22- الأستاذ الدكتور عناد غزوان (الأكاديمي الموسوعي، وشيخ النقاد العراقيين)


(الحلقة (22)، مجلة أقلام عربية، العدد (44)، يونيو 2020م، شوال1441هـ.)
الأستاذ الدكتور عناد غزوان (الأكاديمي الموسوعي وشيخ النقاد العراقيين)

#من_هؤلاء_تعلمتُ
#سيرة_ذاتغيرية
كانت صنعاءُ في وقتِ عافيتِها وشبابِها النَّاضرِ بالحياة وبالجمال حاضنةَ المروءةِ وحافظةَ الوفاء لأنها جُبِلت عليه، وعُجنت من طينته، ونُقِشت من مائه، وقد استقبلتهُ بكلِّ محبَّةٍ وترحاب في العام 1997م أستاذًا زائرًا في جامعتِها برعايةٍ واهتمامٍ من رئيس الجامعة الأكثر حضورًا في تفاصيل سَيرها وسِيرتها، وهو الدكتور عبد العزيز المقالح -حفظه الله- الذي كانَ عهدُهُ من أزهى وأزهر عهود الجامعة عَطاءً وتميزًا، وأساتذةً كبارًا بكلِّ معنى الكلمة، وكان ضيف حديثنا اليوم هو الأستاذ الدكتور (عِنَاد غَزوان) الذي سيُدهشُنا في محاضراته على الرُّغم من قِلَّتها -ثلاث أو أربع محاضرات- في مقرر (دراسات في الأدب القديم) ونحن في مرحلة التمهيدي للماجستير التي ألقَى بعضها علينا في مقرِّ إقامته بدار الضيافة في مبنى جامعة صنعاء، وفي قاعةٍ مرافقةٍ في المبنى التقيناهُ أستاذًا وقورًا بشوشًا ذا صوتٍ جهوريٍّ إذاعيٍّ، ولم نكن نعرفُ الرجلَ، وما مستواه، ولا نعرف عن علمه وكُتبه شيئًا- على الأقلِّ أنا- لكن الزملاء أثناء الانتظار في صالة دار الضيافة كانوا يتبادلون بعض الكلمات عنه، وكيف أنَّ رئيس الجامعة -وهو ممن كان يدرِّسنا أيضًا في تمهيدي الماجستير- وكذا رئيس القسم قد حرصا على أن يُعطينا الدكتور عناد بعض المحاضرات في تخصُّصِه، لأنَّه قد درَّس المقرر لثلاثة عقود ونيِّف، وله فيه عدد من المؤلفات المهمَّة، كانت الدفعةُ مكوَّنةً من الزملاء الذين غَدا أغلبُهم اليومَ أساتذةً في جامعات مختلفة، وفي بلدان متباعدة هم -بحسب الألفبائية-: آمال جُباري، وابتسام المقطري، ومحدثكم، وأحمد المنصوري، وحسين الزراعي، وسُعاد الحدابي، وعبد الرحمن الصعفاني، والشاعر العقيد عبد الله معجب، والأستاذة القيادية فاطمة محمد بن محمد، وفاضل القعود، ومحمد جميح، وهدى الصَّايدي، وكان التنافسُ على أشدِّه، ولكن بما هو حقٌّ للعلم وللمرحلة التي نخوضُها، ومِنَّا -يومئذٍ- من كانَ موظفًا كبيرًا كالأستاذة فاطمة، والعقيد مُعجب، ومنِّا من كان مُعيدًا، ومنَّا من ينتظر، وحين برزَ إلينا أستاذُنا من مقرِّ إقامته رحَّب بنا، ودخلنا إلى قاعة قريبة للمحاضرة.
