21- الأستاذ الدكتور أحمد علي مرسي (رائد الدراسات الميدانية الشَّعبية في الجامعات المصرية، ومستشار الدبلوماسية الشَّعبية)


#من_هؤلاء_تعلمتُ

#سيرة_ذاتغيرية
(الحلقة الحادية والعشرون، مجلة أقلام عربية، العدد (43)، مايو 2020م، رمضان 1441هـ.)
الأستاذ الدكتور أحمد علي مرسي (رائد الدراسات الميدانية الشَّعبية في الجامعات المصرية، ومستشار الدبلوماسية الشَّعبية)
************
عندما يَجدُ الأدبُ الشَّعبي من يعتني به، وينافحُ عنه، ويحترمُه، ويقدِّمه للنَّاس بما يليقُ به، ويدرك معناه الحقيقي وروحه العلمية، والثقافية، والإنسانية بفهمٍ عميقٍ واستيعابٍ دقيقٍ، وحبٍّ كاملٍ يصل إلى حدِّ اليقين بأهميته وفحواه، وتجدُّده وجدواه في الحياة، ويصل به في الدرس العلمي إلى تحويله إلى مادة قَيِّمة محترمَة لا يُنتقَص من شأنها، ولا يُنظر إليها بنظرةٍ دونيّةٍ أو بعينٍ ناقصة، أو يُقالُ عن الأدب الشَّعبي إنه مما لا يرتقي إلى مستوى الخاصَّة أو الطبقة العُليا من المتعلِّمين والمجتمع أو أنه مضادٌّ للسان العربي الفصيح أو يعتقد أنه ينزلُ بالدَّارس أو المؤلف أو الكاتب إلى مستوى العامَّة من النَّاس، وأنه مما لا يستحقُّ الدَّرسَ تَرفُّعًا وادِّعاءً بأنَّ ذلك قد يُقلِّل من شأن المهتمِّ باللغة الفصيحة أو مكانته أو مستواه العلمي أو الطَّبقي الذي يسعى إليه، عندما يجدُ الأدب الشَّعبي مثل هذا الرجل، فإنه يغيِّر مفهوم كثير من الناس –الذين لم يستوعبوا بعد- عن معنى الفلكلور والأدب الشَّعبي الذي فَطِنَ إليه العربي منذ أقدم العصور، واعتنى به الإنسان الشَّعبي فحفظه وتداوله، وظلَّ حيًّا في وجدانه، وفي ضَميره الجمعيّ عبر العصور، واستطاع ذلك الأدبُ أن يعيش –رغم كل ظروف الإقصاء والتَّجاهل والانتقاص- في كل تفاصيل حياتنا اليومية لغةً وفكرًا وعادةً وتقليدًا، بل وممارسةً نجدُها في أغلب تفاصيل حياتنا، وكلماتنا، وتصرفاتنا، بل وتفكيرنا في أحيان كثيرة.

كما فَطِنَ إليه واهتمَّ به الغَربيُّ وأدرك معناه وجدواه على الرغم من أنَّ عُمر الأدب الغربي أقصر عُمرًا من أدبنا العربي، وأقلّ مدونةً من مدونتنا العربية الشَّعبية، ومأثوراته لا تساوي مأثوراتنا على الإطلاق؛ لكن الغربي اهتمَّ به من وقت مبكر، وأنشأ له المعاهد والمتاحف والمراكز لدراسته واقتنائه وتصنيفه وتدوينه.
أقولُ حينَ يجدُ الأدبُ الشَّعبي مثلَ هذا الرجل فإنه يجد أُمةً من الرجال، وعَالمًا من الهمَّة التي لا تَفتُر، ومن النُّور الذي لا يخبو، ومن العزيمة التي لا تلينُ، رجلٌ بألفِ رجل، ما إن تَستمع إليه وتدرك ثقافته الواسعة، ومعرفته باللغة –العربية والأجنبية- واستيعابه للتاريخ وفهمه للأدب وامتلاكه للقيم العالية، وتجسيده للروح الشَّعبية العريقة الأصيلة إلا وتحترم مسعاه، ويجعلك تُدركُ أنَّ اللهَ يقيِّضُ لكلِّ أمرٍ جنودًا، ولكلِّ عِلمٍ علماء، ولكلِّ حقلٍ معرفي رجالًا صادقين، وباحثين مخلصين.
