ولا استلمته إلا صدفة في آخر العام. ومرة أخرى حين أتيح له النشر وأنا في المملكة العربية السعودية، فتولَّى أهل الخير الحيلولة بين الكتاب وبين ظهوره للناس، وظلَّ أنيس أدراجي وأوراقي المختلفة.
ومن هذه الكتب أيضا بعض دواوين للبردوني الذي استدمى قلب المتنبي وأطلع منه الوردة التي قال فيها:
من تلظي لموعه كاد يعمى **  كادَ من شهرة اسمه لا يسمى
يقول: إن المتنبي لمع حتى صار لمعانه يعشي الأبصار لشدة ما يغشى عين الناظر من ناره المتوهجة، فكاد هو نفسه يعمى من ذلك. وأنه اشتهر بلقبه المتنبي حتى نسي الناس اسمه الذي دعاه به أبواه.
ومن هذه الكتب كذلك ديوان الشاعر الثائر محمد محمود الزبيري، وفي صنعاء شارع باسمه كنا نذهب إليه للتسوق وشراء الهدايا. اظل أذكر لأبي الأحرار بيته القائل:
بحثت عن هبة أحبوك يا وطني ** فلم أجد لك إلا قلبي الدامي
   
كذلك ضمت هذه الكتب بعض دواوين المقالح وكتبه. ويظل له في حفظي هذا البيت السائر وفيه بيان ما آل إليه حال الشعر ساعة قاله:
وخرجنا نسيل شعرًا مقفى ** رقصت بهجة عليه الحميرُ
ولم أعرف حمارًا يرقص إلا في هذا البيت. الحمار دائما يا ولداه من عمل إلى عمل ومن مشقة إلى مشقة ولا يجد وقتا للرقص. ربما طمحت نفسه إلى ما يرى أسياده من الخيول يؤدونه أحيانا.
على أيِّ حالٍ فإن للشاعر الوزير كتابًا شيقًا ضمن هذه الكتب يتحدث عن الشعر اليمني، وهو كتابه قراءة في أدب اليمن المعاصر. أضمه إلى كتاب البردوني "رحلة الشعر اليمني قديمه وحديثه". وهما من خير ما قرأت.
هذا غير كتب أخرى لمحمد عبده غانم وما لم أعد أذكره أو يرد إلى ذاكرتي الآن.
حكاية ظلَّت عالقة بذهني مما قرأته في كتاب المقالح الذي أتيت على ذكره. هي حكاية المغنِّي صاحب القيثارة الذي كان يذهب إلى الشاطئ فيغني للبحر، ثم يعود إلى أهل القرية مستبشرا مرحا، فيخترع لهم كل مرة حكاية عن جنيَّات البحر اللائي طلعن له واستمعن لغنائه. في كل مرة يعود فيسألونه عن الجنيات، فيجلس سعيدا، ويخترع لهم الحكايات. جعبته لا تنفد منها الحكايات. وفي مرة ذهب إلى البحر وعلى غير توقع منه ولا خطر له ببال طلعت الجنيات وظهرنَ له واستعرضن أنفسهن أمامه. فرَّ إلى القرية هاربا وحاله حال من يقول: خبئوني خبئوني! أخفوني عن العيون! رآه أهل القرية فسألوه: هل رأيتَ الجنيات؟ فيقول وهو يفر من أمامهم: لا، كلا لم أر قط شيئا! ومضى وهو يطلب من الأرض أن تبتلعه ولا تظهره لمخلوق.
وكلما رأيت شيئًا منكرًا من أمور زماني مما تبديه الأيام ولم يكن في حسابي طاردتني هذه القصة، ومعها صورة الراعي في قصة (أوديب) وهو يفر إلى شعاب الجبال بعد أن رأى بعينه ما لم يكن ليكون من المنكرات كان.
"ما لم يكن ليكون كان"، على حد قول بعض شعرائنا المحدثين، وهو الشاعر حسن طلب.
وأعود إلى كتبي التي جئتُ بها من اليمن. مكتبة عامرة بحوالي ألف كتاب حصلتها على مدار العامين اللذين أقمتهما هناك وضممتها إلى ما سبق مما جلبتُه من أيام الطلب والبحث والتقصي، وما جاء بعدُ مما كنت أتلهف إليه وأتطلَّع أن أجعل مكانه الذاكرة والخيال لا رفوف الخشب. بدَّدتُ كثيرًا من أيامي في الثقة بمن لا يوثق به، فرد ما صنعته النوايا الحسنة له قذفا بالحجارة والطوب. هذا غير ما اضطررت له من تضييع الأوقات في حماية نفسي من عواصف الغبار. وبقي من الأوقات ما بقي مما تقشفت فيه حتى عن الضرورات الملحة.
كنت أظن أني سأعيش ألف عام وأنه لن يندَّ عن اطلاعي حرف من جميع ما اقتنيت واشتريت وبذلت فيه الأموال!".
 = نشر في العدد 35 من مجلة أقلام عربية:
** لتحميل العدد الـ 35 من المجلة، عبر الرابط التالي:
https://drive.google.com/file/d/11wj04F8zuPuIcJETXxUViDIlcGxdum0w/view?usp=drivesdk
 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)