فاطمة العشبي إحدى الموءودات في العصر الحديث


فاطمة العشبي: شعرها سجلُّ حياةٍ للمرأة اليمنية

د. إبراهيم أبو طالب

إنَّها فاطمة، ليست مجرد قصيدة ثائرة متمردة على النمط العام للشكل أو للمضمون، وليست مجرد اختيار لعنوان يتصدَّر صفحة غلاف الديوان الثاني لها، ولكنَّها قصةُ إنسانةٍ عصاميَّةٍ، وحكايةُ شاعرةٍ رافضةٍ للظلم بكلِّ صوره وأشكاله ودرجاته، متمردة على القهر من أول صرخة معاناة أحسَّت بها حين أدركت الفرقَ بينها وبين الذكورِ بعد أن عاشت طفولةً بريئةً منطلقةً رسمها لها والدها شيخُ القبيلة، وبثَّ فيها ثقةً عاليةً، لكنَّها حين بلغت مبلغ النساء، اكتشفت أنها حُرمت من هذا العالم الذي كانت تعيشُ بعضَ امتيازاته، وعليها الآن أن تدخل إلى الخِدر، وتصبحَ من ربات الحجاب.

لوالدها عذرُه، فللعرفِ سطوتُه، وهو أحد حرَّاس ذلك العرف القبلي بوصفه شيخًا، يستمدُّ سلطته أصلًا من تلك الأعراف، في مجتمع قبلي، العرفُ فيه دِينٌ وقيمةٌ، وليس من السَّهل الخروج عليه، ولكنَّها رفضتْ ذلك، وإن رأت قبرَها الذي وُضِعتْ فيه، وأشرفت على الوقوع بين جدرانه موءودةً، وبجواره طلقةٌ من الرصاص من الرشاش ذاته الذي علَّمها به والدها الرماية ذات نهار، وعلَّمها به أن تصيد في الجبال، وترمي (العُقَب) الدجاج البري، لكنَّه الآن سيوجَّه إلى صدرها، وستكون هي الضحية إن واصلت هذا الجنون ورفضت الانصياع لزواجٍ من أول طارقٍ سيطرق الباب رغبةً أو تملقًا لمصاهرة الشيخ.

 وعلى كل حال تبدأ من هنا معاناتها التي طالت لخمسة عقود تقريبًا، وحين كَبُرتْ تلك الطفلةُ كَبُرَت معها قضيتُها، وخرجت من الشخصي إلى الإنساني، ومن اليمن إلى العالم، وبهذا أدركتْ أنَّ الظلم مِلةٌ واحدةٌ، وأنَّ المعاناة -وإن تعددت صورها- يبقى جوهرها واحدًا، وماهِيَّتها واحدة.

فاطمة العشبي امرأةٌ من رفضٍ، وعالمٌ من حريَّة، وأفقٌ من نضال، عاشت حياتها على الكفاف والعفاف وعلى المحبة للجميع، وبذلت جهدًا كبيرًا لتثقيف نفسها، وتعليم ذاتها حتى بلغت شأنًا كبيرًا مُحلِّقة بالشعر، ومحقِّقة وجودها من خلاله -وإن لم ترضَ عنه كثيرًا- لكن الشِّعر أعطاها أجنحةً متعددةً، منها ما كان بالعاميِّة الغنائيِّة، وبه عُرِفت بدايةً، وعَزَفت أوَّل إيقاعاتِها به، وظلَّت مخلصةً له تتغنَّى به على أكثر من شكلٍ بنائيٍّ منه الزامل، وهو الفنُّ اليمني الشعبي، وألصق فنون الشعر بالرجال، وبعالم الحرب والمناسبات الاجتماعية والقَبَلِية، ولكونها نشأتْ في مجتمع قَبَلي ريفي، فقد سمعت منه الكثير، وتشبَّعت روحُها بمواويله وأغاريده في الحقل وفي المناسبات الاجتماعية المختلفة. تقول في مقدمة ديوانها: "تبدأ قصتي مع الشعر منذ طفولتي المبكرة عندما كنتُ أسمع أحد الشعراء الشعبيين وهو يلقي قصائده أمام والدي.. كنتُ أرهف السمع للإيقاع المنتظم والكلمات الموزونة التي لا تتأرجح ولا تطغى الواحدة على الأخرى، لقد لفت انتباهي القافية التي لا تختلف في معناها، ولا يختلف مغناها".