حديثُنا اليوم عن أستاذ كبير وباحث قدير ورجل شعبي أصيل، يحملُ روحَ مصر وجمالها، وصدق علمائها وإتقانهم، ويحمل قيم ابن البلد الأصيل الصَّادق، وطبيعة إنسانها المدني الأنيق، وصفاء جوهره البسيط الرفيع، إنه أستاذ كرسي الأدب الشَّعبي بجامعة القاهرة الأستاذ الدكتور أحمد علي مرسي (المولود في 1 يناير 1944م، بكفر الشَّيخ)، وارثُ الكبارِ من أعلام مصر أمثال أمين الخولي، وعبد الحميد يونس في الأدب الشَّعبي، وطه حسين، وسهير القلماوي، وشوقي ضيف، وشكري عياد، وأضرابهم في الأدب العربي عمومًا، وأحدُ أقطابِ قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة، وكان الرئيس رقم (11) لقسم اللغة العربية وآدابها منذ خمسينيات القرن الماضي ممن تولَّى رئاسته حتى اليوم، ضمن  كوكبة من أعلام مصر وأدبائها ونقادها الكبار، وهم على النحو الآتي -مع حفظ الألقاب-:(خليل يحيي نامي، سهير القلماوي، عبد الحميد يونس، شوقي ضيف، شكري عياد، حسين نصار، يوسف خليف، محمود مكي، عبد المحسن طه بدر، جابر عصفور، أحمد مرسي، عبد المنعم تليمة، محمود حجازي، سيد البحراوي، أحمد عبد العزيز، مي يوسف خليف، عوض الغباري، أشرف دعدور، خيري دومة).  
  وكانَ أستاذُنا أوَّلَ من أدخلَ الدِّراسات الميدانية في حقل الأدب الشَّعبي برسالته المبكِّرة في العام 1966م، حين بدأ بالنزول الميداني لجمع الأدب الشَّعبي من أفواه النَّاس، ودَرَسَ الأغنية الشَّعبية تحديدًا في منطقة البرلُّس بمحافظة كفر الشَّيخ.
رجلٌ منظَّمٌ بكلِّ المقاييس، ومنه يتعلَّم طلابُه النِّظام والحرص على الوقت وأهميته، فالزمن -بالنسبة إليه- عنصرٌ مهمٌّ في رسم إنجازاته ومسيرته العلمية والأكاديمية، وليس أدلَّ على ذلك من التأمُّل في سيرته الذاتية وتواريخ إنجازاته العلمية والعملية، حيثُ تخرَّج في قسم اللغة العربية في العام 1963م، بمرتبة الشَّرف، ثم أنجر رسالته للماجستير في العام 1966 بعد ثلاث سنوات من تسجيلها، وبعد ثلاثٍ أخرى أنجز رسالته للدكتوراه عام 1969م، على الرغم من أن دراساته في الأطروحتين دراسات ميدانية، يجمع مادَّته من أفواه النَّاس بما يُصاحبُها من صعوبة وعناء ومشقة في التعامل مع أطياف كثيرة من البشر، وخصوصية الأخذ عن عيِّنات محدَّدة منهم، تمامًا كما كان يفعلُ العلماء العرب قديمًا أمثال الأصمعي، وأبي عمرو بن العلاء، والخليل بن أحمد، والنَّضر بن شُميل وأقرانهم، بكلِّ أمانة علمية، وانضباط منهجي، ثم يحرص على تحويل الشفهيّ إلى كتابيّ محافظًا على خصوصيته دون تفصيح أو تدخُّل قد يشوِّهه أو يلوي عنق المروي والراوي/ (الكلمة) و(المتكلم) معًا، بل ينقله بكل أمانة وشفافيّة وشفاهيّة، موظفًا الهامش لكلِّ ما يستحقُ التوضيح أو الشرح أو التفسير، وكأنَّ القارئ يسمعُ ما نَطَقَ به الراوي أو صاحب الأصل ويراه رأي العين. وبذلك اختطَّ لنفسه وللدراسة الجامعية الأكاديمية في الأدب الشَّعبي مدرسةً خاصةً به، وطريقًا انتهجَهُ هو –أولًا- ومن بعده طلابه –ثانيًا- الذين سلكوا مَسلَكه بإشرافه وتوجيهه، ونزلوا إلى الميدان بتشجيعٍ منه ورعاية، وأنجزوا عشرات الدراسات -إن لم نقل مئات الأطروحات- للماجستير والدكتوراه، واستكملوا مشروعَهُ العملاق، وما زالوا، حتى شكَّلوا ظاهرةً واضحةً، ومدرسةً تُعرفُ به، ويفخرون بالانتماء إليها، والانتساب إليه إشرافًا ومَنهجًا، إضافةً إلى جهود أخرى -لا تُنكَر- لأساتذة أجلاء وباحثين أَكْفَاء جمعوا ودَرَسوا الأدب الشَّعبي في عموم مناطق مصر، وقُراها.
