تهامة تودِّع ابنها البار ومثقفها الكبير وإداريِّها القدير الأستاذ أحمد علي باعبيد رحمه الله!

في ذمة اللهِ!

هذا المثقف الكبير والتهامي النبيل الأستاذ/ أحمد علي باعبيد رحمه الله، وتقبله في الصالحين!.

ربطتني به علاقة ثقافية وأخوية منذ بداية تسعينيات القرن الماضي أيام كنتُ طالبا في جامعة صنعاء، حين كنت أزور خالي عباس العقيدة رحمه الله -صديقه وجليسه ورفيقه وجاره الذي لم يفرِّق بينهما سوى موت خالي قبله بخمس سنوات تقريبا-

كنت ألتقيه في مجلسه العامر بالكثير من التجار والقليل من المثقفين، فيدهشني بسعة اطلاعه وحفظه لغرر الشعر العربي...

وبهذه المناسبة أسأل الله أن يغفر له!

وخير ما نذكر به موتانا بعد الدعاء لهم هو الذكر الحسن الذي يكون للإنسان  عمر ثانٍ كما قال شوقي.

هذه مقدمتي لديوانيه: (بوح الشاطئ)

 و(من زهور الذكريات) 

اللذين نشرهما قبل عقد من الزمان تقريبا، بعد إصرار منا وإلحاح عليه بذلك.

وقد قدَّمهما معي شاعر اليمن الكبير وأستاذنا القدير د. عبد العزيز المقالح الذي قال عنه في مقدمته:

"عندما رأيتُ البحر لأول مرة وسحرني بزرقته، وأمواجه المتكسرة، قلت لنفسي: عجبت لمن يعيش بجوار البحر كيف لا يكون شاعراً وعيناه تغتسلان كل يوم بهذا المنظر البديع وتستطيع رؤيتهما المجردة أن تصل إلى أقصى مدى تصل إليه عين إنسان، وعندما قرأتُ منذ سنوات أول قصيدة لصديقي الشاعر أحمد علي باعبيد أدركت أن ابن الشاطئ الذي تربَّى على منظر البحر وعاش أعوامًا على شواطئه سابحًا ومتسائلًا لابد أن يكون شاعرًا تنعكس في لغته ألوانُ البحر وأطيافُ حورياته، وأنه سوف يستوحي من هدوئه القليل وصخبه الكثير ما يعين شاعريته على التوهج والاشتعال، فالشاعر الحق، ابن بيئته وصدى الطبيعة المحيطة به، ومهما كان تأثره بما يقرأ فإن العامل الأساس في تكوينه الإبداعي يعود إلى التأثير المباشر للمحيط.

وفي عنوان الديوان الأول (بوح الشاطئ) ما يؤكد هذا الاستدلال، كما أنَّ في بعض قصائد الديوان الثاني (من زهور الذكريات) ما يشي بالاعتراف بأهمية الشاطئ ودوره في تكوين الذاكرة الشعرية وربطها بالأشياء والتواصل الحميم مع الماء سواء كان ماء البحر أو ماء الجداول، كما تشير إلى ذلك قصيدةٌ بعنوان (وقفة على شاطئ الذكريات) وتبدأ بالحديث غير المباشر عن الماء:

ألا حبذا النبع والجدولُ ويا حبذا الملـعب الأولُ

ويا حبذا هند مثل الفرا شة تلهو وفي طهرها ترفل

فطورًا لها نغمة العنـدليب  إذا شاقه الروض والمنهل

وحينًا لها صرخة المستغيث إذا روعت فغدت تجـفل

أتنكرها وهي ملء العيوان ومن خلفها فرعها مرسل

وأترابها حولها راكـضات وأنت من السكر لا تعقل

تلاحقها منك عـين تكا د لشتّى مـفاتنها تـأكل

ويهفو فـؤادك حـبًا لها  وهل هند إلاَّ الهوى الأول 

هذا شعر بديع، مكتمل البناء، متماسك المعاني، عذب الألفاظ، ثري التذكر، ولا أخفي أنني انتظرت طويلاً ظهور هذا الشعر في ديوان بعد سنوات من تسويف الشاعر أحمد علي باعبيد وتردّده غير المبرر في تقديم عصارة أيامه الشعرية في أكثر من ديوان. وقد أسعدني أن يظهر هذا الشعر في ديوانين اثنين أولهما بعنوان (بوح الشاطئ) والآخر بعنوان (من زهور الذكريات) كما أسعدني كثيراً أن يوكِل إليّ مهمة تقديمهما إلى القارئ، مع أن قصائدهما البديعة كفيلة بأن تقدمهما كأفضل ما يكون التقديم، فقد أفرغ في كل قصيدة ذوب وجدانه في رؤى عميقة وصور بالغة الرهافة والإبداع، كما نجح في تجاوز النقل المباشر عما هو "فوتوغرافي" إلى ما هو تعبير داخلي وبوح ذاتي يعكس خلجات النفس وما تفيض به ساعات التجلِّي الروحي من حدوس لا تنفصم عن واقع الحياة واستلهام ظواهرها الإيجابية والسلبية على حد سواء.

أقبلت أقبلت وحان الرحيلُ

 جوها غائم ودرب طويلُ

ونهود السحاب تهمى رحيقًا

 ويدير الكؤوس نشر عليل

والروابي كأنهن الندامى

 في انتظار يملن حيث يميل

وجباهٌ تزينت بالدراري

 وبرود بها تتيه الحقول

فتثنت على الهضاب قدود

 مايساتٌ وصبوة وخليل

مشهد يأسر الثريا جمالاً

 وذليلاً يأتي إليها سُهيلُ.

إن هذا الاندماج العفوي والعميق مع الطبيعة في مفرداتها المتوهجة يعطي للقصيدة أبعادها الجمالية والفنية التي تجعلها تأسر الشاعر وتأخذ بمجامع القلوب.

كلية الآداب – جامعة صنعاء

1/2/2012م"

********************

وأضع -لتمام الفائدة والذكرى- مقدِّمتي البسيطة الخجلى بعد مقدمة أستاذي الجليل المقالح والتي فيها بيان لشاعرية المرحوم الأستاذ أحمد علي باعبيد:

"إشارات

   ما يزالُ الشعرُ ذلك الفنّ الأجمل والأعلى صوتًا في ثقافتنا العربية بوجه عام؛ واليمنية على وجه الخصوص لأنَّه لغةُ نَفْسٍ لم تجد من اللغات أصفى منه لسانًا، ولم تستسلم لغواية ألذّ منه بيانًا، وإنْ كان الشعرُ كما يراه "بول فاليري" (1871-1945م) الشاعر الفرنسي الرمزي: "هو لغةٌ خلال لغةٍ" فإنَّ ما يبقى من تلك اللغة هو روحها التي تسرى في وجدان الخلود، وفي امتداد الروح واتساعها، ولهذا فإنَّ الشعر هو لغة الأرواح الصافية النقية التي سمت في عالمِ المُثل، واستشعرت جمالها وعطاءها، واقتبستْ من نورها، فعادت تُحدّثُ الكونَ والحياةَ  عمَّا رأتْ، وكيف أحسَّتْ؟ وهي إذ تنزعُ إلى صوت الإخْبارِ فإنَّها تَخْلُقُ روحًا من روحها، وقبسًا من نور إبداعها، فاضَ حتى عمَّ كلَّ ما يتصل بعالمها ويتعانقُ مع كل إحساسٍ مـرهفٍ من رحلة الحياة، ومسيرة الإنسان.