ولكن تظلُّ قضيتُها واضحةً في شعرها بكلِّ أشكاله، ويحضرُ فيه صراعها من أجل إثبات وجودها النَّوعي مقابل التسلط الذكوري حتى وإن كتبت شعرها بلغة فيها الكثير من اللباقة واللياقة مثل هذا الصوت:

"يا هلِّ علمي متى شاتكبروا يا رجالْ؟

وتطردوا اليأسْ نستقبلْ بثوثْ الأملْ

ما شِي تركتوا لنا يا المُخلصاتْ المَجَالْ

سيروا استريحوا، وخلَّونا ننجِّزْ عملْ

تقولْ بنت اليمنْ لا تزعلو يا رجالْ

الشِّعرْ في معظمْ الحالات يِدّي زعلْ

قد اسمَكمْ تِدْعَوا اِن الحقّْ لا زمْ يُقالْ

والله ما قولْ إلا الحقّ مهما حَصَلْ.."

هكذا يأتي صوتُها دونَ غموضٍ، يخوضُ في أمور الحياة، ويعالج جوانبَ مِفصَليَّة في المواجهة، وعجز الرجال عن الإنجاز، وهي دومًا تقول الحق مهما حصل.

ولم يَضعفْ إيمانها بوطنها ولا بأبناء قومها حتى وإن عَصفت بهم الأهوال، والحروب والكوارث، فهي تحييهم بقولها:

"حيَّا اللهْ الشَّعبْ اليماني من صغيره لا كبيره.. شعب التَّحدّي والصمودْ

شامخْ ورَاسيْ فوقْ هام المجدْ والباري نصيره.. جندي ولا كلَّ الجنودْ.."

كما كتبت الشاعرة الأغنيةَ العاطفيةَ التي كانت الأقربَ إلى نفسها، وتغنَّى بشعرها أبرز الفنانين اليمنيين، أمثال الفنان عبد الرحمن الأخفش، وألحان محمد قاسم الأخفش، ومنها:

"غلطانْ يا صاحبي غلطانْ

في الاسمْ والبيتْ والعنوانْ

يا بائع الربحْ بالخُسرانْ

انا بخُسرانك الكسبانْ

***

غلطانْ في الحبّ يا قاسي

يا زارع الشيبْ في راسي

حَلَفتْ لا ذوِّقك كأسي

واسقيك مُرّ الشَّقاءْ ألوانْ

***

غلطانْ ما ناشْ انا المطلوبْ

دوِّرْ لقلبكْ على مَحبوبْ

قد فاتك العُمرْ يا مَغلوبْ

وانا نسيتك وما كان كانْ".

وكذلك كانت تقدِّم قضيَّتها التي هي قضية كلِّ النساء اللائي يتعرضنَ لظلم الأهل في البيئة الريفية، ويُحرمنَ من ميراث الأب، فتشرحها في قصائد طوال تتِّخذ من الشعر الشعبي وعاءً لها؛ لأنه -ربما- الأقدر على إيصالها للشريحة الريفية المستهدفة بالدرجة الأولى، لتوعِّي بها الرجال والنساءَ معًا، وفي قالبٍ قصصيٍّ يشدُّ المستمعَ والقاري، ويفضحُ تسلُّط الرجل وقهره للمرأة، ومنها قولها -من قصيدة طويلة:

"قالوا اخوتي هيا اخرجي لا تِحلَمي يا شاطره

ميراثْ أبونا هو لنا، لا تِسْهَنِي حتَّى سَهَنْ

سيري اشتكينا للرئيسْ كلّ القضايا خاسره

في شرعنا ما بشْ مَرِه تُورَثْ أبوها لا ولنْ

ما بشْ معشْ غيرَ التعبْ من دايره لا دايره

لو ما يشيّب شعرْ راسش لا حقي لشْ بَعدْ مَنْ؟

قُومي اذلفي مِن وجهنا قلوبنا لِشْ باغره

ما عندنا لشْ أي شِي، قد ماتْ أبونا واندفنْ

احنا هنا الدوله، ودولتنا القويه الآمره

واحنا النيابه والقضا واحنا الفرايض والسُّنَنْ

واحنا العداله والشريعه والسجونْ العامره

واحنا الهراوي والجنابي والبنادق والحُقَنْ

واحنا الحكومه والقياده والعيون الساهره

واحنا القوانين الجديده "طُزّ" يا شعب اليمنْ"

هذه القصيدة عرضت القضيَّة بكلِّ جرأة، ووضحتها بكل واقعية، وكشفت عمَّا يُسكتُ عنه من ممارسات الظلم وحرمان المرأة من حقوقها الشرعية والدينية تحت مبررات واهية، وكأنها مرافعة أمام القضاء، وقد جعلتها الشاعرة في قالب قصصي لا ينقصها عناصر القصة جميعها ابتداء بالسرد وتحديد الزمان والمكان، مرورًا بالوصف والحوار، وعرض الأحداث والشخصيات، إنها ساردة شاعرة ذكية، لا حظوا معي هذا المطلع السَّردي من القصيدة السابقة:

"مرَّه من المرَّاتْ وانا في الشَّوارعْ حايره

والشمسْ تِلْسَعني وراسي بالعفاريت اِشْتَحَنْ

لي ساعتين امشي ولا لِي عِلمْ لا وين سايره

رِكِبتْ للتحريرْ، وقد أصبحتْ في بابْ اليمنْ

والجَيبْ فاضي انا اشتي باصْ مانشقادره

ما بش معي عشرينْ ما هذا الدَّبورْ الّي اعتجن؟

واحد مطلّبْ يعتقدني اجنبيه زايره

يشتي مئة دولارْ كان نفسي اضربه هذا المَجَن

بَهرَرتْ له باربع عيون، وقلبتْ نفسي آمرِه

هات الزلط، هات الزَّلط، من دون زَنّْ

مَدِّي يده وإن الزلطْ في وسطْ يدِّي حاضره

مدري مئه وإلا أقل؟ مِنّةْ ولا كلّ المِنَنْ

خِجلتْ من نفسي وهو ينظر بنظره ساخره

كِنّه يقولْ لي: طَلِّبي يا شاعرةْ أرض اليمنْ..."

عَرفتُ الشَّاعرةَ فاطمة العشبي في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، في أكثر من مُلتقى ثقافي، ومحفل علمي وأدبي، ومن خلال التلفزيون اليمني، إذ كانت تُلقِي قصيدتها في حفلٍّ وطنيٍّ كبير أمام رئيس الجمهورية والمحتفلين معه، وتنشد قصيدتها بصوت معبِّر قدير بكلِّ ثقة وشاعرية.

كما عَرفتُها أيضًا موظفةً في مركز الدراسات والبحوث اليمني الذي يديره أستاذنا الدكتور المقالح، فكانتْ حاضرةً بروحِها المَرِحَة، وشخصيتها القوية مع ثقة عالية، وهي تتحدَّث بعباراتها الودودة مع عزَّة وأنفة كبيرتين، تمثِّل المرأة اليمنية (القبيليَّة) الريفية، و(الحضريَّة) المدنيَّة في آن معًا بقيمِها الأصيلة، وشخصيتها البارزة دون خضوع أو انكسار. 

