24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)

(الحلقة الرابعة والعشرون، مجلة أقلام عربية، العدد (46)، أغسطس 2020م، محرم 1441هـ)

         الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)

#من_هؤلاء_تعلمتُ

*سيرة ذاتغيرية*

من أبرز العلامات على الحضارات القديمة اكتمالُ قواعدِها اللغوية ووجودُ نحوٍ وصرفٍ للغتها يضبطُ الحديث فيها، ويدلُّ على وعي أبنائها وثقافتهم، ومدى نضج لغتهم وتفكيرهم وحضارتهم، وإن كانَ الأمرُ يبدو بعيدًا بسبب الفاصل الزمني الكبير بين تلك الحضارات وبين اكتشافها الذي لم يتحقَّق إلا مؤخرًا لكن جهود الآثاريين وعلماء التاريخ والتنقيب والحفريات قد استطاعت أن تفكَّ الكثير من شفرات تلك الحضارات وأسرارها، وأن توضِّح من خلال الفتح الكبير في معرفة لغاتها الكثيرَ من الحياة وأسبابها ومعالمها، ومن أساليب العيش لدى أبنائها، وكذلك آثار الشَّواهد الدينية المتفرقة هنا وهناك، وآثار الملوك، وبقايا المعابد، وغيرها. ولعل الحضارة اليمنية القديمة من أكثر تلك الحضارات اهتمامًا ودراسة من قِبل الباحثين اليمنيين منهم والعرب والمستشرقين -عمومًا- في معرفة الحضارة اليمنية والسعي إلى الاهتمام بها ودراستها، وفكِّ رموزها وشفراتها من خلال النقوش المسنديَّة المرتبطة -كما هو معروف- بخط المسند والموجودة في عموم اليمن، وفي مختلف المناطق الحضارية والأثرية التي امتدت عبر التاريخ في الدول المتعاقبة من معين، وسبأ، وذي ريدان، وحضرموت، ويمنة، وغيرها من الدول والحضارات المتتابعة.


وقد استطاعت تلك الآثار أن تقاوم الزمن وتتغلَّب على تجريفاته وتعرياته الطبيعية منها وغير الطبيعية، وصعوبات تقلباته ومجريات أحداثه لتظلَّ بارزة شامخة، وحاضرة صامدة في الجبال والكهوف والوديان بوصفها شواهد حضارة وعلامات تفوِّق دائم، وكأنَّ لسان حالها يقول: "هنا كانت حضارة يمنية عظيمة، وهنا مُلكٌ وبناءٌ ودولٌ متعاقبة وزراعة وإنسان استطاع أن يبني نفسه وأن يخلِّد حضارته الضاربة في أعماق التاريخ".

حديثنا اليوم عن اللغة اليمنية القديمة من خلال أحد أساتذتها الكبار الذين تعلَّمنا على أيديهم معنى هذه اللغة، وأهميتها، ومكانتها في الحضارات العالمية من خلال مقرر (اللغة اليمنية القديمة) وذلك هو الأستاذ الدكتور إبراهيم محمد الصلوي أستاذ اللغة اليمنية واللغة العربية وتاريخها، والمتخصِّص فيهما في كلية الآداب جامعة صنعاء وجامعة تعز.

تلقيتُ هذا المقرر مع زملائي من قِسم اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب في العام الجامعي 1994/ 1995م حين كنتُ أدرس المقاصَّة في الآداب، وكان أوَّلُ لقاءٍ لنا معه في إحدى قاعات الكلية مع طلاب الآداب، وكان لقاءً -بالنسبة لي- يحفُّه الكثيرُ من الدَّهشة لأني لأوَّل مرة أتعرَّف على اللغة اليمنية القديمة بما تكتنفه من صعوبة في الحروف، وفي الشَّواهد المسندية، وفي القواعد المرتبطة بها، وكذلك بما تحتاجه من معرفة بتاريخ اليمن القديم وآثاره. ولهذا كنتُ في أول لقاء مندهشًا صامتًا أقلِّب ما لديَّ من معارف سابقة، فأجدُها لا تسعفني بشيء، وأقارنُ ما تعلَّمته في أربع سنوات من اللغة العربية وعنها، فلا أكاد أجد فيها ما يسعفني بمعلومة عن المقرر الذي أتلقَّاه الآن سوى حديث بسيط عام ربما قرأته في أحد كتب الدكتور شوقي ضيف عن النقوش العربية المبكرة وأصول الخط العربي والْتقائه بالخط النبطي، وبعض النقوش مثل: نقش أم الجمال الأول والثاني، ونقش النمارة، ونقش حران...