وحين أتذكَّرُ الجملَ المأثورة المصاحبة للقاءات الأولى "تكلَّمْ نعرفك- والمرءُ مخبوء تحت لسانه" وأمثالها مما يتداوله البيان العربي أُدركُ أهميةَ اللقاء الأول في رسم الانطباع، وكيفَ كان الرجل منذ أوَّل عبارة نطق بها متمكِّنًا من تخصصه، بارعًا في البيان، مركِّزًا في العبارة، سَهلًا في التوصيل مع عمق في الطرح وخلفية موسوعية مدهشة في المحتوى، على الرغم من حالته الصِّحية؛ حيثُ كان متعبًا من آثار عملية جراحية في البطن، وقد أخَذَنا بعيدًا في تفاصيل لم نكن نعرفُها، وطَرحَ لنا قضايا في الأدب القديم -نقديةً وإبداعيةً- لم نكن قد قرأناها في كتاب، ولم نسمعها من أستاذ، حينها أدركنا مقامَهُ وحرصَ الجامعة ورئيسها على استضافة مثل هذا الأستاذ الكبير، والأكاديمي القدير.
وقد كان العامُ الذي جاء فيه عامًا حافلًا بالنسبة إليَّ -على المستوى الشخصي- وعلى مستوى الدراسة والجامعة، فبالنسبة للجامعة كانت أشبه بخلية حياة كبيرة عامرة؛ حيثُ كانت حاضنة لأساتذة عراقيين كُثر وبخاصة أثناء حصار بغداد، فقد كان في جامعة صنعاء عددٌ كبيرٌ منهم -على سبيل الذكر لا الحصر- د.طارق نجم عبد الله -وكان حينها رئيس قسم اللغة العربية في آداب صنعاء- د.إبراهيم السَّامرائي، د.علي جعفر العلاق، د.عبد الرضا علي، د.حاتم الصكر، د.عبد الإله الصائغ، د.رشيد ياسين، د.شاكر خصباك، وعائد خصباك، د.عَبِد علي الجسماني، د.فلاح شاكر أسود، د.الراوي، ثم من بعدهم د. وجدان الصائغ، ود. صبري مسلم اللذين عملا في جامعة ذمار، وغيرهم الكثير والكثير ممن أثروا جامعة صنعاء بتدريسهم وعطائهم العلمي والإبداعي، وكان منهم وفيهم أستاذنا د.عناد غزوان الذي جاء، ولكنَّه لم يُطل المكوث؛ حيث غادر صنعاء سريعًا لارتباطه الإداري والأكاديمي بجامعته في بغداد.
وإذا ما اقتربنا من التعرُّف على أستاذنا عناد غزوان، وهو المعرَّف والمعرفة، والعَلَم الذي لا يزيد تعريفنا له إلا حَرَجًا لنا، فهو قامةٌ إبداعيةٌ ونقديةٌ وعلميةٌ وأكاديميةٌ وإنسانيةٌ كبيرةٌ، ولكن لا بدَّ من عرض بعض التفاصيل المهمة عن الرجل -رحمه الله- فهو الأستاذ الدكتور عناد غَزوان إبراهيم الجنابي (1934- 2004م)، أستاذ الأدب الجاهلي والنقد القديم في جامعة بغداد، أنهى دراسته الابتدائية والثانوية ثم الجامعية في بغداد، وحصل على شهاد (الليسانس) بمرتبة الشَّرف من قسم اللغة العربية في دار المعلمين العالية عام 1956م، ثم حصل على شهادة الدبلوم العالي من جامعة (ريدنج- University of Reading) بإنجلترا عام 1959م، وعلى شهادة التعليم من نفس الجامعة عام 1960م، وعلى دكتوراه الفلسفة في الأدب العربي من جامعة (درام- Durham University) بشمال إنجلترا عام 1963م، ومن هنا كان تكوينه العلمي يمتازُ بالأصالة والاهتمام بالتراث العربي وبالترجمات والتميّز المنهجي الدقيق الذي اكتسبه من التعليم في الغرب وبخاصة في بريطانيا، ولهذا كانت لغته الإنجليزية قوية ودقيقة ظهرت في ترجماته لعددٍ من الكتب المهمَّة التي سنقف عند ذكر بعضها.