وكما كان مُنظَّمًا في إنجاز دراساته فهو كذلك منظَّمٌ في ترقياته العلمية، فما تكاد تنتهي المدة القانونيِّة حتى يكون قد أنجز أبحاثَه، وحصل على ترقياته أستاذًا مساعدًا (مشاركًا) عام 1975م، ثم أستاذًا في العام 1981م. هذا إضافة إلى أبحاثه الكثيرة والدائمة في الدوريات والمجلات العلمية المختلفة التي كان من أبرزها مجلة الفنون الشَّعبية الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب التي أعاد إحياءها بعد توقفها، وظل يبعثُ فيها الروح والتجدُّد طيلة رئاسته لها وما زال.
تَشرفتُ بإشرافه على رسالتي للماجستير (الموروثات الشَّعبية القصصية في الرواية اليمنية) مشاركًا مع أستاذي القدير د. عبد المنعم تليمة –رحمه الله-.

 وممَّا تعلمتُ منه في طريقة إشرافه وأسلوبه –وقد أكَّدها يوم المناقشة- هو مقدار الحرية التي يتركُها للطالب، ويجعله مسؤولًا عن آرائه وطريقته ومفاهيمه، ولكن شريطة أن يُتقنَ ويقدِّم الحُجج والدِّفاعات اللازمة، ومما قاله بالنَّص يوم المناقشة ،وما يزال مَحفُورًا في الذَّاكرة: "نحن لم نتدخَّل على الإطلاق إلا في الإشراف والتأكُّد من أنَّ الطَّالبَ يَرُودُ الطريقَ مُسلَّحًا بما خَبِرَهُ، وبما استطاع أن يصل إليه من معرفةٍ ومن علمٍ... وفيما يخصُّني أنا، لم أضغط على إبراهيم في تغيير مصطلح (الموروثات الشَّعبية) إلى (المأثورات الشَّعبية) التي استخدمها، وأراه يختلف عني، وكان مجرَّد الإشارة من مشرف إلى طالبٍ كفيلة بذلك، لكنَّنا في قسم اللغة العربية نحترمُ طلابنا، ونجعلهم يحترمون أنفسَهم واختياراتهم، ولا نريد من طلابنا أن يكونوا نُسخًا مكرَّرةً منا...".
هذا ما قاله أستاذي في المناقشة، ومما يقوله لطلابه- وقد حضرتُ له أوَّل محاضرة في بداية فصلٍ دراسي يُلقيها على طلاب البكالوريوس في مدرَّج ٍكبيرٍ يضمُّ المئات من الطُّلاب والطَّالبات في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة القاهرة-قال لهم معادلةً وَرِثَها عن أساتذته، ويورِّثُها لهم: وهي أنَّ (أ= ط + ز)، ومعناها وفكُّ رموزها الذي فهمتُه من هذه المعادة وتعلمتُه أنَّ الأستاذ هو حاصل جمع الطالب زائد الزَّمن، وعلى الطالب أن يكون إضافةً لأستاذه وامتدادًا له، لا أن يتوقَّف عند ما قدَّمه أستاذُه، ليحقق التقدُّم في العلم، والتواصل بين الأجيال، وهذا شرطٌ لا مناصَ منه، ولا محيصَ عنه، ولا كرامةَ لمن لم يُضِفْ أو يأتِ بجديد يُحرِّكُ عَجلة الدَّرس العلمي والأكاديمي خطوةً إلى الأمام؛ لأنَّ من شَرطِ العلم اللازم، ومن طبعه اللازب الإضافةَ والتراكم.
 ومما تعلَّمتُ منه في تلك المحاضرة ذلك الحضور الوَدود مع طلابه في القاعة، وجمال الأسلوب في خِطَابه لهم، ومقدار الديمقراطية معهم في اختيار الكتاب المقرَّر، حيثُ طلب إليهم أن يقرؤوا في أيِّ كتاب في الأدب الشَّعبي يحقِّق مفردات المقرر وأهدافه، وعلى الرغم من أنَّ كتبَهُ القيمةَ ودراساتِه الكثيرةَ تملأ السَّمعَ والبصر، وتزخر بها المطابع ودور النشر؛ لكنه لم يطلب منهم أن يقتنوا أيًّا منها، بل أحالهم إلى كتاب "فنون الأدب الشَّعبي" لأحمد رشدي صالح، وإلى كُتُب د. عبد الحميد يونس وغيرهم.
