23- الأستاذ الدكتور سيد البحراوي (الأكاديمي الشَّريف، وصَاحِبُ نظرية "مُحتوى الشَّكلِ")

(الحلقة الثالثة والعشرون، مجلة أقلام عربية، العدد (45)، يوليو 2020م، ذو الحجة1441هـ.)
الأستاذ الدكتور سيد البحراوي (الأكاديمي الشَّريف، وصَاحِبُ نظرية "مُحتوى الشَّكلِ")

#من_هؤلاء_تعلمتُ
*سيرة ذاتغيرية*
         أن يكون الأستاذُ الجامعي حُرًّا في قناعاته، وتوجهاته، وآرائه الفكرية والنقدية والإبداعية دون أن يكون تابعًا لنظامٍ معيَّنٍ أو توجُّهٍ يقودُه ويحرِّكُ كتاباته أو مواقفه سوى القناعات الراسخة لديه والتي اختارها واقتنع بها، ودافع عنها بكلِّ بسالةٍ وإباءٍ، وبكلِّ حَرفٍ ومَوقفٍ حتى وإن لقيَ في سبيلها العَنَتَ أو التهميشَ أو السجنَ -أحيانًا- كرادعٍ قوي في وجه الفكر والقناعة والدعوة إليهما، فتلك إذًا غَايةٌ قصوى يسعى إليها الإنسانُ، ويكرِّسُ تعليمَه وجهودَه وكتاباتِه في سبيل الدفاع عنها وتجسيدها واقعًا وممارسة، وبذلك يحقِّق أستاذيتَهُ وإنسانيته معًا، ويمثِّلُ تصالحًا مع الذات، وتوافقًا مع المجتمع الذي يسعى إلى تطويره وإلى الدفاع عن قضاياه، وعن الفقراء فيه -الذين نشأ واحدًا منهم، وعاش منحازًا إليهم- كما قصد إلى تعليم ذلك المجتمع، وإلى فَهمه وإفهامه بأنَّ الحياةَ تعايشٌ وحريةٌ، وأنَّ الإنسان له مطلق الاختيار لا إجبار عليه، ولا فرض على خياراته وخياله وحديثه سوى ضميره العالي، وعلمه النافع، واحترامه لنفسه وللآخرين.
وإذا ما تحقَّق ذلك تحقَّقت القناعة التي يمكن عندها أن يقول صاحبُها في آخر معاركه -بكل ثقة واطمئنان- وقبل الترجُّلِ، والرَّحيل: "لستُ نادمًا على أيِّ شَيءٍ فعلتُهُ في حياتي، ومستعدٌّ دائمًا لتحمُّل النتائج".
حديثنا اليوم عن الأستاذ الدكتور السَّيد محمد السَّيد البحراوي (9/ 1/ 1953- 16/ 6/ 2018م)، الناقد الدقيق، والمبدع المجوُّد، والأستاذ الجامعي الذي عَمِلَ في عددٍ من الجامعات -فضلًا عن جامعته الأم؛ جامعة القاهرة- ومن تلك الجامعات: جامعة ليون الثانية بفرنسا، وجامعة القاهرة فرع الخرطوم، وجامعة حلوان، وجامعة الإسكندرية، وغيرها، وتَولّى الإشراف على عشرات الرسائل العلمية للحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه في مصر، والجزائر، وفرنسا، وقام بالتَّحكيم للنشر في الدوريات العلمية للجامعات المصرية والأردنية والكويتية والعراقية والسعودية، وشارك في الكثير من المؤتمرات الدولية والعربية منذ عام 1979م، ونُشرت مقالاتُه في مختلف الصُّحف المصرية، والعربية، والفرنسية، وكتبَ عنه عَددٌ من الباحثين والصُّحفيين في حياته وبعد مماته، ومنهم مجموعة من الباحثين عَرَضوا للحديث عنه، وعن تجربته النقدية والإبداعية في كتاب بعنوان (النقد والإبداع والواقع.. نموذج سيد البحراوي) صدر عن دار العين، 2010م، مع مقدمة ضافية للأستاذ المغربي الدكتور محمد مِشبال.
عرفتُهُ بدايةً وأنا في مرحلة الماجستير، وعند مناقشتي لها كان رئيسًا للقسم (للعامين 2003- 2004م)، وكان يُديره بكلِّ جديَّة وعلميَّة، مصحوبةً بصرامته المعهودة، وهيبته الواضحة المعالم، ولكنَّها الصرامة المكلَّلة بروحه الإنسانيِّة التي كانت تُطلُّ من وراء تلك الملامح الجادَّة، والجسم النَّحيف، والتقاسيم المنوفيِّة الأصيلة التي تحملُ وراءها حياةَ إنسانٍ قادمٍ من رحم القرية التي أنتجت العظماء.