ومن هنا كان عليَّ أن أقرأ وأن أهرع للمكتبة المركزية ومكتبة كلية الآداب مُستنجِدًا بما يحفظُ عليَّ ماء الوجه أمام أستاذي وأمام الزملاء وبخاصة بأنِّي قادم من كلية التربية وبمفردات مقرراتها المختلفة، وسعيتُ لمعرفة المراجع التي ستفيدني في أبجديات هذه اللغة وتاريخها، وبخاصَّة أن أسلوب أستاذنا كان يقومُ على شرح بعض النقوش المسندية وتحليلها ومعرفة حروفها ومحاولة قراءتها، وكيف لأمِّي مثلي بهذه اللغة وفي بدايات تهجِّي حروفها أن يقرأ نقشًا حميريًا يراه لأوَّل مرة، ولا يعرفُ حروفَه أصلًا، ولا يفهم دلالاتها؟ كيف له أن يحلل ويناقش ويستخرج المعنى؟ ومن هنا كانت المهمة صعبة والتَّحدّي كبيرًا والمنافسة بين الزملاء قد تفضح من لا يَرى سوى التفوق، ولا يعرف سوى الامتياز في دراسته الجامعية، ولهذا كانت مقررات المقاصة جميعها في كفَّةٍ، وهذه وحدها في كفَّةٍ راجحةٍ؛ بلا نقاش.

لم أجد من يدلُّني على أهمِّ الكتب أو على أجرومية اللغة اليمنية القديمة سوى أني وجدتُ في مكتبة الآداب كتابًا للمؤرخ، والسياسي، والدبلوماسي الدكتور محمد عبد القادر با فقيه، وألفيتهُ كتابًا مهمًا ومفيدًا لطالبٍ مثلي في خطواته الأولى؛ وهو (مختارات من النقوش اليمنية القديمة) كتاب شاركه في تأليفه بأبحاث أخرى كلّ من د.الفريد بيستون، ود.كريستيان روبان، ود.محمد الغول، وقدَّمه د.محي الدين صابر المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، والكتاب صادر عن المنظمة في تونس عام 1985م.

ومما احتوى عليه هذا الكتاب المفيد فصلًا بعنوان (موجز تاريخ اليمن قبل الإسلام) بقلم د. بافقيه، وهو المتخصص في هذا الميدان، فكان هذا الفصل بمثابة المدخل المهم لي لقراءة تاريخ اليمن والتعرُّف على بداية التَّمدن، وعلى علاقة الفراعنة بالبحر الأحمر وعلاقة اليمنيين بقدماء المصريين، وآثار الهضبة الإريترية، وملكة سبأ وسليمان، والإشارات الآشورية وغيرها من المعارف والمعلومات الثرية. والأهم فيه هو بيان جهود الدكتورة (بيرن) ودراساتها حول تطور الخط المسند، وهي صاحبة أول دراسة منهجية واسعة في تطور أشكال حروف المسند (الباليوجرافيا) وقد تناولته من أقدم نقوشه المعروفة حتى نهاية عصر ما قبل الميلاد. ويعدُّ عملها هذا -مع ما أضيف إليه من اقتراحات الباحثين اللاحقين- أساسًا مهمًا للكرونولوجيا (أي الميقاتية أو علم التسلسل الزمني) النسبية المعتمدة لذلك العصر. ثم يذكر هذا الفصل عوامل قيام الحضارة اليمنية وتطورها، ومن أهم تلك العوامل: الموقع الجغرافي وقربه من أفريقيا، وتوفر السِّلع المرغوبة لدى أهل البلاد المتحضِّرة، ووقوع اليمن على الطريق البحري بين دول البحر المتوسط والهند، والمناخ الممطر، ووفرة المياه النسبية في الأودية المنبثَّة هنا وهناك، وفي طليعتها وادي حضرموت، وكذلك إنتاج مواد معينة كانت محلَّ رواج كبير في مقدمتها اللبان والمر.