حينَ انتهت المحاضرة اصطحبته، وفي طريقه إلى مكتبه في قسم اللغة العربية كم استوقفنا من الطلاب والأساتذة مُسلِّمين ومحبِّين، وقال لي حين طلبتُ منه أن يوجِّهَني إلى أيِّ شيء أو مرجع حتى أبدأ في أطروحتي، فقال: "اذهب يا إبراهيم، واشتغل، وتوكَّل على الله، أنت أدرى بموضوعك، وأقرب إليه".
زرتُه ذات مرةٍ في العام 2003م، وهو رئيس الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية لتوقيعٍ يخصُّ رسالتي عند إنجازها، وكان ذلك قُبيلَ مناقشتها، فتعلَّمتُ منه درسًا عظيمًا في الأخلاقِ ومكانة الأكاديمي حينَ يتولَّى مَنصِبًا كبيرًا، فعلى الرغم من مشاغله والتزاماته الكثيرة تجاه مؤسسةٍ كبيرةٍ إلا أنَّ طلابَه لهم الأولوية، والوقت اللازم، والضيافة المقدَّرة من سكرتارية مكتبه، ولا يؤخِّرهم طرفةَ عين إلا ريثما يخرجُ من هو لديه، بل ويُقَدَّمون فورًا على كلِّ عَملٍ أو أحدٍ، هنا تُدركُ قيمة العلم وطلابه لدى هذا الأستاذ العَالم، ثم يستقبلُك كأعزِّ ضيفٍ بكلِّ ترحاب وبشاشة، فتدركُ أُخرى أنَّه صادق السُّلوك، نقي الأسلوب والروح، بلا تكلُّف، وقد جمع إلى ثقافته الشَّعبية الأصيلة في روحها وبساطتها وسموِّها، ثقافة العربي القُحِّ الذي يَرى (أنَّ البَشَاشةَ قِرَى)، وهي إدامُ العلماءِ، وسجيَّةُ الحُكَماء، وأنَّ الابتسامةَ وحسنَ العبارةِ للضيف ضيافةٌ كاملة، فما بالك بأن يكون المضيف هو أستاذك ومشرفك، وفي عمله الرسمي بفخامته ومكانته، لله دَرُّك! أيها الأستاذُ الكريمُ الأصيلُ الذي لا يتغيُّر للمناصبِ، ولا يتكلَّفُ لها لأنَّه أكبرُ منها في كل أحوالها بما يمتلكه من العلم مكانةً وتَمكُّنًا ومَكانًا.
أستاذنا القديرُ رجلٌ إداريٌّ متميزٌ، حيثُ تولَّى مناصبَ كثيرةً إداريةً ودبلوماسيةً، فلم تمنعه جميعُها عن البحث العلمي والإضافة المعرفية، بل إنه كان يُسخِّر المواقع التي تولَّاها –غالبًا- ليؤسِّس لهدفه الممتد، ويبني فيه لبنةً في مشروعه الكبير، ويضيف بصمةَ إنجازٍ في كلِّ موقع تولاه، وهو مؤسِّسٌ وصاحبُ رؤية واضحة وهدف كبير وطريق ثابت متجدِّد، وإذا ما استعرضنا تلك المواقع أدركنا ارتباطها برؤيته ومساره، ومنها: أنَّه أسَّس وأنشأ المعهد العالي للفنون الشَّعبية بأكاديمية الفنون، عام 1981م، وهو المعهدُ الوحيدُ من نوعه في العالم العربي، وأول معهد متخصِّص في مصر في الفنون الشَّعبية، وكان أوَّلَ عميدٍ له، في الفترة من عام 1981 حتى عام 1987 حيثُ أرسى دعائمه، وفلسفته، ومناهجه.
وحتَّى في مناصبِه التي كان يتولَّاها خارجَ مصر فهو يهتمُّ بمشروعه ويقوم بمهامِّه، نلاحظ ذلك في إنشاء المعهد المصري لدراسات البحر المتوسط بمدريد، عام 1991م.وإنشاء المعهد المصري للدراسات (الإيبروأمريكية) بمدريد أيضًا، عام 1991م.