 ومن رحم المعاناة والفقر والمبادئ، كانت ولادَته في مرحلةٍ فَقَدَ فيها والدُه كثيرًا من أموالِه، ونشأ في أسرةٍ من الطبقة المتوسطة؛ حيثُ كان يعمل والده في التِّجارة البسيطة تلك التجارة التي وصفها في أحد اللقاءات (بأنها تجارة تقوم على المغامرة والقفزات غير الواعية والارتجالية حتى أسفرتْ إلى الإفلاس، وأصبحت الأسرة تعيشُ على قطعة أرض زراعية صغيرة بالكاد تغطِّي مصاريفَها).
من هنا يمكن فهم شخصية أستاذنا التي عاشت (خمسة وستين عامًا) تهتمُّ بتعليم أبناء هذه الطبقة، كما شكَّلت لديه تلك السنون فكرةَ العدالةِ الاجتماعية، والاهتمام بالفقراء الذين تعلَّم من مالهم القليل، وعاش بينَهم، وهو جزء من هذه الطبقة، ولهذا ظلَّ يَدفعُ ذلك الدَّين الذي أخذَهُ، وينبغي عليه أن يردَّه إليهم في قريته، وفي غيرها.
 وجد في الأفكار اليسارية مندوحته، وكان ذلك عُنصرًا حاكمًا ومهيمنًا في حياته حين عُرضت عليه مناصبُ معينةٍ ومهمةٍ، وسفريات مغرية رفضها لأنَّه كان يَعدُّ ذلك نوعًا من الخيانة لأهله ولطبقته الاجتماعية التي ظلَّ مُندمجًا معها مخلصًا لأبنائها، مقتنعًا بواقعها، يحاول تطويرها من داخلها لا الهروب عنها أو الانسلاخ من عباءتها التي ظلَّت بُردَتَه، ولَبُوسَ واقعِهِ عن قناعة، كما كانت حقيقةً حاضرةً في ذهنه بوصفه أستاذًا جامعيًا من ناحية، ومتحقِّقةً في وجدانه بوصفه إنسانًا ريفيًّا من ناحية أخرى، فهو ينتمي إلى طبقته وإلى قريته، متعاطفًا مع الفقراء، وأبناء الفقراء، وكان ذلك سببًا واضحًا في ترسيخ قناعاته للطبقة الوسطى، ولليسار الذي غيَّر نشأتَه الأزهريةَ البسيطةَ والعفوية التي كانت سائدة في أسرته وفي قريته -كحال مُعظم الأُسر والقُرى المصرية في السِّتينيات من القرن العشرين- إلى الإيمان بحقِّ هذه الطبقة في العيش الكريم، والسَّعي بالعلم والأدب معًا لتجسيد مَطَالبها وحقوقها، ومن هُنا -أيضًا- أدركَ أهمية أن يكون هو متوافقًا مع ذاته وواقعه، ومع ثقافته العربية التي ظهرت -بعد ذلك- في كتاباته النَّقدية وتوجهاته العلميَّة في بلورة فكرة المعارضة لما أسماها بـ(التبعية الذهنية) التي وقع فيها المثقَّفُ العربي تابعًا للسلطة منذ النهضة التي أرادها (محمد علي باشا) في مصر باستزراع أبناء الطبقات الكادحة، وتعليمهم وتربيتهم على طريقته، لكن -وهنا المشكلة العميقة التي وعاها الأستاذ البحراوي- ليكونَ ولاؤها لولي النِّعَم وللسُّلطة التي يراها المثقفُ مَلاذَهُ الآمنَ، وليس للشعب أو للطبقات التي قَدِموا منها وخرجوا من جِلبابها، وتلك -كما يراها أيضًا يحيى حقِّي- الكارثةُ الكُبرى التي تسبَّبت في انعزال الطبقة المثقَّفة عن الجمهور بصفة عامة، وجعلت المثقف يسعى إليها ليأمن من ناحية، وليحقِّق مطامحه من ناحية أخرى، معتقدين أنها هي التي ستوصلهم لمصالح الجماهير أيضًا.