وفيه أيضًا توضيح عن تمركز الحواضر حول مفازة (صيهد) المعروفة الآن بـ(رملة السَّبعتين)، وهي ما أطلق عليها "بيستون" وصف (ثقافة صَيْهَد) على الحضارة اليمنية في أدوارها الأولى نتيجة قيام الحواضر الرئيسة القديمة حول تلك الرملة: مأرب (حاضرة سبأ)، وتمنع (حاضرة قتبان)، وشبوة (حاضرة حضرموت)، وق ر ن و [قرناو] (حاضرة معين)، وتلك الحواضر عادةً قامت على مخارج الأودية القادمة من المرتفعات المحيطة بالرملة، ففي أطراف الجوف قامت (قرناو)، وعلى أذنة قامت (مأرب)، وفي بيحان قامت (تمنع)، وعند نهاية سلسلة أودية عرمة -العطف- المعشار قامت (شبوة).

ثم يعرضُ هذا الفصل المهم للحديث عن حملات (كرب ال وتر بن ذمار علي) ومن هنا نبدأ في التعرف على النقوش وطبيعتها، وذلك من خلال نقش يُعدُّ أطول النقوش وأهمها ويعود إلى عصر ما قبل الميلاد (ربرتوار رقم 3945)، وفيه بيان على حرص الملك على تعدُّد حملاته ونتائجها، فكان أقدم مرجع يعرِّفنا بالجغرافية السياسية لليمن. ويبدو من هذا النقش أن (كرب ال) -الذي يصفه البعض بنابليون اليمن لسعة حروبه وتعدُّدها- كان قد استفزَّه (م ر ت و م) ملك أوسان الذي كان -على ما يظهر- يسيطرُ على المناطق الجنوبية حتى البحر بعد أن استحوذ على بعض أراضي جارتيه حضرموت وقتبان اللتين تحالفتا عندئذٍ مع (كرب ال) كما جاء في النقش (راجع الكتاب ص22).

بعد الانتهاء من ذلك الفصل المفيد، وجدتُ بُغيتي في الفصل الثاني (لغات النقوش اليمنية القديمة نحوها وتصريفها) للأستاذ "الفريد بيستون" حول معرفة ما كان أستاذنا الدكتور الصُّلوي قد طرحَهُ علينا في المحاضرات الأولى عن الضمائر في اللغة اليمنية القديمة، والأعداد، وأسماء الإشارة، وبالمناسبة فقد كانت طريقة أستاذنا هي أن يأتي بهذه الضمائر أو الأعداد مكتوبةً في ورقة ويشرحها، وعلينا أن نفهم ذلك، وأن نسعى لمعرفتها والاطلاع على تفاصيلها في مظانِّها من المراجع والمكتبات، فلم يكنْ له كتابٌ خاصٌّ في هذا المقرر، لكنَّه مؤخرًا طَبعَ كتابًا صدرَ عن دار جامعة صنعاء، حصلتُ على صورة من غلافه وفهرسه من الزميل د.محمد ضيف الله، ويحتوي الكتاب على: تمهيد يتناول جزيرة العرب في التاريخ القديم: الإطار الجغرافي (المكان)، والإطار التاريخي (الزمان)، ولغات جزيرة العرب في التاريخ القديم. ويتبعه ستة مباحث هي: اللغة العربية الشمالية، واللغة العربية الباقية (الفصحى)، وتكوّن اللغة العربية الفصحى قبل الإسلام وتوسعها بعد الإسلام، ونشأة الكتابة وتطورها، وتطور الكتابة العربية بعد الإسلام، وتطور الكتابة العربية وتنوعها بعد عصر الكوفة. وقد حرصتُ بالتواصل مع ولده وبعض أصدقائه للحصول على سيرة أستاذنا الذاتية؛ ولكن للأسف لم نحصل عليها حتى كتابة هذا المقال ونشره، ولم يساعدني في الحصول على صورة له سوى الدكتور غيلان حمود غيلان الذي أمدَّني مشكورًا بصورة للدكتور الصلوي، والغريب أني لم أجد له أيَّ صورة على محركات البحث ولا على قوقل، ولا سيرة ذاتية!

