18-الأستاذ الدكتور/ عاطف جودة نصر (ناقد الصوفيِّة الذي لا يحبُّ الأضواء، وقارئ الشعر بنظرية (الهرمنيوطيقا)


**********
- من هؤلاء تعلمتُ-
*سيرة ذاتغيرية*
(الحلقة الثامنة عشرة، مجلة أقلام عربية، العدد (40)، فبراير 2020م، جمادى الآخرة 1441هـ)
@@@

الأستاذ الدكتور/عاطف جودة نصر

(ناقد الصوفيِّة الذي لا يحبُّ الأضواء، وقارئ الشعر بنظرية (الهرمنيوطيقا)

قد يبهرك شخصٌ ما بهيبته، وحسن هندامه، وجلال حضوره وسَمْتِهِ الذي يُشعِرك بالوقار، ويدعوك إلى الاحترام والإدراك بأنك أمام شخصية وقورة ومحترمة، ولكنه إذا تحدث ربما تقلُّ تلك الدهشة، وتتذكر مقولة سقراط: "تكلم حتى أراكَ" أو قول الإمام علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- "الرجالُ صناديق مغلقة، مفاتيحها الكلام"، ولكن حين يرافق ذلك الجلال حسن المقال، وروعة البيان حينها تدركُ بأنك تقف أمام شخصية رصينة تحملُ علمًا غزيرًا، وكلما اقترن ذلك البهاء والمهابة –وبخاصة في تخصص الأدب- بحسن الحديث وعمقه، وإتقان اللغة وإجادتها، كان ذلك أدعى للجمال والجلال، كما أن مجلس العلم وقاعة الدرس حينها تكون ذات جدوى، وفيها حضور حقيقي للعلم، وتقدير لمكانة العالم والمتعلم معًا، وحين يصحب كلَّ ذلك طرحٌ مختلفٌ وجديد، وليس مُعادًا أو مُعارًا أو مَكرورًا، ولم يسبق لكَ المعرفة به ولا بموضوعه؛ حينئذٍ تُدركُ أنك بالفعل في حضرة عالمٍ جليلٍ، ومتخصصٍ حصيفٍ، يليقُ به أن يُحاضِر في قلعةٍ علميةٍ وثقافيةٍ وأكاديميةٍ عريقة، هي معهد البحوث والدراسات العربية، كما أنه يليق بكَ –أيضًا- أن تتلمذ على يده في مرحلة دراسية جديدة، كُلُّ ما فيها يدعو إلى القراءة، والجدِّ، والبحث في زوايا العلم الواسعة، ولو كانت تلك الزوايا في إطار التخصُّصِ الواحد، ولكنَّه يَظهرُ لك في ذات الوقت ويَبِينُ مقدار جهلك بالعلوم المتعددة، وتتمثَّل على الفور قول أبي نواس: "فقل لمن يدعي في العلم فَلسَفةً.. حَفظتَ شيئًا وغابت عنك أشياءُ".