من أهمِّ أعمال أستاذنا القوميِّة المفيدة -في مسح مصر مَسحًا ميدانيًّا- إنشاءُ "الأرشيف المصري للحياة والمأثورات الشَّعبية" مع الأستاذ الدكتور أسعد نديم –رحمه الله- عام 2006م.
 ذلك الأرشيف الذي كان حُلُمَ الرُّوادِ أمثال د.سهير القلماوي، ود. عبد الحميد يونس، ود. عبد العزيز الأهواني، وأحمد رشدي صالح وتلاميذهم من بعدهم، وكانت البداية في عام 1957م بإنشاء مركز الفنون الشَّعبية ولجنة الفنون الشَّعبية بالمجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية. وبإنشاء هذا المركز واللجنة نشطت حركةُ جمع المأثورات الشَّعبية وثوثيقها، ومحاولة تصنيفها تمهيدًا لإنشاء هذا الأرشيف (الحُلم) الذي يقومُ على توثيق الذَّاكرة الشَّعبية والحفاظ عليها حتى تحقَّق بسعيهم وجهودهم ومثابرتهم في العام 2006م، ومن مهامِّ هذا الأرشيف المتميِّز الجمع، والتوثيق، والتَّصنيف، والدراسة، ويشاركُ فيه الآن أكثر من 15 أستاذًا وخبيرًا، كما يعمل فيه أكثر من 40 شابًا وشابَّةً من ذوي الخبرة في الجمع الميداني من الحاصلين على دبلوم الدراسات العليا من المعهد العالي للفنون الشَّعبية، والحاصلين على ليسانس آداب قسم اجتماع شعبة انثروبولوجي.
         ومن أبرز أعماله التي تُذكر فيُشكر عليها أنَّه سعى إلى إدراج العناصر الثلاثة: (السِّيرة الهلالية، والتَّحطيب، والأراجوز) ضمن مشروع اليونسكو للحفاظ على "روائع التراث الشِّفاهي للإنسانية" وقد حصل مشروع جمع السِّيرة وتوثيقها على جائزة الشَّيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وغيرها، وتقوم الجمعية المصرية للمأثورات الشَّعبية التي يرأسها على تنفيذ المشروع بالتعاون مع اليونسكو. كما أنَّه تَبنَّى مشروع توثيق وتنمية فَنِّ التُلِّي- (بضم التاء واللام المشدَّدة المكسورة)، وهو نوع من التَّطريز المصري الذي يستخدم الخيوط المعدنيِّة الفضية أو الذهبية اللامعة- بتعاون بين المجلس القومي للمرأة والجمعية المصرية للمأثورات الشَّعبية. وشارك في إصدار أوَّل أطلس للمأثورات الشَّعبية المصرية، عام 2006م، وغيرها من الأعمال.
حاضرَ أستاذُنا وكان أستاذًا زائرًا في عددٍ من الجامعات العالمية والعربية منها: جامعة هـارفـارد، كامـبردج بالولايات المتحدة الامريكية، عامي 1975، 1976م، وجامعة تكساس، أوســتن بالولايات المتحدة الأمريكية، عام 1983، وجامعة بنسلفانيــا، فـيلادلفيــا الولايات المتحدة الأمريكية، عام 1987م، وجامعة كمبلوتنسي بمدريد، إسـبانيا عام 1988 (وقد قرَّرت الجامعة اعتباره أستاذًا فخريًّا بقسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية منذ عام 1989م)، ومن الجامعات العربية: جامعة الكويـت، عـام 1985م، وجامعة الإمارات العربية المتحدة، بالعين، عـام 1994م، هذا فضلا عن محاضراته العديدة والمتجدِّد في الجامعات المصرية، ومنها: جامعة عين شمس، وأكاديمية الفنون، بما يتبعها من معاهد مثل: المعهد العالي للفنون الشَّعبية، ومعهد الفنون المسرحية، ومعهد الموسيقى العربية، وغيرها، وكذلك جامعة حلوان، وجامعة المنصورة، وجامعة الاسكندرية، وقد ناقش وأشرف على عدد من رسائل الماجستير والدكتوراه كما أشرف على الأنشطة الطلابية والشبابية داخل جامعة القاهرة وخارجها لسنين عديدة أمدَّ الله في عُمره وعطائه.
ومن أعماله المهمَّة والخالدة أنَّه أسَّس الجمعية المصرية للمأثورات الشَّعبية، وذلك للحفاظ على المأثورات الشَّعبية وجمعها وتوثيقها وتصنيفها، وهو يشبه (بيوت الخِبرة) لجمع التراث الشَّعبي والاهتمام به دراسةً واقتناءً، مادةً ومحتوى.