في هذا الفصل تَعرَّفتُ على خط النقوش الصَّيهدية، وهو فرع من الخطوط السَّامية الجنوبية، له بعض العلاقة من جهة بالخط الحبشي، ومن جهة أخرى بالخطوط المتداولة في أواسط الجزيرة العربية وشمالها قبل الإسلام، وهو ما سماه علماء المسلمين بخط المسند و(المسند: كلمة منقولة من اللغات الصيهدية؛ حيث إن معناها "مسند مكتوب")، وفيه (29) حرفًا أبجديًا. ثم نقرأ في ذلك الفصل الكثير من تفاصيل الرموز لتلك الحروف ومقارناتها بالحروف العربية، وتأتي بعض القواعد والتصريفات عن (لغة سبأ) -تحديدًا- كالحديث عن الفعل وأوزانه وتصريفاته وأزمانه وطريقة كتابته وغيرها من متعلقاته، ثم الاسم من الفاعل، والمصدر، واسم الجنس، وعلامة التعريف؛ و(هي نون ملحقة بآخر الكلمة)، وأما علامة عدم التعريف، فهي إما بالتمييم أو بدونه و(التمييم: مصطلح أطلقه الباحثون على إلحاق ميم بآخر الاسم)، ثم هناك حديث عن الإضافة، والجموع، والبدل، والنعت، والأعداد، والضمائر... وفي هذا الفصل وجدتُ بغيتي، وما كان قد أعطانا إياه أستاذنا إجمالًا في المحاضرات الأولى. ولم يقف هذا الفصل عند الحديث عن لغة سبأ، وهي لغة أساس، ولكنه مضى يقارنها ببعض الفوارق والاختلافات في لغة معين، ولغة قتبان، ولغة حضرموت.

استفدتُ كثيرًا من هذه المعلومات كما يمكن -حتى الآن- أن يستفيد منها الطلاب والباحثون الراغبون في معرفة اللغة اليمنية كما أن في الفصول التالية من ذلك الكتاب المؤسِّس رصدًا مهمًا للجهود العلمية من خلال فصل (آثار اليمن وتطور دراستها) بقلم "د. كرستيان روبان"، وهو ما يضع القارئ على خارطة علمية دقيقة حتى تاريخ الكتاب (1985م) عن مسيرة الدراسات والبحوث عن آثار اليمن التي بدأت بمراحل الاكتشافات الأثرية في اليمن وأهمها دراسات الهمداني (280- 360هـ/ 892- 970م).

 لسان اليمن أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني صاحب المؤلفات الشهيرة: الإكليل بأجزائه المعلومة والمفقودة، وصفة جزيرة العرب، وغيرها. ثم الجهود الأوروبية من خلال البحث عن النقوش، واستكشاف الآثار. ثم الجهود العربية التي بدأت بشكل رحلات كشفية، ومن ذلك مثلًا رحلة "أمين الريحاني" المسجلة في كتابه (ملوك العرب أو رحلة في البلاد العربية) 1925م، في ثلاثة أجزاء.

أما في المجال العلمي فقد جاءت المبادرة من مصر بصورة بعثة متعدِّدة الاهتمامات العلمية قامت في عام 1936م بقيادة الجغرافي "سليمان أحمد حزين" وكانت حصيلة عملها (91) نقشًا معظمها من نَاعِط، ونشرت بقلم د. خليل يحيى نامي عام 1943م بعنوان (نشر نقوش سامية قديمة من جنوب بلاد العرب وشرحها).

 وهو أول عمل توثيقي عن اليمن في الوطن العربي. وهناك رحلة الصّحافي "نزيه مؤيَّد العظم" إلى مأرب في 1932م في كتابه (رحلة في بلاد العربية السعيدة) نشرها عام 1938م في جزءين.