حديثنا اليوم عن أستاذنا الدكتور عاطف جودة جاد نصر (1938- 2015م) رحمه الله وغفر له.
أستاذٌ جليلٌ، وعالمٌ وقورٌ، وباحثٌ مُجيدٌ على قلَّة كُتبه وآثاره المطبوعة لكنها ذات تأثير كبير في الدرس النقدي والأدبي، وفي الدراسات الأكاديمية على وجه الخصوص، تُعدُّ كُتبه مراجع لا غنى للباحثين عنها، وسنعرض لها بعد قليل.
 وقبل ذلك أحدِّثكم عن أوَّل لقاء لي به في مقرر (الشعر العربي الحديث) حيث حضر إلى قاعة الدرس بالمعهد أستاذٌ مهيبٌ يرتدي "بدلة" رسمية في منتهى القيافة والأناقة والتناسق، ويوجد على (الصديري) الذي من لون البدلة وتفصيلها سلسلة مربوط في نهايتها ساعة تذكرك بساعات "البشوات" –جمع باشا-، وما كنَّا نشاهده في المسلسلات المصرية القديمة، ثم يبدأُ حديثه عمَّا سنأخذه في دراستنا معه عن الشعر العربي، ويتحدَّث بمصطلحات لأول مرة تقرع مسامعي من مثل: الأنطولوجيا، والفينومينولوجيا، والهرمنيوطيقا، والسيميولوجيا، ونظرية التأويل، والتفسير، وكمية من المصطلحات الجديدة، وبعض الأسماء الشعرية الغربية وغيرها، ولولا أنني أدرك أنَّ الرجلَ يحدِّثنا عن الشعر والأدب العربي، وأنَّ زملاء الدفعة من الطلاب العرب واليمنيين معي في نفس القاعة لظننتُ أنَّني في قاعة أخرى أو لدى أستاذ متخصص في مجال آخر.
انتهت المحاضرةُ الأولى وأحالنا الأستاذُ –بطلبٍ من الزملاء كالعادة- إلى كتابه الذي يحملُ عنوان "النص الشِّعري ومشكلات التفسير"، وبعدها خرجتُ مع زميلٍ مصري أزهري التكوين والدراسة، كان يعرف دار النشر التي أحالنا إليها الدكتور، وهي الشركة المصرية العالمية للنشر –مكتبة لبنان ناشرون التي يقع أحد منافذ البيع لها في وسط البلد، فذهبنا لنشتري منها الكتاب المقرَّر، وفي الطريق لم يكتم الزميل امتعاضه من تلك المصطلحات وصعوبة نطقها فضلًا عن معناها، ولكنه كان متخوفًا أكثر مما يجب، وتجاذبنا في الطريق أطرافَ الحديث والتعارف الذي كان ثمرةً للقاءات أخرى وتواصلٍ مستمرٍ عبر التلفون حتى بعد أن انتقلتُ إلى جامعة القاهرة فيما بعد دراستي في المعهد، وقد حضر مناقشتي للماجستير 2003م، ولكنه للأسف ربما لم يكمل دراستَه وتوقَّف بعدها لظروفه الخاصة.
قرأنا الكتاب وحضرنا مع أستاذنا المحاضرات المتتابعة التي كانت مفيدةً للغاية، وأدركنا ما يحتويه ذلك الكتاب القيِّم من قضايا على قدر كبير من الأهمية، فبمجرد تجاوز إشكالية المصطلح ومعرفة مفهومه يتضح بعد ذلك عمق القراءة، وتمكُّن أستاذِنا من تحليل النصوص الشعرية القديمة والمترجمة في ذلك الكتاب الذي يطرح مشكلات التأويل في الثقافة العربية والغربية، ويتابعُ تجلياتها في توثيق النصوص، وفي مشكلة اللفظ والمعنى، وفي مناقشة نظرية النَّظْمِ عند عبد القاهر الجرجاني والدائرة الهرمنيوطيقية، ويعالج مناحي التأويل المختلفة من خلال نصوص شعرية، قديمة وحديثة اختارها للكشف عن تعدد المعاني والرؤى في مساقات التأويل.