ظلَّ أستاذنا يَكتبُ ويَدعو- في مقالاته ودراساته، وفي الملتقيات الثقافية والمؤتمرات الكثيرة المحلية منها والدولية التي شارك فيها- إلى أهمية وجود أرشيف كبير عام يضم المأثورات الشَّعبية بكل أصنافها وأشكالها وفنونها، وبالمادي منها والقولي، وقد سمعتُه ذات يوم في القسم، وهو يتحدَّث –بحرقةٍ- عن كيف يصنعُ العالمُ بمأثوراته، وكيف يوثِّقها، ويهتم بها، بل وكيف يفعل العدو الصُّهيوني بمأثوراتنا العربية، ويوثِّقها من خلال المواقع الإلكترونية على أنها من تراثه، ويسجِّلها في منظَّمات وأرشيفات عالمية منسوبةً إليه، ونحن نتفرجُ على تراثنا ومأثوراتنا تُنسبُ لغيرنا، بل وتُنتهبُ وتغتصبُ كما اغتصبت الأرض ولا نحرِّكُ ساكنًا، ولا ندري عن ذلك شيئًا.
لأستاذنا سيرة ذاتية زاخرة وزاهرة بكل إنجاز وتنوُّع، على المستوى الأكاديمي والإداري والدبلوماسي، وهو صاحب الخلق الرفيع الأصيل، والدبلوماسية الشَّعبية العالية –إن جاز التَّوصيف- فهو إلى جانب علمه، وما صقلته به التجارب والأبحاث والخبرة يمتلك المعرفة بالنَّاس، ويتلمَّسُ الجوانب الإنسانية والروح النَّقيَّة في الإنسان المصري البسيط، ويدركُ جوهره ومعدنه الأصيل، ومن هنا فلم تكن الدبلوماسيةُ مرحلةً من مراحل حياته الوظيفية فحسب، بل هي سلوك امتاز به، وسار عليه وتجسَّد في حواراته، ومحاضراته، وأسلوبه، وتعامله.
 ومن تلك المناصب الدبلوماسية التي شغلها نذكرُ أنَّه كان مستشارًا ثقافيًا بالسَّفارة المصرية، ومديرًا لمكتب البعثة التعليمية بإيطاليا، 1979- 1980. ثم مستشارًا ثقافيًا ومديرًا للمعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد، إسبانيا، 1987- 1992م، وكان مفوضًا عامًّا ومشرفًا على الجناح المصري بالمعرض العالمي (EXPO92) بأشبيلية، إسبانيا، من عام 1988- 1992م.
وقد نالَ الأستاذُ الدكتور أحمد مرسي عددًا من الجوائز الرفيعة من أهمِّها: جائزة طه حسين، عام 1964، وجائزة الدولة التَّشجيعية في الفنون من المجلس الأعلى للثقافة، عام 1985، ونوط الامتياز (مصر)، عام 1991، ووسام الاستحقاق المدني (إسبانيا)، عام 1992، ووسام الفنون الجميلة (إسبانيا)، عام 1993، وجائزة الدولة للتفوق في الآداب من المجلس الأعلى للثقافة، عام 1999، وجائزة جامعة القاهرة التَّقديرية (جائزة نجيب محفوظ للإبداع الفكري والأدبي)، عام 2006، وجائزة الدولة التقديرية في الأدب من المجلس الأعلى للثقافة عام 2006م.
أمَّا عن الأعمال الإدارية والمناصب الثقافية التي شغلها، فهي كثيرة نذكر منها: أنَّه كان مديرًا لمركز الفنون الشَّعبية، بوزارة الثقافة من عام 1976 حتى 1978 بالانتداب، ومستشارًا لمركز التراث الشَّعبي لدول مجلس التَّعاون الدولي من عام 1984 حتى عام 2004.
 ورئيسًا لتحرير مجلة الفنون الشَّعبية بالهيئة المصرية العامة للكتاب منذ أعاد نشرها وبعثها من جديد في العام 1987، وما يزال حتى الآن.
 ومستشارًا لوزير الثقافة لشؤون التراث الشَّعبي عام 1997. ورئيسًا للهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية من عام 2003 حتى عام 2005م، وغيرها.