وأمَّا عن الجانب العملي والأكاديمي فقد ترأَّسَ قسم اللغة العربية في جامعة بغداد لعدَّة سنوات، وكان معاونَ العميد في شؤون الإدارة بكلية التربية عام 1967م، ثم أصبح عميدًا لكلية أصول الدين عام 1973م، ورئيسًا لقسم اللغة العربية بكلية الآداب 1990-1993، ورئيسًا لجمعية المترجمين للفترة من 1989م- 1998م، ورئيسًا مُنتخبًا للمجلس الأعلى للجمعيات العلمية عام 1991-1993م، وكان رئيس الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق عام 2003م، وعضوًا في رابطة نقاد الأدب، وغيرها من العضويات الأكاديمية والإبداعية والشَّرفِيَّة في العراق وخارجها.
مما تعلمتُ من أستاذنا عناد غزوان -وفي محاضراته التي ألقاها علينا- الدِّقةَ في العِبارة، والوضوحَ في طرح المقصود دون تطويلٍ مملٍّ أو اختصارٍ مخلٍّ، يمتلكُ ناصيةَ المعنى، ولا يخذلُه المبنى في حديث أو قول أو موقف، وعلى الرغم من محاضراته القليلة التي ألقاها علينا -وكنا نطمعُ في المزيد- وقد جاءت متوِّجةً ومعزِّزةً لما كنَّا قد تلقيناه في المقرر عند أساتذتنا الآخرين أمثال أ.د. عبد الملك مرتاض، ود. طه أبو زيد وغيرهما ممَّن درَّسنا وأعطانا بعض المعارف والمناهج والقضايا المفيدة عن دراسة الأدب القديم، لكن محاضرات هذا العَالم كانت مختلفةً سهلةً ممتنعةً -إذا جاز التعبير- وهي تشبه أسلوبه في عمومه، فلم يكن يقرأُ من ورقةٍ أو يملي علينا من كتابٍ، بل كانَ متدفقًا لا يَستعصِي عليه الكلام متى أراده، وكانت لغتُه الفصيحةُ طيِّعةً -مع اللكنة العراقية المحبَّبة- وكان ما يعرضه علينا في المحاضرات جديدًا بمنهجٍ دقيقٍ، وزوايا رؤيةٍ تدلُّ على طول معايشةٍ وبحثٍ وتدقيقٍ في النقد وقضاياه المهمة رابطًا لها بعصور الأدب القديمة واللاحقة، وبمناهج معاصرة في التناول والفهم، وكان يحاضر بلباقةٍ، ويَجوبُ بنا التاريخ الأدبي القديم والحديث بمهارة، وهو مطَّلعٌ على النقد الأدبي والأدب المقارن وتاريخ الأدب بكل مراحله، وعلى معرفة بالأدب العالمي بلغته، وكان ينقلُ منه منتخباتٍ تدلُّ على رقيِّ معرفته، وعمق علمه حتى يخيَّل إلى طلابه أنَّه متمكِّن من كُلِّ شيءٍ، ويمتلك كُلَّ شيء.
