حوار مجلة العربي الكويتية العدد (778) صفر 1445 الموافق سبتمبر 2023م (الكتابة خلود في الحياة وفي الممات)

الشاعر والناقد اليمني د. إبراهيم أبو طالب: الكتابة خلود في الحياة وفي الممات.

                    حاورهُ – عِذاب الركابي: كاتب وشاعر عراقي

    الشاعرُ والكاتبُ والناقدُ د. إبراهيم أبو طالب والكتابة – الحياة والإبداع لديه سؤالٌ قلقُ، والإجابة عنهُ ظامئة متلهفة، وقد تنوَّعت أدواتُها، ويظلُ الشعر جرسًا وضوءًا في اللغة، بل البوّابة الدافئة التي تمرُّ خلالها بأمانٍ وتألُّقٍ وتجدّدٍ كلّ فنون الكتابة. الشاعر والكاتب..  والشعرُ عنوانهُ الدائم، مهما تعدَّدت فنون الكتابة، فهو بداية التحدّي والمغامرة الشَّاقة – العذبة. والكتابة الباقية الخالدة، وأداتها كلمات لا تموت، وأصابع لا تشيخ، وقريحة مُمَوسَقة، هي الكتابة – الحرية في التشكُّل والمبنى، وتماثل جمالي في اللفظ والمعنى. والكتابة حياة الحياة..! ولديه من حديثهِ الشائق الدافئ الكثير لقرّاء مجلة العربي.. مجلة كلّ المثقفين العرب. وفيما يلي تفاصيل الحوار:

*هي الكتابة في درجةِ الصفر إذن!!

شعر، نقد، بحث أكاديمي، بيبليوغرافيا، أدب طفل، ومسرح.. فسيفساء إبداعية باهرة الألوان والخطوط بحق! أي منهم كانت الروح والجسد في طربٍ وانتشاء؟ مَن الأقرب إليك؟ ويمتلك الإجابة عن أسئلتك الحائرة؟