وعلى الرغم من كلِّ تلك المشاغل والأعمال إلا أنَّ شَاغِلَه الرئيس، وعمله الأوَّل، واهتمامه الأكبر هو الكتاب، والبحث العلمي، والقاعة الدراسية، والطالب بشكل أساس هو ميدانه الذي ظَلَّ يُراهنُ عليه، ويستثمرُ فيه، ومن هنا فإنَّ طلابه هم ورثتُه الحقيقيُّون وامتداده الطبيعي. وأمَّا عن كُتب أستاذنا وأبحاثه فقد أضحت مراجع في بابها، وطُبعت عدَّة طبعات لأهميتها، ولا تكاد تخلو رسالة علمية أو بحث محكَّم أو مقال أدبي ذا بالٍ من الإشارة إلى كُتبه بوصفها مراجع علمية رصينة، وليس لنا في هذه العُجالة إلا ذكرُ تلك الكتب، وبمجرَّد حضورها تتداعى حولها الاقتباسات، وتنداحُ في الذَّاكرة البحثية الإشارات لهذه المراجع المهمة التي كان من أوَّلها دراسته الميدانية التأسيسيَّة في الماجستير عن (الأغنية الشَّعبية: دراسة ميدانية في منطقه البرلُّس، عـام 1966م)، ثم دراسته في الدكتوراه عن (المأثورات الشَّعبية الأدبية: دراسة ميدانية في منطقة الفيوم، عام 1969م) التي درس فيها ميدانيًّا أغلب الفنون الشَّعبية في منطقة الفيوم بوصفها –كما يرى جمال حمدان- "مصر الصُّغرى" فكأنه بهذه الدراسة قد درس مصر بأكملها، ودرس العادات والتقاليد في مجتمع الفَيُّوم المرتبطة بمجالات التحكيم العُرفية، وعادات الأفراح والموالد، وعادات الجنازات، والجزء الآخر من الدراسة عرض لموضوعات المثَل ووظيفته وعلاقته بالأغاني والحكايات، ثم درس الأصل اللغوي للحِرز والاستعمال الشَّعبي له ووظيفته وعلاقته بالحكايات الشَّعبية، كما درس الأغنية الشَّعبية وخصائصها الدينية، وأغاني العمل، وأغاني الأفراح والبكائيات، والموال الشَّعبي، ودرس الحكاية الشَّعبية وعلاقتها بالأسطورة وأنواعها مثل حكايات الجان، وحكايات الحيوان، وحكايات البطولة الخارقة، وغيرها بما قد يَنوءُ بالعُصبة أولي القوة، حيث إنَّ كُلَّ جنسٍ من هذه الأجناس تقومُ بها رسالةٌ مستقلةٌ، ولكنَّها هِممُ الرجال، وديدنُ الدراسات التأسيسيَّة الرَّصينة، ثم تتوالى مؤلفاتُ أستاذِنا وإنجازاته البحثية متمثِّلةً في الكتب الآتية:
- دراسات في الفولكلور (مع أخريـن)، عام 1971.
- الأغنية الشَّعبية، عام 1971.
- مقدمة في الفولكلور، عام 1975. (طُبِع مرارًا).
- الفولكلور والإسرائيليـات (ط1)، عام 1976، وطبعة ثانية عام 2003م.
- الأغنية الشَّعبية: مدخل إلى دراستها، عام 1982.
- المأثورات الشِّفاهية (ترجمة)، عام 1982، وطُبع عدة طبعات.
- الأدب الشَّعبي وفنونه، عام 1985.
- أبحاث في التراث الشَّعبي (مع آخرين)، عام 1986.
- الفن الشَّعبي المصري (مع آخرين) مدريد، إسبانيا، عام 1987.
- عالم نجيب محفوظ (بالإسبانية) مع آخرين، مدريد، عام 1989.
- مصر مهد الحضارة (مع آخرين) مدريد، إسبانيا، عام 1992.
- المجتمع المصري (المجلد 9) من موسوعة مصر الحديثة، عام 1997.
- من مأثوراتنا الشَّعبية، عام 1998.
- كل يبكي على حَالِه (دِراسةٌ لِلعَدِيد)، عام 1999.
- الأدب الشَّعبي وثقافة المجتمع، عام 1999.
- الأغاني الشَّعبية في صعيد مصر، عام 2001.
- الإنسان والخرافة (الخرافة في حياتنا)، عام 2003.