ومن أهم ما فيه هو أننا أدركنا معنى (الهرمنيوطيقا) التي تدلُّ فيما تدل من معانيها على (نظرية التأويل) وعمليات الفهم، ولهذا ترتكز (الهرمنيوطيقا) على فهم الفهم، ثم عرضها ذلك الكتابُ عرضًا تأصيليًّا ابتداءً من أفلاطون وقوفًا عند أهم المنظرين والنقاد القدامى والمعاصرين وصولًا إلى (جادامر)، وأصل المصطلح ذي الفعل اليوناني "Hermeneuein" ويعني الفعل "يفسر"، وكيف أن الفعل والأصل يتعلقان بـ"هرمس" وهو رسول آلهة الأولمب الرشيق الخُطى الذي كان بحكم وظيفته يتقن لغة الآلهة، ويفهم ما يجول بخاطرها، ثم يترجمُ مقاصدَها، وينقلها للبشر، ويظهر ذلك لدى من اطلع على الإلياذة والأوديسه أن "هرمس" كان ينقل الرسائل من "زيوس" –كبير الآلهة- إلى كلِّ من عداه وبخاصة من جنس الآلهات الأخرى، وينزل بها إلى مستوى البشر، وهو بذلك يعبر المسافة الشاسعة بين تفكير الآلهة وتفكير البشر، بحسب زعمهم، هذا الكلام لم يكن يُعجب صديقي الأزهري بالطبع، وكذلك تبدو علامات التعجب على بقية الزملاء في القاعة، ولكن حين يتجاوز أستاذنا ذلك التأصيل ويقتربُ من مفهوم التفسير الذي ارتضاه في عنوان كتابه لقربه من ثقافتنا العربية ودلالات التفسير المتعددة فيها، ويدخل في معنى الشرح، وهو الاتجاه الثاني لمعنى التأويل في الاستخدام القديم ومعناه (أن تشرح) وهو اتجاه يؤكّد البعد التفسيري للفهم، وليس مجرد التعبير، لأن الكلمات بعد كلِّ شيءٍ لا تقول ما تقوله فحسب، بل تفسِّره، وتشرحه، وتوضِّحه. فقد يعبِّر الإنسانُ عن موقفٍ ما دون شرح. وهنا يكون التعبير في ذاته شكلًا من أشكال التفسير والتأويل.
وتمضي بنا المحاضراتُ في نظرية التأويل وفي اختيار أستاذنا لنصوصٍ من الشعر العربي يقوم ببيان إشكالات التفسير فيها من وجهة نظر عربية، وفي ذلك محاولة لتجديد قراءة شعرنا العربي وفق المناهج الحديثة والنظريات الأدبية المعاصرة. والكتاب مفيد في تلك القراءات، وفيه عمق فلسفي ربما يحتاجه المتخصِّص المتمكِّن أكثر من طالب مرحلة الماجستير المبتدئ، ولكنها هِممُ العلماء من أساتذتنا الذين كانوا يحلِّقون بنا عاليًا لأنهم لا يتنازلون عن المستوى العلمي الذي وصلوا إليه، بل يستثيرون هِمَمَ طلابهم في التطلع لفهمٍ عميقٍ، وهم يحسنون الظن في طلابهم، ولهذا كُنَّا نَجهَدُ كثيرًا في الفهم، ولكن والحق يقال بأن ذلك الجهد وتلك الصعوبة هي ما تبقَّى في الذاكرة، وما خَلَد في الأعماق لأنه لا يبقى إلا ما صاحبه الألم وما خالطه التَّحدّي والإصرار، وتلك طبيعة العقل الذي لا يرضى من الأمور إلا بأعلاها، وإن أوهمك أنَّه يخلدُ للسهلِ أو يستكينُ للمعلومِ، ولكنَّ حقيقتَه أنَّه يطمح للمجهول، ويأنسُ به ويؤنسنُهُ أكثر من المألوف المعروف. فجزى الله أساتذتنا خير الجزاء بما قدموه لنا، وما حرصوا على تنويعه من المعارف والأفكار والاجتهادات التي هي جزء من حياتهم وتكوينهم الثقافي والمعرفي، واشتغالهم العلمي، ومن هنا كان ممّا يحمدُ للمعهد ولمنهجه أنَّ كلَّ أستاذ يقرِّر كتابَهُ ويعطي من علمه وبذلك تتعدد المدارس وتتنوع المعارف بحسب تنوع أساتذتها، ولكل شيخٍ طريقته –كما يقال- ولهذا لم نجد تكرارًا فيما تعلمناه، بل تعدَّدت المشارب والمدارس والطرائق بتنوع أساتذتنا الأجلاء.