وهكذا كان الأمرُ واضحًا ومحسومًا لدى البحراوي في مسيرته النقدية والحياتية؛ حيثُ كان يرى أنَّه حينَ يكون تابعًا للسلطة معناها أنه سيكون مُنساقًا لهذه (التَّبعية الذهنية) والنقدية والثقافية، وبالتَّالي ظلَّ يقاوم ذلك، ويدعو في حياته النقدية والإبداعية معًا إلى تبنِّي نظرية عربية تخرجُ في مجملِها عن تلك التبعية التي هي -في تعريفه ووعيه- بعيدة عن المصطلح السَّائد (التبعية الثقافية) وما يقصدُهُ البحراوي بهذه (الذهنية) -تحديدًا- هو أنها مرتبطة (بالذهن) الذي يعني المنطقة التي تجمع بين العقل والوجدان، وعندما يُصابُ الإنسان -وبخاصَّة المتعلم المثقف- بالخلل في هذه المنطقة، فإنه يكون عاجزًا عن الإبداع، وإن كان قادرًا على التقليد. وهذا ما أصابَ -من وجهةِ نظره- المثقف الذي ينظر للنموذج الغربي كنموذج يجبُ أن يُحتذَى ويُقلَّد ابتداءً من رفاعة الطهطاوي، مرورًا بطه حسين، ومحمد مندور، وعباس العقاد -ويرى البحراوي أنهم لم يضيفوا أيَّ شيءٍ للنقد العربي- وغيرهم من رواد النهضة الحديثة في مصر والوطن العربي، لأنها نهضة سعت إلى الإحياء وفق النموذج الغربي، وليست نهضةً وفقَ النموذج والواقع العَربيينِ. ومن هنا كانت دعوته لأول مرة -ربما في الأدب العربي- تلك الدعوة التي تبلورت في نظريته عن (محتوى الشَّكل) وهي ببساطة وإيجاز-أرجو ألَّا يكونَ مخلًّا- تعني العلاقة بين وعي الكاتب ولا وعيه ومنطقة الوعي الجمعي للانطلاق من الظروف الخاصة بالأدب العربي وبفلسفته وفكره وواقعه وحياته لإنتاج نظريته الخاصة في التعامل مع النصوص الإبداعية -القديمة أو الحديثة- وظروفه الاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها، وبناءً على خصوصية هذا الأدب وشخصيته، وليس وفق نموذج مُعدٍّ مُسبقًا أو مُطبَّق في مجتمعٍ مختلفٍ عنه في ثقافته، وتاريخه، وقناعاته، وفلسفاته.
وقد دعا إلى نظرية "مُحتوى الشَّكل"، وهو مؤمنٌ بقُدرةِ العَقلِ العَربيِّ على إنتاجِ نظريةٍ نَقديةٍ نابعةٍ مِن قِراءةِ مُعطيات ذلك العقل ورؤيته المستقلة وظروفه الحضارية وخصوصية مجتمعه وثقافته؛ لا من خلال المعطيات التابعة لأفكار الغرب الذي نعيش على نظرياته النقدية، ومذاهبه الفكرية والفلسفية إلى اليوم. وهذه النظرية تُعدُّ ذات إشارة دالة وعميقة على توجُّهِه الفكريِّ من ارتباطِ النقد بعلم الاجتماعِ، وأنَّ قضايا الفِكرِ وتَوجُّهاتِهِ النَقدية -في أيِّ مجتمع- يجب أن تكون نابعةً منه ومن وعي أفراده ومشكلاتهم وفلسفتهم الخاصة، بل حتى من طريقة عيشهم، وبناء مساكنهم، وألوانهم، وأذواقهم، وصولًا إلى قيمهم ومعتقداتهم التي ينبغي أن تكون مُدرَكَة ومستوعَبةً في الإبداع الفني والأدبي والنقدي. محاولًا بذلك أن يقدِّم مساهمة عربية في نظرية الأدب من خلال محتوى الشَّكل الذي سعى المؤلف إلى تأسيسه خلال ثلاثين عامًا.
تعلمتُ من أستاذنا البحراوي، وقد ناقشني في الماجستير نقاشًا بَدَا في ظاهره حادًّا؛ ولكنَّه كان في حقيقته علميا وأكاديميا يحرص على تكوين الطالب، ومدِّه بالأفق الأرحب لفهم النقد والنص معًا؛ لهذا كان تركيزه في المناقشة على التحليل الذي يراهُ من أهم ما يُميّز الباحث الجاد والمختلف عن غيره، كما يعلِّم الباحث ألَّا يكون جزئيّ القراءة حين يستشهد أو يقتبس، بل عليه أن يقرأ الكتاب أو البحث كاملًا، ويعرف محتواه بشكلٍ جيدٍ، ثم يقتبس ما أراده، حتى لا يأتي ما يقتبسه نشازًا عن الفكرة العامة للكتاب أو عن توجُّه صاحبه ومقصده، ولقد استفدتُ منه كثيرًا، ومن ملاحظاته لأنها تقوم على أُسسٍ نقدية وعلمية رصينة، وعلى قراءة متعمِّقة في النظرية والمنهج معًا.