ولا عجب في ذلك فحين تطَّلعُ على سيرته تدركُ هذا الثراء، وتقتربُ من مكامن التكوين المعرفي لأنه واحدٌ من خرِّيجي (ندوة الثلاثاء) التي أسَّسها شاعر ثورة العشرين (محمد مهدي البصير)، وهي ندوةٌ كانت تستمدُّ وَعيها وفلسفتها وتميزها -في وقت مبكر من تاريخ العراق الحديث- من جَمعِ المعاصرة بالتراث، والحداثة بالأصالة، والعالمي بالمحلي، وهذا ما ظهر لدى أستاذنا عناد غزوان ولدَى من جَايَله وعاصَره من خريجي هذه المدرسة (البَصِيريَّة)، وكان البصيرُ الشاعرَ والمعلمَ الذي أحدث بنيةً تواصليَّةً في قلب الثقافة العربية الأُحادية في العراق، وقد تَبِعه تلاميذ ومريدون كثر من أبرزهم: د. علي جواد الطاهر، ود.جلال خياط، ود. عناد غزوان وآخرون، ومن هنا تجد في تكوينه أنَّه يضعُ قدمًا راسخةً في التراث وقدمًا أخرى ثابتةً في المعاصرة، ويجمعُ في الخُطَى بينهما في صعيد واحد، فهو حين يكتب أطروحته في الدكتوراه في مكانةُ القصيدة العربية بين النقاد والرواة، كان في الوقت ذاته والمرحلة نفسها يُترجمُ كتاب (ت. س. اليوت).
وحين مزجَ عناد غزوان في تكوينه بين هذه الآفاق وعزَّزها بالاتصال المباشر بالغرب وبتطبيق المناهج على التراث العربي، وقدَّم للمكتبة العربية أهم ما يفيدُ من الترجمات صار صاحب رؤية خاصة، ومدرسة متمكِّنة، وهو من الجيل العراقي الذي رسم ملامح الازدهار المعرفي والمنهجي في الدَّرس الأكاديمي العربي في العراق في المراحل المهمة من تاريخ الجامعة العراقية، وكانت -حينَها- قبلةً للدارسين من اليمنِ، ومن غيرها، ومن هنا كانت البعثاتُ تَتْرَى، وتنطلقُ من جامعة صنعاء إلى الجامعات العراقية لوجود مثل هذا الأكاديمي القدير وغيره، وقد كنتُ واحدًا ممن يمَّمَ عَزمَه، وحزمَ مقصدَه نحو العراق؛ كما فعل زملاؤنا د. أحمد المنصوري، ود. حيدر غيلان، ود. محمد العبيدي، ود. عبد الحميد الحسامي، وغيرهم من الذين أكملوا دراستهم العليا فيها، ولكنَّهم كانوا قد سبقوا بعام أو عامين، وشاء الله أن تكون قِبلتي العلمية بعد ذلك هي أرض الكِنانة مِصر، وكانت إرادة الله هي الخيار الذي يخفيه اللهُ لعبده ويرضاه له، وكانت -بحمد الله- الأفضل، فقد حدث سقوط بغداد الثاني عام (2003م) على يد التَّتار الجُدد، وعاد كثير من طلاب الدراسات العليا أو تفرَّقوا أو تأخَّروا بسبب تلك الأحداث، وأما بقية زملاء الدفعة السَّابق ذكرهم فمنهم من أكمل الماجستير في جامعة صنعاء، ومنهم من توقف ولم يكمل، ومنهم مَن ابتُعثَ إلى بريطانيا أو إلى المغرب العربي أو إلى مصر، وصاروا الآن أساتذةً يُشارُ إليهم بالبنان.
وكما قلتُ في بداية الحديث بأنَّ عام 1997م كان عامًا حافلًا على المستوى العام والحراك الثقافي في صنعاء، ففيه كان تأسيس (النَّادي الأدبي اليمني) مع عددٍ من زملاء الدُّفعة، وكانوا أصحابَ همَّة عالية وطموح كبير، وبقيادة الطبيب المثقف والطَّمُوح د. علي المضواحي، وكان في ذلك العام السَّفرُ إلى العراق للمشاركة في مهرجان المربد مع الزميلين د.حسين الزراعي، ود.محمد جميح، ود.محمد ضيف الله الشَّماري، ممثِّلين عن النادي الأدبي، كما شارك عن اتحاد الكُتَّاب والأدباء اليمنيين عددٌ آخر منهم عبد الكافي الرحبي، وهدى أبلان، وابتسام المتوكل، ومقبل نصر غالب وغيرهم.