وأمَّا عن الأبحاث العلمية المحكَّمَة فهي بالمئات، وكذلك المقدِّمات للكُتب التراثية والدراسات الميدانية والأدبية والمقالات في الدوريات والمجلات المهتمة بالأدب الشَّعبي في مصر، والعراق، والكويت، والبحرين وغيرها من المنابر، وكذلك الأوراق العلمية التي أُلقيت في مؤتمرات وملتقيات دولية ومصرية، فلا يتسعُ المجال لعرضها، وهي موجودة ومعروفة في مضَانِّها، ونرجو من أستاذنا أن يجمعَها في كُتبٍ حتى يستفيدَ منها الباحثون، والدرس الأدبي الشَّعبي.
نفع اللهُ بأستاذِنا وبعلمه، وأمدَّه من الخير بما هو أهله؛ جزاءَ ما علَّم وألَّف وأعطى ودرَّس، وباهتمامه بالأدب الشَّعبي وبروحه وجماله، وبما أفاد وأجاد، فأضافَ ما يستحقُّ الإشادة، وقدَّم ما فيه النَّفع والإفادة.
*فصلُ الخِطَابِ*
         "شَغلَ موضوعُ العلاقةِ بين الأسطورة والخرافة والعلم كثيرًا من الدارسين والباحثين في مختلف العلوم الإنسانية، ووقفَ معضمُهم موقفًا معاديًا شديد العداء للخرافة، وأنماط التفكير والسُّلوك المرتبط بها، مُقرِّرين أنها مناقضة للعلم والعقل ناسبين إياها للمتخلِّفين حضاريًّا الذين لا يأخذون بالعلم وأسبابه. والحقيقة أنَّ الخرافة تشتركُ مع العلم –رغم تناقضهما بالطَّبع- في تحقيق مجموعة من الوظائف المهمة التي يحتاجها الإنسان، إنهما يشتركان في تفسير الظواهر والأشياء الغامضة التي تُقلِق الإنسان وتحيِّره، وتقضُّ مضجعه، وتفقده الشعور بالراحة والأمن والطمأنينة؛ حتى يستطيع أن يمضي في الحياة، وأن يكون مهيأ دائمًا لتقبُّل ما لا يستطيع فهمه أو إدراكه أو التعامل معه في اللحظة الراهنة التي قد لا توفر له الأسباب الكافية والمقنعة للفهم. كما يشتركان أيضًا في إيمان الإنسان أنَّه عن طريقهما يمكنه أن يحقِّق حاجاته الإنسانية الطبيعية، فإذا لم ينجح بواحد منهما، ربما نجح بالآخر، وأن يحقِّق النَّفعَ نفسه، ويجلب الخير له ولأهله، بنفس القدر الذي يمنع به عن نفسه وأهله الضرر، ويدرأ الخطر..."@د. أحمد علي مرسي: كتاب الإنسان والخرافة (الخرافة في حياتنا).
**تَحيَّة**
"يِصبَّحَكْ وِيرَبَّحكْ وبينْ العِبادْ ما يِفضَحَكْ"
أستاذُنا العلمُ العَليم
هَذي تحيةُ صُبحِهِ
وصباحُهُ الأملُ العَظِيم
#مَثَلٌ عميقٌ #شاهدٌ في كلَّ يوم
إشراقةٌ تأتي بمعناها العَمِيق
قَولٌ حكيمٌ مُرسَلٌ
يُنبي عَن الشَّعبِ العريق.
صِدق الحديثِ شعارُه
روحُ البيانِ منارُه
رمزُ التَّجاربِ والسَّلام
أيقونةُ الوجدانِ في عَبَقِ الرَّحِيق
من الصَّديق إلى الصديق.
ما أجملَ القولَ المنيرَ إذا اكتسى
بالعقلِ في حُسنِ العِبارةِ والعَمل!
"يصبَّحَكْ وِيربَّحكْ..."
تَصِلُ العبادَ بربِّهم
وَصلًا هو الزَّادُ الفَضِيل
في كلِّ يومٍ ننتظر
إشراقةَ الصُّبحِ الجميلِ بقوله:
"يصبَّحَكْ ويربَّحكْ"...
*نشر المقال في العدد 43من جلة أقلام عربية مايو 2020م، رمضان المبارك 1441هـ
 على هذا الرابط:

تعليقات

  1. الله... الله...

    الأستاذ المساعد إبراهيم محمد أبو طالب.

    كما عهدناك طلاوة الطرح والسرد.

    عرف الإنصاف طريقه إلى أناملك لمن كانوا أساتذتك، وأنت الآن تصافحهم المقام...
    ما تجمل الأدب بأنت...

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا لمرورك الكريم وتعليقك القيم أديبنا السمي الغالي!

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)