- في ظني أن الإبداع ملةٌ واحدة تتعدَّد فصولها وتتنوع أنواعها، فتبدو دوحةً كبيرةً تحمل من الغصون والشتلات الكثير مما يحتوي بذرة الجمال وتتشكل فيه ثمار التنوع، من روح الكاتب وعالمه، والشعرُ بوابة الروح إلى عالم ذلك الجمال، وفيه لغة راقية تتماهى مع ذاتٍ محلقة في آفاق من الأسرار والدهشة في بكارة الأشياء: عواطف، ومواقف، ورؤى. وحين خطوتُ في مجال البحث الأكاديمي وتشكَّل لديّ قلق المعرفة وآفاق السؤال، بدأتُ بالنقد في فنِّ السرد لكي أحتفظ -في تصوري- بعالم الشعر والذات الشاعرة على طبيعتها وطبعها بعيدًا عن رقابة الذات الناقدة التي خشيتُ على الشعر منها، حتّى لا تتسبب في تحجيم أو وأد تلك البراعم التي تتحرك بكلِّ أريحية وحرية وتنمو وتتشكل بفطرتها وببراءة اللغة والمشاعر التي يحرّكها صدقُ التجربة وتدعوها إليه رغبة هنا أو ألم هناك أو لحظة تأمل تكتنف البوح وتحرك الشجن والنجوى، ولهذا بدأ تكويني البحثي والنقدي الأكاديمي في عالم الرواية ثم القصة وبأدوات الناقد وذائقته وآليات النقد ومنهجيته، فحصلتُ على رسالتيّ الماجستير والدكتوراه من جامعة القاهرة تلك الجامعة العريقة التي وقف على منصَّتها وفي قسم اللغة العربية فيها روادُ النقد العربي، فكنتُ محظوظًا إذ تتلمذتُ على يد الناقد العربي الكبير الأستاذ الدكتور عبد المنعم تليمة -رحمه الله- الذي أخذ العلم عن أستاذته الدكتورة سهير القلماوي تلميذة طه حسين عميد الأدب العربي، ومن هنا فتقلي النقد والعلم عنهم بالتواتر يأتي في هذا السياق المعرفي الجاد والأكاديمي المنضبط. وحين تشكّل الناقد في هذه المدرسة الأكاديمية تفتَّحت له الرؤى الأخرى، فجاءت الببليوغرافيا في ميدان السرد (رواية، وقصة) أثناء البحث في هذين النوعين، وكان أدب الطفل حاضرًا بالتوازي معه، حيث كان التكوين التربوي والميدان التعليمي في البداية هو دافع القرب من هذه الشريحة العمرية المهمة، وفي بلدي اليمن لم يكن الكبار من الأدباء -نظرًا لهمومهم الحياتية وقضاياهم المصيرية الكبرى- يلقون بالًا لهذا النوع الأدبي الغائب المغيَّب فشرعتُ أكتبُ فيه بدافع المسؤولية، ثمَّ الرغبة، وكلَّما واتت الفرصة، فبدأتُ بأوبريتات تعليمية وأناشيد مدرسية، ثم مسابقات الأطفال القصصية والمعلوماتية (الفوازير) في إذاعة صنعاء لعامين في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، ثم انتقل معي ذلك الهاجس والاهتمام وتلك الشتلة أو البرعم إلى القاهرة فقدَّمتُ عددًا من الأعمال الشعرية لشركة متخصصة في أدب الأطفال، فطورتها ورعتها بالطباعة، ثم بالتلحين والأداء، ثم بالوسائط المتعددة (كاسيت، ثم أقراص وغيرها) حتى انطلقت إلى الفضائيات وقنوات الأطفال في وقت مبكر من العام 2000 وما بعدهُ، وتكلَّل الجهد بجائزة وطنية رفيعة هي جائزة (السعيد الثقافية) عام 2004م فكانت حافزًا مهمًّا للإنتاج في هذا الميدان المهم. وبالتوازي مع الاهتمام بأدب الأطفال كان للمسرح حضور يجذبني إليه، وبخاصة في عدد من المسرحيات التي كانت محظوظة بأسماء كبيرة من المخرجين اليمنيين الأكفاء والممثلين المحترفين فلاقت رواجًا في حينها، وإن كانت موسمية رسمية، وهكذا تحقّقت تلك الفنون بالتوازي ومضت في نموها الطبيعي، فلا تأتي الكتابة إلا وفق قناعة كاملة ووعي بالنموذج المراد تقديمه، لذا أظنها كانت ذات أرواح متَّسقة، وذوات مستقلة، وما تزال الأسئلة مشرعةً على جوانب الحيرة والدهشة معًا.

*بدأتَ شاعرًا، وأنجزت عديد الدواوين الشعرية، صدرت كمجموعة كاملة.. لماذا الشعر؟ وهل كان البوّابة الدافئة التي مرّت خلالها كلّ قوافل فنون الكتابة التي طاردت عصافير وقتك، واستولت على ذهب عمرك؟ حدثني!

- نشأت في بيئة يمنية مثقفة وأصيلة تُعلي من شأن الشعر وتهتم به وترفع صاحبه مكانًا عليًّا تمامًا كما كان يفعل العربي قديما وينظر إلى الشاعر كنبي في قومه أو رافع لواء القبيلة وحامي حماها، هي بيئة ريفية من ناحية أن كلّ من فيها يصغي لوقع الشعر ويتغنى به سواء كان شعبيا -وهو الغالب- أو فصيحا وهو لدى النخبة المثقفة من أسرة تمتهن القضاء والعلم والفتوى والمرجعية الدينية والثقافية، ومن هنا تشكَّلت روحُ الشاعر في عيني طفل يدهشُه ذلك السحر في الجملة الشعرية وذلك المعنى في نغمة الإيقاع، وحين تتغنَّى به الراعية في مرعاها أو الفلاح (البتول) في حقله يزداد دهشة به، فلا تقوم الأعراس إلا بالشعر، ما بين (بَالَة) و(زَامِل)، و(حال)، وكلها من فنون الشعر وتنويعاته في المجتمع اليمني، وحين يتغنّى كل من حولكَ بشعر ابن شرف الدين والآنسي والعنسي والقُمِنْدان والزبيري والبردوني والمتنبي وغيرهم، ويردِّده جميعُ أفراد الأسرة وبخاصة كبيرها ونموذجها القدوة وهو شاعر وقاضٍ وعَالم ووجيه، هنا تكوَّن في وعي الطفل الصَّغير ثم الشابّ معنى التحدي ومعنى الحلم بأن يجيد مثل هذا السِّحر ويقترب من ذلك السِّر الذي يطربُ له الجميع ويستهويهم ويغدو جزءًا من راحتهم، وعلامةً على معارفهم، وعلمًا من علومهم، وبذلك تكوَّنت بذرة الشعر وبدأ التحدي يبرق من عيني طفل لا يرى نفسه أقل من هؤلاء، بل ويريد أن يصل إلى النبع الذي منه غرفوا وعنه ارتووا، فواصل مسيره يتمثل خطاهم ويتشبه بهم، ويتلمَّس في وجدانه جذوة الشعر لعلها تنير له الطريق الطويل الممتد للوصول إلى نبتة الخلود ونبع الماء الذي منه يغرف وعنه يصدر، وبكثير من الحفظ وكثير من الإصغاء إلى صوت الذات الشاعرة تسامت التجربة وبدأت تتحقق رويدا رويدا حتى وصلت إلى شيء من سر الكلمة وبعض من سحرها ولمَّا يتوقف الحلم، ولم ينتهي المسعى.