ثم يأتي أول عمل يجمع المعارف المتعلِّقة ببلاد العرب قبل الإسلام وبخاصة اليمن في عمل واحد للدكتور "جواد علي" في كتابه (تاريخ العرب قبل الإسلام) ونسخته المنقَّحة (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) 1950- 1960 في عشرة أجزاء، وهو سِفر جليل، وعمل كبير مزود بفهارس قيّمة.

ثم تأتي دراسة المرحوم "محمود علي الغول" (1923- 1983م) التي كانت رسالته للدكتوراه عام 1962م وعنوانها (اللغات اليمنية القديمة والعربية الفصحى) ولم تُنشر بعد للأسف.

أما في اليمن فلم تظهر المشاركة في الدراسات اليمنية القديمة إلا بعد ثورة 1962م على أيدي عدد من المثقفين اليمنيين غير المتخصصين أمثال: أحمد شرف الدين، وزيد عنان وغيرهما من الذين نشروا مؤلفات ترمي إلى إعطاء صورة شاملة للحضارة اليمنية القديمة. ويأتي أول عمل علمي جاد في هذه الدراسات المتخصصة لـ"محمد عبد القادر بافقيه" الذي نشر عام 1967م دراسة لموقع العقلة ونقوشه (وهو جبل يقع على بعد 15 كم إلى الغرب من شبوة)، وكان عنوان الدراسة (آثار ونقوش العقلة، دراسة ميدانية لأحد المواقع الأثرية بالقرب من شبوة في منطقة حضرموت). ويأتي بعد هذه الدراسة كتاب "مطهر بن علي الإرياني" (في تاريخ اليمن شرح وتعليق على نقوش لم تنشر) 1973م، يحتوي على (37) نقشًا معظمها من نتائج الحفريات الإمريكية لمأرب، وبهذا العمل الحافل بالشروحات المفيدة والمعطيات الجديدة والنصوص المهمة أخذت الدراسات اليمنية القديمة تترسَّخ في اليمن. 

ففي عام 1975 قدَّم "د. يوسف محمد عبد الله" رسالة دكتوراه بجامعة (توبنغن) في ألمانيا الاتحادية حول أسماء الأشخاص في النقوش، وما يقابلها عند الهمداني، وهي أول رسالة جامعية عن اليمن القديم يقدِّمها باحثٌ يمني، وبها قام الدكتور يوسف بإدخال هذه الدراسات في جامعة صنعاء لأول مرة. ويدين له البحث العلمي إلى جانب هذه الريادة باستطلاعاته واكتشافاته المهمة وتدريسه وإشرافه ومناقشاته، وبالكثير من الجهود والاكتشافات في (المعسال)، ومنطقة (قانية) بالسُّوادية بمحافظة البيضاء، ومنها أول قصيدة باللغة اليمنية القديمة بأبياتها الـ(27) وقد صاغها شعرًا الأديب العربي الكبير "سليمان العيسى" ونشرت في كتاب بعنوان (ترنيمة الشمس؛ نقش القصيدة الحميرية، صورة من الأدب اليمني القديم).

 اكتشفها د. يوسف عام 1973م، ولم ينشرها سوى عام 1988م، لما احتاجت إليهِ من جهد كبير، ويقول مطلعها:

"نشترن/خير/كمهذ/هقحك..بصيد/خنون/مأت/نسحك" والمعنى (نستجير بك يا خيرُ فكل ما يحدث هو مما صَنعتِ= بموسم صيد خنوان مائة أضحية سَفحتِ...).

(نقش القصيدة الحميرية التي اكتشفها د.يوسف محمد عبد الله)

ثم تدعَّمت هذه الدراسات والجهود بالكثير من الباحثين والأساتذة المتخصصين، ومنهم "د. عبد الله الشَّيبه" الذي التحق بسلك التدريس في جامعة صنعاء بعد تقديمه رسالة الدكتوراه بعنوان (أسماء الأماكن في النقوش اليمنية) بجامعة ماربورغ بألمانيا عام 1982م.