كما كان السَّفرُ بعد تلك الرحلة الثقافية إلى مصر للمشاركة في مهرجان المسرح التَّجريبي مع د. محمد ضيف الله، والممثِّل خالد مشوار رئيس فرقة المسرح بالنادي، وقد توَّج تلك المناشط جميعًا -على المستوى الشَّخصي وكان الأهم- هو تعييني معيدًا في جامعة صنعاء بعد رحلةِ معاناةٍ استمرَّت لخمس سنواتٍ عجافٍ في المعاملات، والمحاولات، والمكابدات.
وفي العام التَّالي شاركنا في (مهرجان بابل الدولي) في العراق وأوَّل زيارةٍ حرصنا عليها كانت زيارة دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد تلك الدار العريقة التي كانت تطبعُ الدُّررَ والغُررَ من الكتاب العراقي والعربي: المؤلَّف، والمترجَم، وقد اقتنيتُ منها عددًا من إصداراتها التي كانت بالنسبة لي كنزًا ثمينًا أفادني بعد ذلك في دراساتي وأبحاثي، ومن ضمن ما اقتنيتُه كتاب أستاذنا (أصول نظرية نقد الشِّعر عند العرب).
كما زرنا جامعة بغداد وجامعة المستنصرية، وفيهما التقينا بالزملاء الذين كانوا قد أوفدوا إليها وهم: د.المنصوري، ود.حيدر، ود.العبيدي، ود.أحمد الشَّميري، وكذلك قابلنا د.غيلان حمود غيلان، ود. نجاة الفقيه اللذينِ كانا قد أوشكا على الانتهاء من الدكتوراه يومَها، وكنَّا حريصين على لقاء أساتذتنا وبخاصة د. عناد غزوان ود.نبهان ياسين الذي درَّسنا النحو في مرحلة البكالوريوس، ولكن لم يتحقَّق اللقاء للأسف بسبب ضيق الوقت، وسرعة الزيارة، وكان يا ما كان.
كان لأستاذنا عناد الكثير من الجهود في التعليم، فعلى يده تخرَّجت دفعاتٌ كثيرةٌ ممن صاروا أعلامًا في الأدب والنقد والإبداع، كما كانت جهودُه في الترجمة بارزةً، وبالتحديد في الكتب المهمة في تعزيز المناهج النقدية أمثال كتاب (لوركا مجموعة مقالات نقدية، إعداد وتحرير: مانويل دوران)، وكتاب (خمسة مداخل إلى النقد الأدبي، تأليف: ويلبريس سكوت) وغيرها، وقد راجع الكثير من الكتب الموضوعة والمترجمة، فكانت مراجعته وافيةً تُفيد القارئ والكاتب والباحث.
(د.صبيح التميمي، د. رشيد ياسين، د. عبد المنعم تليمة، د. حاتم الصكر، د. عناد غزوان، د. عبد الإلة الصائغ، صنعاء، 1997م)
 قال عنه د. حاتم الصَّكر -وكأنَّه يصفه بلسان حال طلابه أيضًا-: "ولكنَّ عَمَلَهُ كزائرٍ في جامعة صنعاء أواخر التسعينيات كان الفرصة الأكبر للتعرف على سجاياه الإنسانية والعلمية لفائض وقته، وقربه من سُكناي، فتعزَّزت صورتُه التي لم تفارق مخيلتي: جادًا، متواضعًا، محبًّا للنَّاس بدفق إنسانيته وبشاشته وتعامله الودود مع كل ما في الحياة من مواقف، فأنتَ لا تستطيع أن تستعيد صورتَه إلا بابتسامته المطلَّة من وجهه المؤطَّر بنظارته، وبصوته المسبوق بضحكة صافية، وبنبرة فصيحة ذات أثر في النفس، فسرعان ما يشيع عناد غزوان المرحَ والبهجةَ في مجلسه، في قاعة الدَّرس كما في مكتبه بالقسم أو في محاضراته الأدبية ومداخلاته النقدية".