* هناك ما يُسمّيه " رولان بارت" بـ" ديكتاتورية الكتابة" ومفهومها اللاتحديد واللاقواعد في الكتابة، بمعنى كلّ نصّ يخلق قواعده الخاصة به.. ما رأيك؟

أليس هذا الأفضل للإبداع – سؤال الحرية؟ أم ماذا؟

- لا شكَّ أنَّ كل نصٍّ هو كائنٌ حيٌّ يتخلَّق بشكل ومضمون خاص به، وهو في نظري يولد بشخصية مختلفة عن غيرها وقائمة بذاتها، هذا إذا تجاوز الكاتب قيد التأثُّر وديكتاتورية الكتابة -كما أشرتَ- وهذا ربما يتحقَّق إن أتاح الكاتب المبدع لكتابته أمرين اثنين: أن تكون حرةً في تشكّلها ومبناها، وصادقة في رؤيتها ومعناها، ومهما يكن من أمر فإنَّ الكتابة لا تستطيع بحالٍ من الأحوال أن تخرج عن مواضعاتٍ جنسها ونوعها الكتابي إلا في أحوال بسيطة وربما حالات نادرة، وذلك لأنها في البداية تتشكَّل وفق المنطوق والمفهوم والحد المحدود لما ترسَّب في وعي الكاتب وثقافته الجمعية من حدود النوع يتدخّل في ذلك -غالبا- قراءات كثيرة ونموذج أو مثال أعلى يسيطر على الكاتب كثيرا، وقد يكون ذلك إمَّا للوصول إلى مستواه أو لأنه قد وقع في رَوعهِ النقدي وقراءاته أنه الأمثل، ولكنه حين يصل إليه ويدرك كنه محتواه ويألفه يبدأ في البحث عن طريقة لكسر المثال والبدء في وضع مثال أبعد أو هدف أعلى ومن هنا لا يمكن للكاتب الحقيقي والمبدع أن يقف عند قيدٍ أو حدٍّ ثابت، بل لا بد أن يتجاوزه في كل مرة وإذا لم يفعل توقف وتحجّر وتكلست كتابته ووقعت في دائرة التكرار ومدار المألوف.

* وبمفهوم عبقري الرواية " نجيب محفوظ" الكتابة أو الموت، وعلى حدّ قولهِ: "أموتُ إذا ما مُنعتُ من الكتابة"، وأنهُ في الحياة الأخرى يواصل كتابة ما فاته!! هل هناك خيار آخر بين الكتابة والموت؟ ما مفهوم الكتابة لديك كشاعر وناقد لهُ حضورهُ في الفضاء الثقافي العربي؟