بعد أن انتهيتُ من مرحلة الدبلوم والدراسة في المعهد بقي في خاطري واهتمامي أن أطَّلع على كُتبِ أستاذنا الدكتور عاطف جودة نصر اطلاعًا خارج المقرر، فقرأتُ في كتابه المرجعي المهم (الخيال: مفهوماته ووظائفه) وهو من أهم الكتب في بابه وأكثرها إتقانًا وتجويدًا لأنه عمَّقها بالجانب الفلسفي من ناحية، وبالبلاغة والنقد وقواعدهما من ناحية أخرى، ودرس الخيال عند علماء الفلسفة والنفس، حيثُ درس الخيال والإدراك، وعلاقة الخيال بالذاكرة والوهم، ثم أفرد بابًا للمقارنة بين الإشراقية والعرفانية الصوفية، موضحًا كيف كان أصحابها يهتمون بالخيال، ورصد كيف انتقل هذا الاهتمام إلى مباحث البلاغة والنقد في التراث العربي، وما ينطوي عليه الخيال من طاقات الإبداع، وما يتعرض له من التركيب الجدلي للظاهرة، ولمفهومها عند الصوفيين من حيث اتصال الخيال بالوحي وتعبير الرؤى، ثم وقف في الختام عند المشكلات البلاغية والنقدية فيما يتعلق بالخيال ونظرية المحاكاة الأرسطية في تراث الفلسفة الإسلامية، ونظرية الخيال في تراث الدراسات البلاغية والنقدية، والخيال الرومانتيكي بين النظرية والتطبيق، وختم كتابه بالحديث عن الخيال الإبداعي والصورة الشعرية.
ونلاحظ اهتمام أستاذنا بالفلسفة وبالجانب الصوفي في أغلب كتبه وأبحاثه التي منها مثلًا: "شرح مشكلات الفتوحات المكية"، و"أدب السلوك الصوفي في خطاب أبي مسلم الشعري" الذي شارك به في (ندوة الخطاب الديني في شعر أبي مسلم البهلاني الرواحي) في سلطنة عمان في 6 يناير 2003م، أو حتى في كُتبه الأخرى مثل كتاب "أصوات من التراث" الصادر عن دار الكتب والوثائق القومية، 1998م.
 وربما يرجع سبب ما كنَّا نجده لديه –رحمه الله- من عمقٍ في كتاباته وحديثه؛ قد يصل بنا إلى حد الصعوبة في الفهم أحيانًا؛ يرجع ذلك إلى تكوينه الفلسفي والثقافي المتصل بالترجمات من ناحية، وكذلك يحيل على تخصُّصه في مرحلتي الماجستير والدكتوراه من ناحية مقابلة؛ وهما بلا شك من أهم مراحل التكوين العلمي في حياة كلِّ باحث؛ حيث جاء ذلك التكوين وتلك الدراسات مرتبطة بعوالم الصوفية ودراسات التصوُّف بمعناها الفلسفي الموغل في التخصصيَّة؛ حيث كانت رسالته في الدكتوراه التي نشرها في كتابه (الرمز الشِّعري عند الصُّوفية)؛ وقد حصل بها على مرتبة الشرف الأولى في قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب، جامعة عين شمس عام 1977م؛ وطبع الكتاب في العام التالي عن دار الأندلس ببيروت.