  وهذا شاعرٌ رقيق الروح جزل اللغة، يَشعرُ من يقرأ إحدى قصائده -بما فيها من مفردات تراثية عالية السَّبْكِ- أنَّ وراءها قراءات عميقة لقرون من الشعر العربي الرصين، وإذا كان الإنسانُ خلاصة قراءاته، فإنَّ هذا الشاعر خلاصةُ محبةٍ واطلاعٍ وتمَثُّلٍ لقمم الشعر العربي عبر عصوره المختلفة، وإن كان قد استغواه المتنبي شاعر الدنيا وشاغل الناس -فيمن استغوى- فإننا نجدهُ يتماهى مع روحه في عددٍ من نصوصه؛ وبخاصةٍ تلك التي تُحَلِّق في تأملات الحياة وحكمتها وآمالها وأحلامها، وهو إنَّما يَظهرُ في شعره التناصُّ المحمود الذي يستنطقُ النصَّ الأول ويحاورهُ محاولًا التعانق معهُ في امتداد المعني، وافق التّفرد.

   الشَّاعر أحمد علي باعبيد شاعرٌ مطبوعٌ نتنسَّم في كلماته نسيمَ البحرِ، وامتداد الشطآن، وصوت الموج؛ عرفتُه منذُ مطلع التسعينات من القرن الماضي في مجلسه الذي يظمُّ عددًا كبيرًا من رواده الطارئين والدائمين، ويجد كلٌّ فيه بغيته ثقافةً وإدارةً وأريحية.

   وحين كنتُ أرتادُ منزلَه في زياراتي للحديدة كان يُدهشني بسعةِ حفظه لمنظوم العلوم ومنثورها من ألفية ابن مالك إلي ملحة الإعراب للحريري وغيرها؛ فضلًا عن روائع الشعر العربي وغُرره، وكان يضيف إليَّ في كل لقاءٍ رؤيةً متعمِّقةً في جوهر الشعر، ومواقف تاريخ الأدب وأعلامه، فأدركتُ أنَّ الأرقامَ وعالم الإدارة - في الميناء حيثُ كان مديرًا له ولفترة طويلة، ثم الجمارك وكان وكيلا لها، وغيرها من الأعمال الإدارية- لم تستطع جميعُها أن تطفئ وهج الحرف وشذا الجمر في روح الإبداع ولغته لديه وبخاصة في فنـِّه الأحب والأقرب إلى نفسه وهو الشعر، ذلك الفنّ المتفرد والجبارُ المتحكم في الروح والوجدان، ومن خلال لقاءاتنا القليلة المتباعدة؛ وبعض مراسلاتنا التي كانت كبلسمٍ يُشفي بها اللهُ أسقامًا وآلامًا ومواساة بعض المرثيات، كان يَظهرُ من ثناياها نَفَسٌ متميزٌ وإبداعٌ حقيقي، وكنت كثيرًا ما أتساءل: لماذا لا يبرز الشاعرُ المثقفُ على الإداري الموظف، في ذات الشاعر أحمد علي باعبيد، وكان رهاني، وربما قناعتي الكبرى بأنَّ الذات الشاعرة الخالدة في شاعرنا هي الأعمق، وهي التي من حقِّها أن تبرز، وأنها لن تضيع في زحمة الأوراق الإدارية والأرقام الجمركية؛ ولعل هذا الرهان والإحساس هو الذي حاولتُ إيصاله- ولو بعد حين- إلى هذا الشاعر المتمكِّن، وقد كانَ، لأنَّه شاعرٌ صادقٌ لا ينفعل إلا مع ما يحسُّ به من موضوعات فيكتب القصيدة حين تدعوه ويلحُّ عليه صوتُها، وهي تأتي مرتبطة بنفثةِ ألمٍ، أو دمعةِ فَقْدٍ، أو طعنةِ زمنٍ، أو تخاذلِ صديق وغدره، ومن أمثلتها الشائعة الشهيرة قصيدته "أصدقائي أم أصدقاء الوظيفة" فكانت تنبعث القصيدةُ من بين ثنايا النفس محلقةً معبرةً.

ومن ذلك البستان المتداخل المتشابك العفوي لملمَ شاعرُنا هذه القصائد التي بين يديكم الآن محققًا نجاح الرهان، وهي كما أسمَاها- في رسالته إليَّ: " بعضُ شتاتِ ما أمكن من بواعث النفس، والمحاكاة، والإخوانيات، والرثاء".