- الكتابة حياة، بل هي حياة في الحياة والكتابة خلود في الحياة وفي الممات، وهي رئة الكاتب التي يتنفّس بها في مسيرته، ويعيش بها مع شخصياته سواء منها ما يخالطها على سبيل الحقيقة أو ما يبدعها على مدار التخييل، والكتابة هي الزاد الدافع للعيش، حين نتوقفُ عن الكتابة تصبح حياتنا خاوية وكأن الروح تتحول إلى مغارة تتردد فيها أصوات الخواء وعوالم الفراغ التي تتلاشى فينا وبنا، وقد تحوِّلنا إلى مجرد أوراق هشَّة تنتظر الحصاد أو أعجاز نخل تنتظر الحريق، أو مجرد أرقام في عالم الموتى السَّائرين على أقدامهم؛ لأن الموت هو الذي يقبع لنا خلف النافذة أو وراء الباب فحتى لا نسمع وقعه وننتظره مع دقات قلوبنا وتصاعد أنفاسنا التي هي خطواتنا إليه، فإننا نبني حياة موازية بالكتابة حياة تفوق حياتنا الواقعية عتادًا وعدّة وامتدادًا، حين نكتب قصيدة ما أو قصة أو خاطرة أو مقالة نقدية أو غيرها نضيف أيامًا إلى أعمارنا وحياة إلى حياتنا، ونظرية جديدة في هذا الكون، ولا ريب أن الإنسان الأول الذي أدرك حقيقة ثنائية الموت والكتابة فإنه قد نقشها على الحجارة وابتكر اللغة القديمة من هيروغريفية ومسندٍ وغيرهما لكي يصنع بها ما يقاوم موتَه الذي رآه قريبًا، وعمرَه الذي لا يكاد يكفي طموحه، ولكنه بالكتابة تجاوز الموت وعاش إلى اليوم، بل وسيعيش إلى ما شاء الله، أليس الأحرى بنا ونحن نملك أدوات الكتابة وآفاقها ووسائلها ألا نتوقف عنها لا لشيء إلا لأننا لو توقفنا عن الكتابة وهي وجه آخر للحلم والأمل فإننا حينها قد حكمنا على أنفسنا بالموت وصرنا بدونها من الصنف الذي يعيش ميتًا وهو ما يزال يتنفّس، لا من الصنف الذي يتحرك فكرًا وروحًا، وكلمةً وخلودًا، فالناس صِنفانِ: موتى في حياتهمُ، وآخرون ببطن الأرض أحياء، كما قال أمير الشعراء، ورحم الله عبقري الرواية وعباقرة الأدب والحرف في كل جيل الذين ما يزالون بيننا، لأنهم كتبوا، وما يزالون يعيشون رغمًا عن الموت، فالكتابة كالمادة لا تفنَى ولا تتلاشى، ولكنها تتوزّع في نفوس كثيرة، وتسري في عقول متجددة.

* في رواية " النسيان" لأكتور فاسيولينسي عبارة تقولُ: "لا تتوقف عن الكتابة أبدًا، وكأنهُ أشارَ عليّ بألا أتوقف عن الحياة".. قُلْ لي لو لم نكنْ نكتبُ ما الطريقة لمواجهة هذا العالم – المتاهة؟ هل يُمكن أن تتوقف عن الكتابة؟ هل لحياتك معنى من دون خيال وتأملات؟

- اليوم الذي يمرَّ في حياتي من دون قراءة أو كتابة لا أعتدُّ به، بل إنني أتألم كثيرًا حين تشغلني بعض المشاغل الحياتية أو الوظيفية عن هذا الميدان الذي أجدُ فيه مرفأ الروح وعالمِها، وأتلمَّس فيها إنسانية الإنسان الحقيقي وتجلياته، حين نكتب أو نقرأ ما يقودنا إلى الكتابة، وكل منهما -القراءة والكتابة- وجهان لروح واحدة، فمن يقرأ لابد أنه سيكتب، ولو بعد حين، ومن يكتب يحتاج في كل كتابة جديدة إلى تجديد ماء أفكاره، وعوالم خياله، وتطلعات روحه من خلال قراءة جديدة ومختلفة ومقصودة، ولهذا -في تصوّرى- أن ما يشدنا إلى الحياة ويجعلنا نقاوم جفاء العالم وتقلباته وآلامه وأحزانه بما يتخطّف الناس من حولنا وما يتسبب في كثير من مآسينا إنما هي الكتابة والكتاب، وأن ما يواسينا ويسلينا هو ذلك القبس من الضوء الذي تتيحه لنا الكتابة بمعناها الواسع وعوالمها العميقة، المخفِّفة للقسوة والمحققة للأمل والقوّة.