 وهو من الكتب الرصينة والمرجعية في دراسة الرمز بشكل عام وفي دراسة شعر الصوفية بشكل خاص، راصدًا الظاهرة من خلال أولئك الشعراء الذين اتخذوا الرمز عالما مَوَّارا في أغراضهم ولغتهم على حدٍّ سواء بما حملوه من دلالات لا تنتهي إلا لتبدأ على معاني مختلفة ومتوالدة وجديدة، ومن هذا الباب كان كتابه محاولة علمية رصينة تناول في الباب الأول مستويات الرمز، في ثلاثة فصول هي: الرمز الأسطوري، ورمزية اللغة، والرمز الشعري، وفي الباب الثاني تحدث عن الرموز الشعرية التي انتظمت في رمز المرأة، ورمز الطبيعة، ورمز الخمر، وكان الباب الثالث تتمة للرموز التي تمثَّلت في رموز الأعداد والحروف، والرموز المسيحية مبينًا موقف العرفانية من اللاهوت المسيحي، وقد أكَّد على أنَّ رمزية الشعر الصوفي ذات طابع عِرفاني، وهي من هذه الوجهة رمزية عرفانية لا يتأتَّى معها عزل التعبير الشعري عن مقوِّمات التجربة الصوفية، لأنهما في نهاية الأمر يحيلان على تضايف بين البناء الشعري في رمزيته الوقائية، وبين التَّصوُّف بوصفه علاقة دينامية حيَّة بين الإلهي والإنساني.
وكانت تلك الرسالة امتدادًا لانشغال أستاذنا بموضوع الشِّعر الصوفي من خلال كتابه المهم الذي نشره بعنوان (شعر عُمر بن الفارض؛ دراسة في فنِّ الشِّعر الصُّوفي) وهو في أصله رسالة الماجستير التي كانت موسومة بـ(الخصائص الفنية والصوفية في شعر ابن الفارض)، وقد دافع عنها عام 1972م في جامعة عين شمس، في قسم اللغة العربية وآدابها القسم الذي أصبح بعد سنوات رئيسًا له، وفي كتابه المذكور هذا يؤكِّد على ثنائية الخصومة والجدل في شخصية ابن الفارض نفسِه الذي بدا واضحًا في شعره، حين يقررُ أنه لا تفتأ الخصومة التي تثيرها الشخصية، والجدل الذي تنمِّيه بضروب نشاطها دليلًا على تناميها ونُضجها. وهكذا كان الجدلُ الذي أثاره شعر (ابن الفارض) دليلًا على نمو شخصيته وامتدادها في صميم الروح الإسلامية. وشعر ابن الفارض الذي تناوله الكتابُ جاء نتاجًا مكتملَ التكوين من الناحيتين الفنية والصوفية حتى لقد عدَّه بعض الدارسين أستاذ الفن الصوفي في الشِّعر العربي.
"قلْبي يُحدّثُني بأنّكَ مُتلِفي.. روحي فداكَ عرفتَ أمْ لمْ تعرفِ
لم أقضِ حقَّ هَوَاكَ إن كُنتُ الذي.. لم أقضِ فيهِ أسىً، ومِثلي مَن يَفي
ما لي سِوى روحي، وباذِلُ نفسِهِ، في حبِّ منْ يهواهُ ليسَ بمسرفِ
فَلَئنْ رَضيتَ بها، فقد أسْعَفْتَني؛   يا خيبة َ المسعى إذا لمْ تُسعِفِ..."
  تُرى هل تخصص أستاذنا في الصوفية وعوالمها؛ على الرغم من حاله الظاهرة بعدم التصوف –بلا شك-، هل تراها كانت سببًا في ذلك العُزوف عن المناصب، وعن الظهور الإعلامي الذي كان يتمتعُ به أساتذة أخرون، بل ويسعون إليه سعيا؛ وهم ربما لم يكونوا أكثر منه معرفةً، ولكنهم أكثر منه قدرةً على تسويق أنفسهم، وعلى الحضور الإعلامي الذي ساعدهم على الانتشار والظهور بشكل ملفتٍ، وغاب هو بشكل واضح، وهذا يقودنا إلى سؤال مهم ربما ينسحبُ على الكثير من علمائنا وأساتذتنا على امتداد الوطن العربي، وعلى اليمن بشكل خاص، هل الإخلاص للبحث والتركيز على العلم وحده لا يُعطي العالم حقَّه من الظهور الذي يناله من هم أقل علمًا، ومعرفةً واجتهادًا؟، وهل يؤثر التخصص تأثيرًا لا شعوريًّا في وجدان صاحبه حتى وإن اقترب منه لأغراض علميَّة محضة؟. ربما يكون كذلك، ولكن أستاذنا عاطف جودة نصر كان أستاذًا وعالمًا بكل ما تعنيه الكلمة، كما أنَّه كان كاتبًا قديرًا، وشاعرًا، وباحثًا مدقِّقًا لا يسع من يقرأُ كتبه إلا أن يحمدَ له تلك الروح العلمية الرصينة، وذلك الأسلوب المتمكّن، والجهد الأكاديمي الذي يشكِّل علامة واضحة وفارقة تدلُّ على جيلٍ من العلماءِ كان من التَّمكُّن بمكان، ومن الأستاذية بمكانة.
*(تحية)*:
مع العلمِ يحيا في جَلالٍ يُصاحِبُهْ.. يُسائِلهُ طورًا وطورًا يخاطبُه
وكم يَرفع العِلمُ المنيرُ مقاصدًا.. سَمَتْ في خُطَى الإخلاصِ نورًا مَراتبُه
وكم يَطرد الجِدُّ النقيُّ شَوائبًا.. عَن النَّفسِ تَصفُو في المعالي مَشَارِبُه
وقد يَزهدُ الإنسانُ عَن كُلِّ غايةٍ.. سوى العلمِ تَعلُو في النُّفوسِ مَطالبُه
فإن لم يكن في طالبِ العِلمِ ِهِمَّةٌ.. فيا خَيبَةَ المسعَى إذا خَابَ طالبُه
**(فصلُ الخِطَابِ)**:
"تعدُّ الصورةُ في الشِّعرِ تحققًا جوهريًّا للخيال وهو يمارس إبداعه في حرية منعزلة عن مقولات العلل الكافية، ولن ينجو قُراء الشعر من سوء الفهم وسطحية التلقي ما لم يضعوا في الاعتبار أن الصورة ليست كما تظن الفلسفة الماديّة نسخةً يتدهور فيها الأصل المدرك ويتحلل، وأنها ليست بالنسبة للواقع الخارجي كيانًا سلبيًّا لاحقًا، أو مجرد انطباعات تفسر بالإحالة على ترابطية ساذجة، وذلك أن الصورة الشعرية لا تُردُّ إلى معيار خارجي ثابت، وإنما تتأمل بنوع من المباطنة، لأنها ذات كيان نفسي ينفتح صوب الوجود..."#د.عاطف_جودة_نصر (كتاب الخيال: مفهوماته ووظائفه).
 

 

* نُشر المقال في العدد -40 من مجلة أقلام عربية، فبراير 2020م. جمادى الآخرة 1441هـ.
على الرابط الآتي:


تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)