وأول معرفة وحديث شخصي بيننا كانَ عند افتتاح النادي الأدبي اليمني عام 1997م، وقد شاركتْ في فعالياته كثيرًا، وفيه حصلتُ منها بعد ذلك على ديوانها (إنها فاطمة) الذي يُسافر بك في عوالمها البيانية، وموضوعاتها التي لا تخرج عن قضيتها الأم التي عاشت لها، وعُرِفَت بها، وكأنَّ هذا الديوان في مجمله وثيقة حياة، وقصيدة نضال طويلة ممتدَّة لعقود عمرها الشعري، بل وكأنه قصيدةٌ "سيرذاتية" واحدة، يعرفُ القارئ من خلاله من هي فاطمة التي تؤكِّد عليه الشاعرة بـ(إنها..)، ولذا أظهرت الشاعرةُ في هذا الديوان -وفي تلك القصيدة تحديدًا التي حملت عنوان الديوان- عُقدةَ الماضي ولحظته الفارقة، وتجلَّى فيه (القبرُ) وعالمه الذي فُتح لها ذات يوم، فخرجتْ منه بأعجوبة، وغادرته، ولكنَّه لم يغادرها، حيث ظلَّ فاغرًا في وجهها أنَّى ذهبت، وكيفما اتجهت، تحاولُ تجاوزه والنجاة منه، وحين أعلنت عليه الحرب، وجعلته قضيتها الأولى، حوَّلته إلى لافتة وآلة تشهرها أمام كلِّ تحدٍّ وتمارسُها على كلِّ الظلمة في كل مكان وفي كل وقت، تقول:

سأفتح قبرًا لكلِّ الذين أعدُّوا لي الموتَ

في طَبَقٍ مِن ذَهبْ

وأصنعُ من نِصفِ جُرحي جيوشًا

ومن نصفِ جرحي غَضبْ

وأجعلُ بين الطَّهارةِ والإثمِ

مشنقةً للذين يريدون أن يرجموا الشَّمسَ

والشمسُ أبعدُ ممَّن كَذَب..."

وحين تفتح أفق الشعر على كل الفاطمات في الوطن، وتحوِّل قصيدتَها إلى دعوة لتحرُّر بنات جنسها، وهي تستنهض هممَهنَّ في عدم النوم وفي الكتابة، والرسم بكلِّ أنواع الفنون التي ستحققُ وجودهنَّ الفعلي، تقول:

"إنَّ لليلِ فكًّا رهيبًا

يمزِّقُ أحلامَنا النَّاعمة

لا تنامِي إذا دَغدَغَ النَّومُ أعصابَنا

اسهَري ملءَ أجفانِنا

اكتبي فوقَ جدرانِ آلامِنا

ارسمي فوقَ أبوابِ حُكَّامِنا

صوتَ أقدامِنا

انثري فوقَ مشروعِ إعدامِنا

رملَ إعصارِنا

أنشدي نَزْفَ أشعارِنا

ملءَ أصواتِنا

كلُّنا فاطمه..."

تلك هي فاطمة، وما شعرُها سوى نبضات وجودها، وبصمات خطواتها، وما غضبها عليه ووأدها له في كل مراحلها، وعدم رضاها عنه، ولا نشرها له إلا دليل على شخصيتها الرافضة لكلِّ شيء حولها بما فيها هذا الصديق الوديع، والصوت البديع المرافق لها دومًا. على الرغم من أنه صدر لها منه: (وهج الفجر 1991م)، و(إنها فاطمة 1999م)، و(العزف على القيود 2004م)، و(الوطن في حقيبة الدبلوماسية)، و(وا شوقاه إلى البداية) لكن ما وُئِد منه وخفيَ كان أعظم.

إنَّه الشعرُ يا فاطمة، عالمُكِ الذي عَرَّفنا بك، وكنتِ به رمزًا للصوت النسائي اليمني في كل المحافل العربية والقومية واليمنية، لأنَّه الشعر الذي يأتي حين لا تريدينه، وحين تريدينه لا يأتي، ويتمرد عنك تمامًا كما كان في ديوانك الغنائي (العزف على القيود) حينَ جمعتِهِ طوعًا ولغاية في نفسكِ، وصدر ضمن سلسلة كتاب في أسبوع الصادر عام 2004م بالتعاون بين اتحاد الأدباء والكتَّاب اليمنيين ومركز عبادي، ولكنه لم يطاوعكِ، ولم يسلّمكِ قيادَه، تمامًا مثلكِ؛ لأنك أمَّه، فكيف تريدين له أن يَخضع؟!