* كناقدٍ كيف تقيّم الحركة النقدية لدينا؟ أهي مواكبة لهذا التفجّر الإبداعي بكل أنواعه؟ كيف تفسّر إعلان "رونان ماكدونالد" موت الناقد؟ وهذا صموئيل بيكيت يرى في النقد " استئصال للرحم بمجرفة".. ما رأيك؟ هلْ لدينا نظرية نقدية؟ بمَ تشير بأصابعك لناقدك الأمثل عربيًّا وعالميًّا؟

- حريٌّ بنا أولًا أن نحرِّر مفهوم الناقد، من هو الناقد؟ وما وظيفته؟ النقد لم يعد تابعًا للإبداع ولا ينبغي له؛ لأنَّ في ذلك تصنيفًا يقوم على الأفضلية والتراتبية، وهذا ما لا يرضاه إنسان عادي حُرٌّ فضلًا عن ناقد يرى قدراته وذائقته وثقافته في محلٍّ رفيع، ومن هنا إن كان المراد بالناقد هو من يزيِّن أو يحسِّن أو (يطبطب) على المبدع فموته حقٌّ والانتظار لبعثه ونشوره خير له وللإبداع، وإن كان الناقد هو الحكم الترضى حكومته، والكبير الذي يجب أن تُوضَع له قبةٌ من أدَم أو حتى من ذهب ليحكم بين الخلق، ويقول: اذهبْ فأنت أشعر الناس أو أنت قلت ولم تقل، فذلك ناقد لا حاجة لنا اليوم إلى أحكامه التي لا تقوم على منطق ولا تستند إلى تحليل ولا تحترم موهبة ولا ذائقة، فما يعجبك لا يجب أن يعجب الناس، ولست عليهم بمسيطر. ولعلَّ تلك مرحلة شبَّ فيها النقد على الطوق.

ومن هنا فتحريرنا لمفهوم الناقد وفهمنا لوظيفته أمرٌّ مهمٌّ، ولعلّ التردُّد  في فهمه هو الذي دفع الخارجين على سلطته إلى قتله أحيانًا أو إعلان موته أحيانًا أخرى، وكما أعلنوا موت المؤلف -كذلك- لينقلونا من سلطة الذات إلى سلطة النص وسلطانه، ولكي نسمع صوتنا لا صوت المؤلف ولا صوت الناقد، ومن هذا المنطلق أرى أن النقد عملية حيوية موازية للنص ومتجاوزة له، وهي عملية إبداعية مستمرة ومتجددة يمارسها الناقد الحقيقي المبدع بحريته التي أودعها الله فينا لإدراك الجمال دون وصاية من أحد، ولتلمّس النص دون التقيد  بقواعد جامدة أو تراكيب جاهزة مدرسية، النقد لدينا -وأقصد العرب- كان له نظرية نقدية، ولكنها ضاعت تحت ركام مآسينا السياسية وإهمالنا المقصود وغير المقصود معًا، وكانت قد بدأت تتشكَّل نظريتنا النقدية الخاصَّة في وقت مبكر منذ القرن الرابع الهجري ومنهجية النقد كانت علمية لغوية في أصلها وبدايتها، ثم منطقية فلسفية قَدَحَها "قُدامة بن جعفر" من خلال المثاقفة المبكّرة مع الإغريق، ولكنَّها وصلت إلى الجرجاني فبدأت تتشكل في ملامح عربية من خلال متن الإعجاز وأسراره، فظهرت لديه نظرية (النظم والتأليف)، ومفهوم (معنى المعنى)، لتقدِّم بداية حقيقية في هذه النظرية النقدية العربية، لكنَّها سرعان ما طمستها السنون، وعلقت في ثنائية (المتن والشرح)، وتوقفت عن الرعاية والاستمرارية، حتى بدأت البلاغة والنقد الحديث الذي أصبح يترددُ على موائد الغرب غريب الوجه واليد واللسان، ومن هنا ربما تأخَّرت نظريتنا النقدية العربية الحديثة، وتراوحت بين ثقافتين: عربية تراثية انقطعنا عنها، وغربية مستجلبة انقطعت أنفاسنا دونها في ملاحقتها، إمَّا لقصر نَفَس البعض من مستجلبيها أو لاستعجالهم في ترجمتها ووقوعهم في شَرك المفاهيمية واضراب المصطلح، وعدم استزراعها في بيئة خصبة صالحة لها ومواتية؛ لسبب بسيط هو أن أيَّ نظرية أدبية لا تنشأ من خارج الحدود الإبداعية التي تشكَّلها وتنتجها وفق منطقها الخاص في الفكر، والحياة، واللغة، والبيئة.