كنتُ ألقاهُ في القسم، وأستمعُ إلى بعض حواراته مع زملائه أو مع طلابه، فألتمس فيها ذلك المبدأ الرافض للانصياع أو المستسلم للتبعية في تصرفات بعض زملائه أو مواقف المثقفين الذين أسلموا قيادَهم لتبرير الأيديولوجيات التي ترعاها السُّلطة-أيّ سلطة- وتمريرها، وكان يعرفُ موقعَهُ منها، ويدركه، ويؤمن أنَّ الأستاذ الجامعي ليس في حاجة إلى التكسُّب من مصادر أخرى أو التزلُّف لأحدٍ في السلطة أو خارجها، ويرفض أيَّ عمل لا يتوافق مع قناعاته سواءً في هيئات أكاديمية أو غير أكاديمية. وقد حدد علاقة المثقف بالسلطة -على الأقل في ممارسته وفي حديثه وواقعه- فلم ينساق وراء ما كان يصفه بـ(حضيرة المثقفين)، بل ظلَّ خارج ذلك النَّسق يدعو للحرية ورفض التبعية الذهنية سواء كانت لفردٍ أو لسلطةٍ، وكذلك للنموذج الجاهز، ومنه النموذج الغربي الذي ارتكز عليه النهوض لمصر، وغيرها من المجتمعات العربية-من وجهة نظر المثقف الجامعي على الأقل- ولكنَّه النهوض المقيَّد بذلك النموذج، والمنقاد وراءه، بلا إبداع حقيقي، وبلا نقدٍ منهجي متجاوز، وبلا إنتاج خاص مستقل.
زرتُه مرةً إلى منزله في مدينة مبعوثي جامعة القاهرة، وهي سلسلة عمارات فيها شُقق صغيرة، فوجدتُ كيفَ يعيش الأستاذ الجامعي الحقيقي المعتمد على راتبه، والمخلص لأبحاثه وأفكاره، شقةٌ متواضعةٌ محتواها الأغلب هو الكتاب الذي يُغطِّي كلَّ زاويةٍ منها بالأرفُف، فالكتاب أنَّى اتجهتَ وجدتَهُ، يستولي على المكان مع بعض التُّحف والأثاث الأنيق القديم والحديث، منزلٌ يحفُّه العلمُ والكتابُ والمبادئ من كل اتجاهاته، ومن هنا يعيش بكل حريته وبكامل قناعاته وإرادته مرتاح الضمير، منطلق الفكر، متناغم الذات، أكرمني الرجل بضيافته المعهودة -كما في القسم- وهي الشَّاي والحديث الودود والبشاشة التي اختلَفَتْ في منزله عن مكتبه في القسم، وعَرفتُ أيضًا زوجتَه الأستاذة الجامعية القديرة أمينة رشيد ذات الأصول الأُرستوقراطية (وهي حفيدةُ الباشا اسماعيل صدقي، رئيس الوزراء في النصف الثّاني من الأربعينيات، ولكنها كانت رفيقةَ دربِهِ وفكره، ومنحازة للفقراء ولقضاياهم، وقد شهدت ثورة مايو عام 1968 الطلابية في باريس، وتم اعتقالها في سبتمبر1981، وفيه كانت خطبتُها من سيد البحراوي، ودخل السجن معها كلٌّ من: ، (لطيفة الزياتوشاهندة مقلد، وصافيناز كاظم)، ومئات المعارضين لسياسة الرئيس السادات، وقد شاركت في مظاهرات دعم مقاومة الشَّعب الفلسطيني، وفي تأسيس لجنة الدفاع عن القومية العربية، والمجموعة المصرية لمناهضة العولمة، وحركة 9 مارس لاستقلال الجامعات، وهي زميلته في كلية الآداب بجامعة القاهرة تعمل أستاذًا للأدب المقارن).