   ولعل أبرز ما تعنيه هذه القصائد هو أنَّها استطاعت الثبات ونَجَتْ بنفسها -دون غيرها من موءُودات الشاعر- من الضَّياع، وهي وإن كانت تمثِّلُ حالةً في حياةِ شاعرٍ فإنها تحمل مؤشرًا آخرَ أكثر تأثيرًا وأبعد دلالة، وهي أنَّها تُمثّلُ ظاهرة في حياة أُمّة أو جيلٍ، بل أجيالٍ متعاقبة وممتدة عبر الزمن.

 وتهامة ذلك المنجم الكبير الخصب كخصوبةِ تربتها كم يمرُّ بها من مبدعٍ، وكم تطوي الحياةُ في سفوحها ووهادها من أضواء لكنَّها لا ترى النور إلاّ لماما، جعلني كلُّ ذلك أردد القول في قناعة، وقد استبدَّ بي حدَّ الهذيان:

وكم في تهامةَ من مبدعين...  يمرُّونَ في الدَّهرِ مَرَّ الكرام

    هذا القبسُ القادم من زحمةِ الحياةِ، وأركان التواضع السحيق التي كادت أن تُقصي المبدع الحقيقي لتصوّره أنَّ ما يقوله–تواضعًا- لا قيمةَ له في سوق الإبداع، ولا مكانةَ له في متجر البضائع المزخرفةِ المزوَّرةِ أحيانًا؛ بينما الحقيقةُ بأنَّ الصيدَ كلّ الصيد في جوفها رغم تواضع صاحبها الذي كاد لفرط تواضعه أن يفقدنا جمالًا من حقه الظهور، وقولًا من حقه الخلود.

   لعلّي قد أطلتُ في هذه الإشارة التي ما دفعني إلى كتابتها إلا المحبّة لفنِّ الشعر –أولًا- ولمبدعٍ يقبعُ في محرابِهِ -آخِرًا- متبتِّلًا في عالم الحرف الصادق، يقوله حين يحسُّه فلا يدرك– أو أنه يدرك ولكنَّه يتغَافلُ- بأنَّ ما قاله هو صلواتُ الحرفِ، وأنغامُ الوجدان، وبوحُ الشاطئ، وبين يديك أيها القارئ الكريم ثمان وتسعون نصًّا شعريًّا ما بين قصيدةٍ، ومقطوعةٍ، وأبياتٍ مثنى وثلاث ورباع موزَّعةً بين وجدانيات، وتأمليات، وإخوانيات، ومرثيات، وحُمينيَّات، كلُّ ما فيها ينبضُ بشاعريةٍ حقيقيةٍ، وثقافةٍ عربيةٍ أصيلةٍ، ولغةٍ جزلةٍ تراثيَّةٍ، ولستُ بهذه العجالة أصادر على القارئ حقَّهُ في الإدراك أو أوجهه في الرؤية؛ ولكنّي أُشير-فقط- إلى مواطنِ الجمالِ في هذا الديوان وصاحبه، وبيئته، ولعلَّ ما ستنتجه القراءة من قِبلِ المتذوقين والمهتمين سيكونُ أبعدَ دلالةً وأعمقَ معنى".

كلية التربية-أرحب، جامعة صنعاء"

*******

رحم الله أستاذنا أحمد علي باعبيد وغفر له وألحقنا به صالحينّ!

وعزاؤنا لليمن عمومًا وللحديدة وأدبائها ولتهامة وعظمائها خصوصًا،

ولابنه طارق أحمد علي باعبيد ولإخوانه جميعا، ولأخيه محمد علي باعبيد ولكافة أسرة الفقيد وذويه وأصدقائه وجيرانه ومحبيه...

وإنا لله وإنا إليه راجعون!

الأسيف: إبراهيم بن محمد أبو طالب.

11ذوالحجة1442ه- الموافق21يوليو2021


 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)