وتعدُّ أول رسالة دكتوراه دولة في حقل التاريخ هي دراسة "د. محمد عبد القادر بافقيه" التي ناقشها في جامعة السوربون باريس عام 1983م، وكان موضوعها (اليمن في فترة ملوك سبأ وذي ريدان، من القرن الأول إلى الثالث الميلادي). وفي هذه الدراسة أرسى الدكتور بافقيه قواعد كرونولوجية لتلك الفترة وقدَّم أول محاولةٍ لصياغة تاريخها، وهي رسالة أكاديمية مهمَّة ضَمَّت العديد من المعلومات، وفتحت الآفاق الجديدة في سبيل دراسة شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام.

ثم تطوَّرت الدراسات اليمينة بشكل مُطَّرد ومتتابع سواء بالنسبة لمجال الآثار أو الأبيجرافيا (علم النقوش)، وتضاعفت تلك الدراسات بعد افتتاح قسم الآثار في كلية الآداب بجامعة صنعاء -بشقَّيه القديم والإسلامي- الذي تخرَّج فيه العديد من الكوادر من أصحاب الاختصاص والمعرفة العلمية، وصار فيه الكثير من الأكاديميين اليمنيين.

 (الأستاذ مهند السياني -رحمه الله- رئيس هيئة الآثار والمتاحف،

 وزميله د. غيلان حمود غيلان أستاذ الآثار بجامعة صنعاء)

ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: د.إبراهيم المطاع، د.خلدون نعمان، د.عبد الحكيم شايف، د.عبد الرحمن جار الله، د. عبد الغني الشرعبي، د.عبده عثمان غالب، د. غيلان حمود غيلان، د. فهمي الأغبري، د. محمد السَّلامي، د. محمد العَروسي، والأستاذ مهند السياني رئيس هيئة الآثار والمتاحف -رحمه الله- وقبلهم جميعا أستاذهم أ.د/ يوسف محمد عبد الله،

وغيرهم الكثير، ولهم جميعًا الاكتشافات المفيدة والحديثة في مناطق متعدِّدة من اليمن، ولولا ظروف اليمن وتعطيلات التَّنمية والحياة الحديثة والقديمة فيه لكان لدينا الكثير من الكشوف والمؤلفات والدراسات التي تفوق الموجود بمراحلَ وأعدادٍ كثيرة.

(طلبة قسم الآثار في أحد المواقع الأثرية مع رئيس القسم د. فهمي الأغبري) 

هكذا دَرَسْنَا اللغة اليمنية القديمة بعوالمها ومعطياتها التاريخية من خلال ذلك المقرر الدراسي، وكانت الرغبة في الاستزادة تدعوني دومًا للاطلاع على ما كُتِب حولها فوجدتُ في التطبيق والتمارين على قراءة النقوش وَلعًا كبيرًا وتعطشًا لم يَروِه سوى كتاب (مختارات من النقوش اليمنية القديمة) -سالف الذكر- والذي يحتوي على (122) نقشًا. وفيه يذكر رقم النقش، ومصدره، وصورته، وتاريخه، ومرجعه، والتعليق عليه، وأدركتُ أنَّه بكثرة التمارين وقراءات النقوش تتمُّ المعرفة وتتعزَّز العلميَّة، وتُفهَم المادَّة، كان أن استعنتُ بكتابٍ مفيدٍ آخر هو كتاب الأستاذ المؤرخ والشاعر الكبير "مطهر علي الإرياني" (نقوش مسندية وتعليقات).

 وهو ذاته الذي نُشر من قَبل في السبعينيات، ولكن في طبعة مزيدة ومنقَّحة كانت الطبعة الثانية منه قد صدرت قبل أربع سنوات من دراستنا للمقاصَّة أي عام 1990م عن مركز الدراسات والبحوث اليمني، بمقدمة ضافية للدكتور عبد العزيز المقالح تحدث فيها عن الكتاب والنقوش والإرياني: المؤرخ والشاعر. وهذا الكتاب يحتوي على الكثير من النقوش، ومنها مجموعة (ألبرت جام) وأولها نقش عن الملك ذمار علي بعنوان (ذمار علي وتار يهنعم ملك سبأ وذي ريدان بن سمه علي ذريح) المسندرقم/1.