وقد تخرجت على يديه الكريمتين أجيالٌ من طلبة النقد تعلَّموا منه أولًا وقبل كلِّ علمٍ أخلاقيات الباحث، وأمانة الناقد. وقد كان أستاذنا- بشهادة الكثير من طلابه- على الرغم من شهاداته العلميَّة، ونبوغه المتفرِّد، وعلمه الغزير، وحضوره الدُّولي في مجال الترجمة مثالًا للكائن الإنساني البسيط، وأنموذجًا للتواضع الهائل الذي يجعلُه يستمعُ إلى طلَّابه بكل محبَّة، ويقدِّر آراءهم بكل ديمقراطية، ويقبلُ اختلافهم بكلِّ سعةِ صدرٍ وبُعدِ أفقٍ، فيخجلهم بإنسانيته العظيمة، ويدهشهم بأستاذيته الحكيمة.
تعلمتُ منه (أدبية العمل النقدي) وأنَّ النقدَ فنٌّ قبل أن يكون علمًا، بل هو فنٌّ يرتقي بالفنون الأدبية الأخرى وترتقي به، فالعملُ النقدي لديه هو عملٌ إبداعي لأنَّ النقد لا يصلح للتصدِّي والمواجهة إلا بالوسائل نفسها التي يتوسَّل بها العمل المتصدَّى له، فالناقدُ المبدع هو الذي يبدع القواعدَ الجديدةَ دومًا وعن وعي وإدراك لجدارة تلك القواعد ومدى ديمومتها في الواقع الأدبي، لأنَّ (أدب النقد) لا يختلف ولا يقلُّ -في مشروع أستاذنا- عن (نقد الأدب)، ولهذا فهو يعرِّف النقد في كتابه (مستقبل الشعر، وقضايا نقدية) بقوله: "النقد فنُّ دراسةِ الأساليب وتمييزها وصولًا بها إلى تقويم فني قائم على أساس التحليل والموازنة"، ولهذا فالنقد فنٌّ  يحمل أدبيَّةً تضعه بموازاة أدبيَّة النص المنقود، ويتحوَّل إلى فعل إبداعي، وليس فعلًا جامدًا يقوم على الآلية المتكرِّرة عند أيَّةِ ممارسة نقدية.
أغنَى أستاذُنا المكتبةَ العربيةَ بوافر من إنتاجه الإبداعي في الفكر والحضارة والتراث والنقد الأدبي، وله أكثر من ثلاثين مؤلفًا؛ موزعةً بين الدراسة، والنقد، والتأليف، والترجمة، والإبداع، وعددٌ آخر يفوقُها من الأبحاث الأكاديمية المحكَّمة والقيِّمة، نذكرُ من كتبه المؤلفة ما يأتي:
1)    مكانةُ القصيدة العربية بين النقاد والرواة العرب، مطبعة النعمان، النجف، 1387هـ ـ 1967م.
2)    الشعر والفكر المعاصر، سلسلة كتاب الجماهير، منشورات وزارة الإعلام، بغداد، 1974م.
3)    المرثاة الغزليَّة في الشعر العربي، مطبعة الزهراء، بغداد، 1974م.
4)    القصيدة العربية أصلُها وخصائصها وتطورها إلى نهاية العصر الأموي، 1978م. (باللغة الإنجليزية)
5)    التحليل النقدي والجمالي للأدب، دار آفاق عربية، بغداد، 1985م.
6)    الشعر ومتغيرات المرحلة، الدار العربية للموسوعات، بيروت، 1986م.
7)    آفاق في الأدب والنقد، الدار العربية للموسوعات، بيروت،1990م.
8)    مستقبل الشعر وقضايا نقدية، 1994م.
9)    أصول نظرية نقد الشعر عند العرب، 1998م.
10)                    قراءات نقدية في الأدب العربي، 1998م.