 كانت تلك الزيارة لغرض تسليم رسالتي للماجستير التي أقرَّ القسم أن يكون البحراوي أحد أعضاء لجنة المناقشة والحكم عليها، وعندما ودَّعني الأستاذُ، وشيعني إلى الباب، أدركتُ مقدار ما قد يُخفيه الشكل الظاهري، والملامح الجادة من إنسانية متدفقة صادقة بمحبة الناس وبالطيبة الأصيلة في شخصية الرجل، ومقدار القيم التي تكتنز بها روحه، وعند الانصراف سألتُ اللهَ حُسنَ التوفيق، وأن يجد في رسالتي شيئًا مفيدًا حتى لا يعصرني يوم المناقشة عَصرًا بما عُرفَ عنه من شدَّة وصرامة وهجوم -أحيانًا- قد يجعل الطالب يَضرِب أخماسًا في أسداس بما يُضرَب به من نَقدٍ وملاحظاتٍ، وما ذاك إلا لأنه يقرأ الرسائل جيدًا، ويدقِّق فيها، وفي منهجها ومحتواها، وفي مبناها ومعناها، ومنه تعلمتُ كيفَ أقرأ الرسائل، وكيف يجبُ على الأستاذ ألا يحوِّلَ مناقشته للرسائل العلمية إلى محاضرة وتعميمات وعموميات، بل يجعلها -كاسمها- مناقشة حقيقية فيما كُتب، وما قيل، وما كان يجبُ أن يُكتب ويقال ويُبحث ويُحلَّل.
ذلك هو سيد البحراوي مع طلابه الذين يُشرفُ عليهم، كما أنه هو نفسه مع طلابه الذين يُناقش رسائلهم سواءً بسواء، وإن كان من زيادةٍ يظفرُ بها طلابه، فهي شدة الحرص، وكثرة الرفض لما قد يكتبون من كتابات هشَّة غير علمية، حتى يستقيمَ لهم البحث، وتَحسُن لغتهم فيه، ويتضح منهجهم الذي يسيرون عليه، حينها يكون الواحد منهم قد عَبرَ الخطرَ، وأدرك الظفر.
تعلمتُ من أستاذِنا -كما تَعلَّم غيري ممن قرأَ له، وتتلمذ عليه- كيف يكون سلوك النَّاقد مع إبداعه بنفس الصَّرامة مع نقده، فهو لا يكتبُ إلا ما يعيشُه ويقتنعُ به، وفي مسيرته المنهجية الحافلةٍ يتلازم لديه النقد والحياة، تطبيقًا وتفاعلًا،  ولهذا فإنَّه في إبداعه من خلال قصصه ورواياته القصيرة -وهو بالمناسبة مُقلٌّ في الكتابة، وفي حجم أعماله الإبداعية أيضًا- لأنَّه لا يكتب إلا الخلاصات أو الزُّبدة -كما يُقال- ولا تجد في كتاباته الحشو الزائد الذي ربما يملأ به غيرُهُ الصفحات، ويسوِّدُ به الكتب الطوال، أما البحراوي فلا يكتب إلا ما يحسُّ به ويقتنع دون حشو أو زحافات كما كان دقيقًا في دراسته لعلم العَروض وتدريسه؛ ولهذا فإنَّ عباراته مركَّزة، وكلماته عميقة، وكتاباته قليلة دقيقة.
معظم تلك الكتابات تجسِّدُ حياتَه، فمثلًا في روايةِ (شجرة أمي) كانت رصدًا لذكرياته مع أمِّه، ووصفًا للحظات موتها، وما قبلها وما بعدها، كتبها على شكل يوميات فيها المكاشفة والبوح، بما يؤكد على ما جاء في مقدمة الرواية من وَصفٍ للعلاقة الإنسانية بين الابن وأمِّه؛ حيثُ يقول: "هنا أتحدَّثُ عن العلاقة الإنسانية.. كانت أمي مُستَغَلَّة، ولم يكن أحدٌ يستطيعُ أن يساعدها، وأنا أريد أن أنفي عنها وعني الاستغلال، وأن أقدم لها/ لي، ولأمثالنا مساعدتي"- وفي هذه الرواية عن طريق أسلوب اليوميات والمكاشفة شيء عن حياته كشذرات متفرقة من سيرته الذاتية، كما ظهرت في رواياته وقصصه الأخرى مثل: (ليل مدريد) و(هضاب ووديان)، و(طرق متقاطعة) و(ثلاثية كامل؛ قصص وقصائد)، وغيرها.