 وكانت طريقته في عموم الكتاب تَسير وفق منهجية واضحة بأن يورد نصَّ النقشِ بحروف المسند، ويقسِّمه إلى فقرات لتسهل مقارنة المسند بالحروف العربية. ويورد بعد كل مسند نصًا حرفيًا للمسند كما هو ولكن بحروف عربية وبعددٍ مساوٍ لعدد الحروف المسندية بدون أيَّة زيادات إلا ما جاء خطأً، وبهذا يستطيع القارئ بالعربية أن يقرأ النصَّ المسندي بنفس الأصوات والنُّطق القديم مع الالتزام بالفواصل. ثم يورد شرحًا للنص المسندي من اللهجة العربية اليمنية القديمة إلى اللهجة العربية الحديثة، تحت عنوان (محتوى النص أو محتوى النقش) ولم يسمِّه كغيره (ترجمة)، وهو بذلك على صواب لأنَّ اللغة اليمنية القديمة ليست سوى لغة عربية جنوبية، وليست ترجمةَ، ثم يتبع ذلك بتعقيبات، ومقارنات، وتحقيقات، وشرح لتلك النقوش تحت عنوان (التعليقات).

كانت تلك الكتب والمراجع من أهم ما أفادني في تعلُّم اللغة اليمنية القديمة -على صعوبة ذلك التَّخصص- إضافة إلى ما كنتُ أدوِّنه من ملاحظات وتعليقات أثناء محاضرات أستاذنا الدكتور إبراهيم الصلوي التي كانت تتَّصف بالإيجاز، وقلِّة الكلام، والهدوء المصاحب لِسَمْتِ أستاذنا وطبيعة شخصيته، ولأستاذنا من المؤلفات: كتاب (مباحث في تاريخ اللغة العربية؛ اللغة والكتابة) يُدرَّسُ في معظم الجامعات اليمنية، طُبِعَ في مطابع جامعة صنعاء، ط1، 2010م، وله من الأبحاث:

1)   مساند حِمْيَرية في مصادر التراث العربي، مجلة الإكليل، صنعاء، وزارة الثقافة، عدد (21)، السنة 8، 1990م.

2)   ألفاظ يمنية خاصَّة، دراسة لغوية دلالية مقارنة، مجلة كلية الآداب، جامعة صنعاء، العدد (12)، 1991م.

3)   مباحث في تاريخ اللغة العربية، مجلة كلية الآداب، جامعة صنعاء، 1996م.

4)   كتابات المسند وكتابات الزبور في اليمن القديم، مجلة أبجديات، مكتبة الإسكندرية، 2008م.

5)   نقش سَبئي جديد من نقوش إشهار ملكية أرض زراعية من قرية سوات بمديرية خارف، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة صنعاء، المجلد (32)، العدد (2)، 2009م، وغيرها.