11)                    نقد الشعر في العراق بين التأثرية والمنهجية، 1999م.
12)                    أصداء، دراسات أدبية نقدية، دمشق، 2000م.
13)                    مدخل إلى الشعر الجاهلي، 2000م.
14)                    أسفار في النقد والترجمة، دار الشؤون الثقافية، بغداد 2006.
15)                    دراسات في الشعر الجاهلي، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان، 2006.
16)                    بناء القصيدة في شعر الشَّريف الرضي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 2008م.
ومن ترجماته: (17)(نُقَّاد الأدب)، تأليف: جورج واتسون، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1978م، (18)(لوركا: مجموعة مقالات نقدية)، إعداد وتحرير: ما نويل دوران، ترجمة د. عناد غزوان، جعفر الخليلي، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1980م.
(19)(الدراما والدرامية) تأليف: داوسون، 1980م.
 (20) (خمسة مداخل إلى النقد الأدبي: مقالات معاصرة في النقد)، تأليف: ويلبر ستيوارت. سكوت، ترجمة وتقديم وتعليق: عناد غزوان إسماعيل وجعفر صادق الخليلي، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1981م، (21)(الإحساس بالنهاية، دراسات في نظرية القصة)، 1980م، (22)(المعجمية العربية: نشأتها ومكانتها في تاريخ المعجميات العام)، تأليف: جون، هيوود، 2004م وغيره.
 ومن مؤلفاته المشتركة: (23) النقد الأدبي (بالاشتراك مع الدكتور علي جواد الطاهر)، (24) النقد التطبيقي، (25) تأريخ النقد العربي، (26) الأدب العربي، (27) مختارات من أدب الجاحظ، (28) دراسات أدبية باللغة الإنجليزية. (29) مرفأ الأمواج مباحث نقدية في الأدب العربي.
 ومن المؤلفات في المساقات التعليمية: (30) محاضرات في الأدب الإسلامي، (31) محاضرات في الشِّعر الجاهلي. وغيرها.
*فصلُ الخِطَابِ*
كتبَ عن تجربة الشَّاعر علي جعفر العلاق في ديوانه (فاكهة الماضي) فقال: "شاعرٌ مبدعٌ، عميقُ الثَّقافة، وإنَّ معجمه الصُّوَري يظهره شاعرًا صاحبَ تجربة عميقة الجذور بالعصر والإنسان والذكرى، إنَّ صوره الشعرية تدفعنا إلى الاعتقاد بأنَّه يرى القصيدة كيانًا فنيًّا متكاملًا وساميًا بلغته الشعرية الرمزية العالية التي تسمو على اللغة الإشارية، إن قدرته الفائقة في الجمع بين الوضوح والتجربة قد تبدو سمة فنية بارزة من سمات شاعريته المتدفقة فكرًا وإحساسًا. وهذا ما توضِّحه هذه الصور الرائعة التي استمدها بإخلاص ومعاناة من تجارب حياته ذات النَّسق الوجداني المرهف..."@د.عناد غزوان، كتاب (مستقبل الشعر وقضايا نقدية).
**تَحيَّة**
لكَ المجدُ يا ابنَ العراقِ المجيد
لك الخُلدُ والأمنيات
لأنَّك من دجلة الحبِّ
جِئتَ ومن نبعِها والفُرات
بتاريخِ أيَّامِها الزاهرات
أتيتَ من العلمِ
عشتَ مع العلمِ
تصوغُ المحبةَ من حُسنِها والثَّبات
وتَبني العقولَ بآثارِكَ الشَّامخات
لهذا غدوتَ مع الخالدينَ
وصِرتَ هُدَى العارفينَ
فحَصَّنتَ مجدَكَ ضِدَّ الممات..

*نشر المقال في العدد 44من جلة أقلام عربية يونيو 2020م، شوال1441هـ
 على هذا الرابط:


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)