ولعل التَّجربة الأكثر خصوصيَّة -لارتباطها بمرضه وتجربة التعايش مع مرض السرطان الخبيث، ووصف تجربة الألم التي عاشها وعاناها- هي في كتابه (في مديح الألم) الذي كَتَبَه بأسلوب التحدي القائم على فلسفة الحياة، والمعرفة، والألم في الوقت ذاته، وقد خرجَ بكتابٍ مُهمٍّ يعبِّر عن تلك التجربة من خلال المعايشة اليومية المباشرة، ويصفُ مواقفها الحياتية، ويقفُ هو ذاته أمام نفسه وقيمه وأفكاره، ويحدِّد علاقته بالآخرين، وبقضايا عامة ومهمة، مثل: الحرية، والموت، والأسرة، والأصدقاء، وفيه يحاور الذات بكل شجاعة في مواجهة المرض، والوقوف أمام تفاصيله الدقيقة ومواجهته، بل وأَنسَنَة ذلك الألم الذي مرَّ به، وألمَّ، -كما يقول حمزة قناوي- وعاش دقائقه وثوانيه، واستطاع مواجهته، بل استطاع أن ينقلَه أيضًا إلى الأفق الإنساني الأرحب، والفكري الأوسع باستيعاب فلسفي، وفكري، وتحويله إلى مُعطَى حياتي جعله قادرًا على تحفيز الحياة نفسها، والتمسُّك بها لا استلابها منه أو تسربها من بين يديهِ، إنه التَّحدي الحقيقي، ومواجهة الموت لحظة بلحظة، لكنَّها المواجهة مع مقاتلٍ عنيدٍ، ومفكرٍ صِنديدٍ يحوِّل كلَّ لحظةِ وجعٍ، ونبضةِ ألمٍ إلى دَفقةِ رُوحٍ، ونبضةِ أمل، ومن هنا كان كتابُه (في مديح الألم) تجربةً متفردةً في كتاباته؛ حيثُ جاء مُركَّز العبارات دالًا على المقصد والمقصود، وجعل الأصل في الحياة هو الألم، وأن السعادة التي قد تنتابُ الإنسان ما هي إلا فرعٌ من ذلك الأصل، كتب الدكتور البحراوي في مقدمة الكتاب فقال: "مِثلُ كُلِّ البشر، عانيتُ في حياتي مختلف أنواع الألم، لكني لم أنتبه لأهميته على المستوى الذهني. كنتُ أشعرُ به وأعيشُه حتى ينتهي، أو يتزاوج مع غيره من المشاعر، أو يأتي ألمٌ جديدٌ، انشغلتُ بموضوع الألم، وشُغفتُ به نحو عامٍ قبلَ أن أبدأ علاج السرطان، ثم توقفتُ إجباريًا، وبعد انتهاء العلاج المؤلم أعودُ إليه. أريدُ أن أمجِّدَهُ، باعتباره قرينَ الحياةِ…".
نلاحظُ هنا كيفَ يغدو الألم ممجَّدًا لديه، وكيف يُصبحُ قرينَ الحياة، ويقول مؤكِّدًا على فلسفة التمجيد هذه والمديح للألم: "سَعيُ البشرِ-إذن- إلى الراحة هو مجابهةُ الألم. ولولا الألم لما سعوا، ولما أبدعوا علمًا وفنًا". هكذا مضى الكتابُ بهذه اللغة المنسجمة والمنطقية وبأسلوب "الومضات المكثَّفة" دون استرسال؛ حيثُ جاءت الأفكار والملاحظات أقرب إلى التشتُّتِ منها الى الترتيب، ويعلِّل ذلك في غير موضعٍ بأن الكتاب "نتيجةً مباشرةً للمعاناة التي كان يعيشها في تلك اللحظات، ويجسِّد الشكلُ طبيعةَ المعاناة، وحالةَ الألم".
وحين يقتربُ من توصيف المرض وحالاته اليومية، ويَضعُ خلاصةً عميقةً للحياة، يقول: "أحد الأطباء حين سألته: عمَّا إذا كان يمكن أن أُشفَى، قال: هل يخلقُ اللهُ الدَّاءَ دون دواء؟! هل يريد الخالق امتحان مخلوقاته بابتلاءات قدرةِ تحمُّلِها؟ منطقُ الطبيبِ معوجٌّ، ولعل كلمات صلاح عبد الصبور في كتابه (حياتي في الشعر) أكثر تعبيرًا ومنطقًا: "أن الله لا يعذبنا بالحياة، ولكن يعطينا ما نستحقه؛ لأنه قد أسلَمَنا الكونَ بريئًا مادةً عمياء نحن عقلُها". وقد قال البحراوي: "قالت الصديقةُ إنها لا تحبُّ الألم، وتخافُ منه، ولا تحبُّ الحديثَ حولَه. قلت لها: هذا أيضاً نوعٌ من الألم". ويقول وتصفًا حالة الكتابة: "أكتب كأنَّني أنزفُ دمًا.. أحاولُ أن أستخرجَ أقصى ما بي، كي يمكن للآخرين أن يعيشوا ألمهم بصدق"، ويقول: "التأمُّل هو الصُّحبة الأفضل في حالة المرض"، ويقول بعبارة عميقة: "احتمالُ الموتِ يجعلك أكثر قدرة على مراقبة تمثيليَّات الأحياء لترتيب مستقبل حياتهم، وما فيها من سَذاجةٍ وطفولة".