*فصلُ الخِطَاب*

"الخط المسند يحوي 29 حرفًا بينما الخط الفينيقي يحوي 22 حرفًا فقط، وهذا هو الفرق الجوهري الذي يميِّز الخط المسند عن الفينيقي؛ حيث إن أقدم نقش للمسند يعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد. وخط المسند يكشف إسهام أهل اليمن في الحضارة الإنسانية، وإن الإهمال الذي أصاب خطَّ المسند يرجعُ إلى انضمام اليمنيين للإسلام واهتمامهم بلغة القرآن؛ حيث بدأوا يتعلمون اللغة العربية لفهمِ أمور دينهم بينما بقيت كتابات المسند منحوتة على الصُّخور، ومخابئ المناطق الأثرية القديمة، ولم يُعرف عنها إلا بعض الإشارات في المصادر العربية؛ وهذا يدلُّ على ضعف الاهتمام بالمخزون التاريخي لليمن القديم. وبالمقارنة بين خطَّي (المسند والزبور) نجد أن المسند كان يُستخدم في المعاملات القانونية والتَّخليد، وكذلك الاعترافات، والنذور الدينية للآلهة، ولذلك كان يُنحَت على الصخور، وهناك علاقة بين المسند والإغريق من حيثُ عدد الحروف فهي الأقرب لخط المسند، وتشترك مع الإغريقية، وهما مأخوذتان من اللغة السَّامية الأمِّ التي أخذت من كلِّ اللغات، وأمَّا معاملات النَّاس العاديَّة واليوميِّة، والعقود، والحسابات، فكانت تتمُّ الكتابة فيها بخط الزبور. ونقوش الزبور كانت تُكتب على الخشب والجلد لأن اليمن القديم كان مجتمعًا اقتصاديًا تجاريًا، ورأى العلماء والمؤرخون بأنَّ (خط المسند) ما دام مرسومًا على الجدران والأحجار فإنه لن يتطور. وقد مرَّ خطُّ المسندِ بمراحل تتميَّز كلُّ مرحلةٍ عن سابقتها؛ حيثُ كان في (المرحلة القديمة) قائمًا على الزاوية والخطوط المستقيمة، وأشكال الحروف تتميز عن المرحلة الثانية التي تلي القديمة، وفي (المرحلة الثانية) مالت الحروف للزخرفة مع تمسُّكِها باستقامتها، وفي (المرحلة الثالثة) تميزت الحروف بأنها ذات زوايا حادة، وزادت فيها الزخرفة كثيرًا حتى قاربت الرسم، ثم جاءت المرحلة المتأخرة التي تميَّزت بحفر حول الحرف؛ حيث كان سابقًا يمرُّ بحفر الحرف بذاته إلى الداخل لكن المرحلة المتأخرة صارت بارزةً، وبدأت بتشكيل ما حولها، وصار يكتبها شخصٌ محترف ومهنيٌّ فيما يبدو..."@د.إبراهيم الصلوي: (محاضرة في مؤسسة السَّعيد للعلوم والثقافة- تعز؛ بعنوان كتابات المسند وكتابات الزبور).

**تَحيَّة**

شُكرًا لباعثِ عزِّنا الوضَّاحِ.. ولرافعِ الآمالِ في الأرواحِ

شُكرًا لأستاذٍ يخلِّدُ مُسندًا.. ويناقشُ التاريخَ للإيضاحِ

شُكرًا لمن حملَ اللواءَ بعلمِهِ.. ولمن أنارَ معالمَ الأفراحِ

فحضارةٌ عُظمى محالٌ موتُها.. حتى وإن مُلِئتْ بكلِّ جِراحِ

مَهما تَطاولَ ليلُها بظلامِه.. لا بدَّ يُشرقُ فَجرُها بصَباحِ

(نَشوانُ) قالَ عن الملوكِ ومجدِهم.. شعرًا وكَانَ كبُلبلٍ صدَّاحِ

بقصيدةِ (التِّيجانِ) كانَ بيانُهُ.. (فالأمرُ جِدٌّ وهو غَيرُ مِزاحِ)

 *نُشِر المقال في العدد 46من جلة أقلام عربية أغسطس 2020م، محرم 1442هـ
 على هذا الرابط:

https://drive.google.com/file/d/1BaeqIJj5O49Krs8mHQETZnAifoOHjqis/view?usp=drivesdk

تعليقات

  1. مواضيع رائعة ...نتعلم منكم ومنهم

    ردحذف
  2. هل لديه كتب في النفوش اليمنيه القديمه

    ردحذف
  3. أوصي بشدة بفايزة أفضل للتمويل لأي شخص يبحث عن مقرض موثوق وجدير بالثقة. إن التزامهم برضا العملاء، إلى جانب الأسعار التنافسية والخدمة الاستثنائية والوضوح منذ البداية، يميزهم في هذه الصناعة. اتصل بهم الآن إذا كنت مهتمًا بالحصول على قرض لأنني حصلت على قرضي منهم ويمكنك الاتصال بهم عبر البريد الإلكتروني: (contact@faizaafzalfinance.com) أو WhatsApp:+917899377046.

    شكرًا.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]