تِلكمُ هي فاطمة العشبي الشَّاعرةُ التي عانتْ كثيرًا، ولم تَبتَسِم لها الحياةُ إلا قليلًا، وربما في غفلةٍ من مشاكلها الخاصة والعامة -إن كانت قد ابتسمت لها أصلًا- فهي منذُ طفولتها مُجبرةٌ على أن تعيش ثوبًا يتلبَّسُها، ويدفعُها للثقة ولحياة الحريَّة والانطلاق، ثم تُرغَمُ على الخِدرِ والخِباء و(الدَّيمة) وقوانينها الصارمة وأعرافها الثقيلة، ثم حينَ تُحلِّق في عالم الشعر والأدب، وتختاره طريقًا للانعتاق، وتصلُ إلى عضوية اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين ومجلس إدارته، تُرغَم ثانيةً على أن تعودَ مجرَّد عضو فاعل عادي فيه تحت قيود جديدة لأعراف يفرضُها عالم قبيلة المثقفين، وحين تتغنَّى بالعروبة وعوالمها وعزَّتها، وتصل إلى واحدٍ من رموزها الكبار، تشاهدُ مصرعَه ومصرعَ حلمها العروبي وشعاراتها الرنانة، وحين تحاولُ العيشَ في وطن آمن كريم، تتقاذفها الغربةُ، ويطويها الاغتراب واللجوء معًا إلى الغرب الإنساني (بريطانيا) آخر محطاتها التي تُغادرُ منها إلى عالمها الجديد، ووطنها الخالد.

هي امرأة مقاومةٌ بامتياز، وخيرُ دليلٍ على ذلك الأمر- إضافةً إلى ما سبق- أنها قاومت مرضَها الخبيثَ الذي أصابها في الرأس، وقد شَكَت لنا منه ذات يوم بعد عودتها من رحلة علاجيَّة أكَّدَ لها فيه الطبُّ والأطباءُ أنها مصابةُ بالسرطان، ولن تعيش طويلًا، لكنَّها قاومتهُ وخالفت الطبيبَ، وحملت داءها وعاشت به رغمًا عنه وعنهم قرابةَ ربع قرن، لسبب بسيط وهو أنها تحبُّ الحياة وتحبُّ التمرد، بل ولا يحلو لها العيش إلا في هذا التحدِّي الكبير الذي كان شعارها وشعرها، وقد قاومته كما قاومت الظلم والعُرف الاجتماعي الجائر، والتخلف، والقهر، ولأنَّ قضيتها أكبر، وليس في سرطان الرأس وحده، ولكنه في سرطان أصاب رأس الوطن بأكمله وأعاقه حتى الآن، إنه سرطانٌ يجري في تفاصيل واقعنا اليمني المنكسر، وكانت بروحِها الشَّاعرة القوية أكبرُ من كلِّ الأمراض إلا مرض الوطن.

في إحدى قصائدها الأخيرة تصفُ الوطن وتعاتبه حين شرَّدها، وهي تعشقه حتى الوريد، ولكنه فرضَ عليها الرحيل مرتين، فتقول:

"وطني الشقيّ من الوريدِ عشقتُه 

 حتى الوريدِ حفظتُه فرماني

فرضَ الرحيلَ إلى مراتع غُربتي 

 ما أصعبَ التشريد في أوطاني"

ثم تَستغرِقُ في بكائيَّةٍ عميقةٍ، وكأنَّها ترثيه قبل أن يرثيها، بل وتودِّعه وتترك له وصيَّتها، وهي تندب ذلك الوطن المنتهي في حقيبة دبلوماسية مرهونة، كما تندبُ حظَّها العاثر الممتزج بحظِّ وطنها الحائر، ولكنها هذه المرة تُلقِي سلاحَها مستسلمةً، وتشكو كلَّ من حولَها بمناجاة قلَّ مثيلها في الشعر اليمني الحديث، متخذةً من مفردة (أبدًا) علامةً واضحةً على اليأس الذي ربما أسلمَها للمصير، حينَ فقدتْ كلَّ شيء، وفقدت إرادتها التي قاومت بها المرضَ طويلًا، ولكنَّها أرادتْ هي نفسها الآن أن تستسلم لقدرِها مرحبةً بالموت الذي صارعته طويلًا كفارسٍ قويٍّ عصيٍّ:

"أبدًا، ولا وطنٌ أحنُّ لفقْدِه 

 إذ إنَّه السَّرطانُ في جُثماني

فقد انتهَى بحقيبةٍ مرهونةٍ 

 بسياسةِ التَّطبيعِ والغفرانِ

أبدًا فلا حبٌّ أتوقُ لظلِّه 

 يومًا، فقد باتَ الشَّريكُ (أناني)

أبدًا فقد ودَّعتُ كلَّ مواقفِي 

 وتركتُ كلَّ عقائدِ الفرسان 

فبأوَّل الدربِ الطويلِ قَضيّتي 

 وبآخرِ الدربِ الطويلِ هواني

ها قد كتبتُ إلى الحبيبِ وصيَّتي 

 وصرختُ مِلءَ بكائِه بِحَناني

فُرِضَ الرحيلُ فإن وصلتَ مَحطَّتي 

 اجلسْ على ذُلِّ الرصيفِ مكاني"

رحم الله فاطمة العشبي (أمَّ نوف) أيقونةَ الرائدات من اليمنيات المناضلات، والشَّاعرة التي ظَلمتْ شعرَها كثيرًا على الرّغم من إنصافه لها، فهل نجد من محبِّيها اليومَ أو من أصدقائها أو من المؤسسات والجمعيات الأهلية النقيَّة من يجمعُه لنا كاملًا؛ ليكونَ شاهدًا على مسيرتِها الكبيرة، وحاضرًا في تأبينها الأكبر وفي عالمها الخالد، ولا بأسَ مِن أن نُردِّد بألمٍ وأسفٍ مع الشَّابِّي قولَهُ:

الناسُ لا ينصفونَ الحيَّ بينهمُ.. حتى إذا ما تَوَارى عنهمُ نَدِمُوا!

الويلُ للنَّاسِ من أهوائهم أبدًا.. يَمشِي الزمانُ ورِيحُ الشرِّ تَحتَدِمُ

فلا بأس بهذا الكثير من النَّدم، لعلَّه يحقِّقُ القليلَ من الإنصافِ لهذه الشاعرةِ الكبيرة.

وتحيةً لكلِّ الأوفياء، وهم يصنعون الجمالَ، ويضيئون الحياة، ويعزفون سيمفونيتهم الإنسانيّة الراقية حين يُغرِّدون خارج السِّرب، ويشعلونَ مشاعلَ الحياةِ، ويقاومون الموت والموات المفروض عليهم بكلِّ أشكاله؛ في حين يُشعِلُ غيرُهم نيرانَ القتلِ والقهرِ والدمار والفناء، وهم ينصبون في كلِّ زاوية من الوطن مشانقَ الموت، ومدافعَ اليأس لكلِّ الأحياء، وأشباه الأحياء.

لكَ اللهُ يا وطني الجريح الكسير! ولأبنائك المخلصين والمخلصات الخلود، والحياة! 

"أنا امرأةٌ من ضياء

أنا عودةُ الفجرِ

من كلِّ فجرٍ عميق

أنا رايةٌ من حريقٍ

على قِمَمِ الأزمنة

على الذلِّ لا تنحني هامتي

تؤرِّخُني ثورتان..

خرجتُ من الليلِ نَحو صباحٍ

على رأسِ كلِّ شهيدٍ

وأعلنتُ أنَّ الظلام انتهى.!".

[سينشر في كتاب التأبين للشاعرة في القاهرة] 

ونشر في مجلة أقلام عربية العدد(61) نوفمبر2021م.

على الرابط:

https://drive.google.com/file/d/1mAoWw0a-PW_XV2GYBaw_ycSnGvkM8VRs/view?usp=drivesdk  


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)