         الحديثُ عن أستاذنا البحراوي يطولُ لو مضينا نعدِّد جوانبَه النقدية، والإبداعية، والإنسانية، لأنَّه من النماذج الصادقة البسيطة للإنسان العربي المعاصر المسكون بهموم أمته، وبالثبات على مواقفه وآرائه حين تغيَّرت المواقف، وتشتت الآراء والاتجاهات، لكنَّه ظل ثابتًا منذُ كانَ في طليعة حركة اليسار المصري التي دفعت ثمنًا فادحًا لمواقفِها السياسية، حيثُ فُصِلَ من الجامعة المصرية مع مثقفي اليسار المصري الوطنيين أمثال زميله في القِسْم وصديقه في القَسْم والفكر الدكتور تلّيمة، وغيرهما مِمَّن عارض اتفاقية "كامب ديفيد"، والقرارات "الإصلاحيَّة" التي عَزلَت السِّياسيين والمفكرين عن المشهد السِّياسي المصري والعربي، دونَ أن يتراجعَ عن موقفِه الرافض للاتفاقية وتبعاتها قيد أنملة. وقد نَذَرَ حياته للدفاع عن العدل الاجتماعي، والحريات العامة والخاصة، مُناديًا بالدولة المدنية الديمقراطية التي تقومُ على أُسس العلم والتكنولوجيا، واحترام حقوق الإنسان.
ترك أستاذُنا -رحمه الله- أكثر من ثلاثين مؤلفًا ما بين النقد، والترجمة، والإبداع القصصي والروائي، بخلاف العشرات من الدارسات النقدية، والأبحاث، والمقالات في المجلات والصُّحف العربية، وشارك في لجان تحكيم أكاديمية وأدبية عِدَّة في مصر، والكويت، والأردن، والإمارات. ومن أعماله:
1)   موسيقى الشِّعر عند شعراء أبوللو، دار المعارف، القاهرة، ط1، 1986، ولها عدة طبعات، [وهي رسالته للماجستير].

2)   كتاب العروض للأخفش، تحقيق ودراسة، مراجعة د. محمود مكي، دار شرقيات، القاهرة، 1988م.
3)   في البحث عن لؤلؤة المستحيل، دراسة لقصيدة أمل دُنقل مقابلة خاصة مع ابن نوح، ط1 دار الفكر الجديد، بيروت، 1988م.
4)   أمل دنقل كلمات تقهر الموت، بالاشتراك مع عبلة الرويني، كتاب الثقافة الجديدة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 1990م.
5)   علم اجتماع الأدب، الشركة المصرية العالمية للنشر- لونجمان، القاهرة، 1992م.
6)   البحث عن المنهج في النقد العربي الحديث، دار شرقيات للنشر والتوزيع، القاهرة، 1993م.

7)   العروض وإيقاع الشعر العربي؛ محاولة لإنتاج معرفة علمية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993م.
8)   محتوى الشكل في الرواية، النصوص المصرية الأولى، (سلسلة دراسات أدبية)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1996م.
9)   الإيقاع في شعر السَّياب، دار نوارة، القاهرة، 1996م، والهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2011م. [رسالته للدكتوراه]
10)   الحداثة التابعة في الثقافة المصرية، ط1، ميريت للنشر والمعلومات، 1999م.
11)   المدخل الاجتماعي للأدب، دار الثقافة العربية، 2001م.
12)   قضايا النقد والإبداع العربي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، ديسمبر 2002م.
13)   صُناع الثقافة الحديثة في مصر، مكتبة الأنجلو المصرية، 2002م.
14)   الأنواع النثرية في الأدب العربي المعاصر أجيال وملامح، الجزء الأول، مكتبة الأنجلو المصرية، 2003م.
15)   مختارات الشعر العربي الحديث في مصر، آفاق، ط2، 2006م.
16)   في نظرية الأدب "محتوى الشَّكل مساهمة عربية"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط1، 2008م.
وأمَّا أعماله الإبداعية فهي:
17)   ليل مدريد، دار المدى للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 2002م.
18)   طرق متقاطعة، دار شرقيات للنشر والتوزيع، القاهرة، 2005م.
19)   هضاب ووديان، آفاق للنشر والتوزيع، القاهرة، 2006م.
20)   شجرة أمي، آفاق للنشر والتوزيع، القاهرة، 2007م.