* كتبتْ " توني موريسون" تقول: " ليسَ هناك لشيء إثارة بالنسبةِ لي مثل قراءة الكتب والتحدّث عنها؟ بماذا تشعر حين تقرأ كتابًا أعجبك؟  وبماذا تشعر حين تنتهي من نصّ طاردك وكتبك؟ حدثني!

- لديَّ كتاب أسميته (نزهةٌ في العقول) وهو يسير في مدار الإجابة على سؤالك، فما أعظم وألذّ التنزه في عقول الناس -كما قال المأمون- و"الكتاب النافع المفيد دمُ الحياة الثمين، لغذاء الروح المترفة" كما قال "جون ميلتون" هذا الكتاب فيه شيء أثارته تلك الكتب وحركته تلك التجارب الشعرية فكان.

حين تنتهي من قراءة كتاب يستثير فيك الكتابة فاعلم أن ذلك الكتاب قد تجاوز الإعجاب به ودفعك إلى الحديث عنه حديثًا يوازيه أو يسايره ويدعو إليه ويجاريه، إنها -في تصوري- عدوى الكتابة اللذيذة النافعة التي تنتقل إلينا من كتاب مدهش، فأي كتاب لا يدعوك إلى التأليف أو لا يثير فيك الكتابة أو لا يقدح فيك الأفكار والسؤال، سواء عنه أو من خلال ما أوحاه إليك بفكرة جديدة أو بتعميق وجهة نظر ما قد تكون وردت فيه أو استنتجتها عنه، فهو كتاب لم يحقِّق نجاحًا يُذكر، ومن هنا فما أقلَّ الكتب التي نشعر بعد قراءتها أنَّها أعادت تأثيث العالم في أنفسنا، وأعادت ترتيب الحياة في عقولنا، بما جسَّدته من آفاق عمَّقت نظرتنا إلى قضاياه، وفتحت لنا أبوابًا ومدارات من التفكير العميق، أيُّ كتاب ناجح هو الذي يدفعك إلى الأمام خطوات كثيرة كنت ستنتظر طويلًا حتى تصل إليها، وهو الذي اختصر لك المسافات وجعلك تبدأ من حيث انتهى أو وصل.

* وفي سيرتهِ الذاتية قال "بورخيس": "إنّ رواياتٍ كثيرةً مثل دون كيخوته تفتقدُ بالفعل للشكل، ساعدَ على ازدياد إعجابي بالقصّة "!

أليس هذا هوسُ الكتابة اللاقواعد؟ لا شكل للرواية.. لا شكل للقصة.. لا شكل للقصيدة.. ولا شكل للكتابة؟ ما تعليقك؟

- الشكل يخلقه المضمون -في الغالب- وفي كثير من الأوقات قد يكون المحتوى مجرَّد تابع للشَّكل، فإذا وجِد المحتوى الحقيقي الذي يحملُ روح الإبداع ودهشته، فهو من سيوجدُ شكله ويحقِّقُ صورته وشخصيته. والأنواع الأدبية المذكورة هي أشكال وأطر عامَّة في ذاتها ولها آفاقها التي قد تكون قيدًا عند المبتدئ أو إن شئت "أجروميةً" له يسير على خطاها، ويهتدي بهداها، أمَّا المبدع الكبير والحقيقي فهو الذي قد يلاحقه الشكل فلا يطيقه، ويتوسل إليه النمط فلا يقبله، وهو بذلك يفتح فتحًا جديدًا للكتابة في كلِّ مرة، ربما يلاحقه الناقد ويحاول قياس خطواته، أو حصرها أو تصنيفها لضبط إيقاعه، ولكنه هو من يجاوزها ويتجاوزها، وذلك بشرط أن ما يفعله هو ناتج عن عمق الوعي وغاية التجديد ومنتهى الشكل، باختصار الشكل يتجدد بتجدد المواهب الحقيقية الخلاقة المبدعة، وما القواعد والأجروميات إلا قضايا مدرسية للتعليم، وليست للإبداع.