21)   صباح وشتاء؛ نصوص، دار النصر، القاهرة، 2009م.

22)   في مديح الألم، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 2016م.
23)   ثلاثية كامل؛ (قصص وقصائد)، الكتب خان، القاهرة، 2016م.
وفي الترجمة اشترك مع زوجه د.أمينة رشيد في:
24)   الأيديولوجية: وثائق من الأصول الفلسفية لميشيل فاديه، ترجمة من الفرنسية بالاشتراك مع د. أمينة رشيد، دار التنوير، بيروت، 1982م.
25)   النقد الاجتماعي، نحو علم اجتماع للنصِّ الأدبي، تأليف: بيير زيما، ترجمة عايدة لطفي، مراجعة د.أمينة رشيد، ود.سيد البحراوي، تقديم سيد البحراوي، دار الفكر للدراسات والنشر، 1991م. 
26)   المكان، رواية، آني إرنو، ترجمة أمينة رشيد وسيد البحراوي، دار شرقيات، القاهرة، 1994م.
27)   مداخل الشعر، باختين، لوتمان، كوندراتوف، دراسات مترجمة عن الإنجليزية والفرنسية بلاشتراك مع د.أمينة رشيد، سلسلة آفاق للترجمة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1996م.
28)   الأشياء، جورج بيريك، ترجمة: أمينة رشيد وسيد البحراوي، دار شرقيات، المركز الفرنسي، 2000م، وغيرها.
*فصلُ الخِطَاب*
"هذا الاتساقُ المنهجي ... ليس قضية فردية، وإنما هو قضية اجتماعية في المقام الأول. ومن هنا فإننا نرى أن طرح قضية المنهجية في النقد العربي تتجاوز حدود الهم الأكاديمي الضيق إلى مجمل الحياة العربية بصفة عامة. ذلك أن منهجية فرع معرفي معين لا تنفصل عن منهجية الفروع المعرفية الأخرى، أو عن منهجية الحياة الاجتماعية في الوطن الذي تمارس فيه هذه الفروع المعرفية، وباختصار، إذا تحدثنا عن المنهجية، فإننا نتحدث عن مجتمع ناضج واعٍ بأهدافه، ويخطط لتحقيق هذه الأهداف تخطيطًا علميًا، يستخدم الأدوات المناسبة التي تضمن سلامة هذا التخطيط وقدرته على تحقيق الأهداف ولا شكَّ أن العقول التي تمارس هذه المنهجية تخضعُ لذات الشروط التي تخضع لها العقول التي تمارس المنهجية في النقد الأدبي أو في غيره من الفروع المعرفية..."@د.سيد البحراوي، مقدمة كتاب (البحث عن المنهج في النقد العربي الحديث).
**تَحيَّة**

لم يُصالحْ
لم يُصفِّقْ للمُصَالِح
لا، ولم يَمضِ على دَربِ المَصَالح
عاشَ للعلمِ نَديما
وعلى المَبدأ يُعطي القولَ صِدقًا ويُكافح
مثلما أعلنَها يومًا (أَمَل)
ذلكَ الصَّاحبُ والشَّاعرُ مَن عاشَ الألم
حتَّى النهاية
هل مِن الصُّدفةِ أن يأتي الشَّبَه
هكذا؟
لهما نفسُ المَسِير
(محتوى الشَّكل)
لهما نفسُ المَصِير
فَمِن الغرفةِ الثامنةِ
تَخرجُ الأوراقُ وفي نُسخَتِها
(في مديحِ الألم).
يا تُرى
كيف يتَّفقُ الحبُّ
والبحثُ عَن لؤلؤةِ المُستحيل؟
مِن هنالكَ مِن لحظةِ الوعي حتَّى الرَّحيل
نَمْ!
فما ماتَ مَن خلَّدَ العِلمُ عنوانَه
ومَا ضَلَّ مَن ظلَّ مُستَشهِدًا بالدَّليل...
*نشر المقال في العدد 45من جلة أقلام عربية يوليو 2020م، ذو القعدة 1441هـ
 على هذا الرابط: 



تعليقات

  1. بارك الله لكم وزاد الرجال من امثالكم

    ردحذف
    الردود
    1. وفيكم بارك الله! تشرفتُ بمرورك على المدونة
      وشكرا لك!

      حذف
  2. دراسة مميزة وشجية لمسيرة الغالي العظيم د سيد البحراوي
    شكرا كبيرا للغاية

    ردحذف
    الردود
    1. ولك الشكر والتحية أ. إيمان
      رحم الله أستاذنا ودمتم بخير!

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)