* الكتابة أشبه بالدخول إلى معبد! يفرض علينا قدرًا من العادات! هل لديك طقوس زمكانية أثناء الكتابة؟

- الكتابة لدي نضجٌ في الفكرة أولًا، ثم هجوم لا يسمح لي بمغادرته حتى يُنهي تشكَّله ويحقِّق أكثر وجوده، ولعلَّ من عادات الكتابة لديَّ أنِّي لا أستجديها، بل أراوغها وأخاتلها حتى تنضج وتستقر، وحينها أختار وقتًا من أوقات الإبداع أو الخلوِّ إلى النفس، وبعد قدرٍ من الراحة لتندفع بسلام، وقد هيأتُ لها مرتعًا من الروح، وضيافةً تليق بها من خلال الانقطاع إليها، ولكنَّها قد تجيئ كاملة، وقد تفرَّ أو تنفر حين لا يتحقَّق لها صفو الروح، وصفاء الزَّمن.

* " ولسوف تلتهم الرواية كُلّ شيء"– سانت بيف!

كيف تقرأ هذه العبارة المُستَفِزّة كشاعرٍ، وأنت ترى الهجرة الشرعية للشعراء والكتّاب والنقاد والفنانين إلى الرواية؟ هل البحر آمنٌ والمركب قادرٌ على إذلال شياطين الأمواج؟ هل عجزت فنون الكتابة عن الإجابة عن أسئلة هؤلاء؟ أهي الجوائز العربية المتعددة أم هو اللهاث للقب الروائي؟ وكأنّ هؤلاء لم يمرُّوا من بوابة الشعر أمنين سعداء؟ ماذا تقول وما تفسيرك لهذه الظاهرة، وقد طغت الروايات على دواوين الشعر في المكتبات والأكشاك؟

- فنون الإبداع في نظري كأنواع الفاكهة لكلِّ موسم فاكهته الخاصة، ووقته المناسب، ولكن ليس معنى ذلك أنها تنتهي أو أن إحداها أفضل من الأخرى، ولهذا فالرواية الآن هذا موسمها وقطافها، وزرعها الذي استقام على سوقه، وفي ظني أن الشِّعرية -بمعناها النقدي الحديث- هي ما يجعلُ من نوع أدبيٍّ ما أدبًا متحقِّقًا، فأدبيةُ الأدب وشعريته هي في الأصل متحققة في أي نوع أدبي، كما أن السَّردية -كذلك- كائنة ولصيقة بالشعر منذ أقدم عصوره، فالشاعر كان هو الشخصية وهو الراوي، وفي شعره الحدث والزمكان والوصف وغيرها من عناصر السَّرد، وحين انتقل الشاعر المعاصر- وما أسميته بالهجرة الشَّرعية أو ما أسمِّيه بالنزوح الأدبي- إلى الرواية انتقل بأثاثه وعدَّته وعتاده. فاللغة في الرواية الآنَ لم تعد سردية صافية، بل اختلطت بالشعر وتداخلت بالأجناس وعَبَرت الأنواع، وتجاوزت حدودها المانعة الجامعة، وهذا ربما ما جعل الشاعرُ يجد متنفسًا أرحب لتقديم شاعريته، وليس معنى ذلك أنَّ الروائي أقلُّ منه شاعرية- ولكن لأنَّه وجد من يُصغي إليه، ويسمع إبداعه يتردد في فضاءٍ جديد، وليس أدلَّ على ذلك مِن أنَّ من بدأ شاعرًا هو من حلَّق بقدراته اللغوية وشاعريته في هذا المحضن الجديد وفي عالم السَّرد السَّاحر، ولا شكَّ أن العصر اقتضى هذا النوع الأدبي، وتفرَّق شمل الشعر وربما تشظَّى في أجناس أخرى من قصة وخاطرة وأغنية ورواية وغيرها، ولكن الأهم من ذلك كلِّه هو ألا يغيب الشعر داخل تلك الأجناس، فنحن نتلمَّسُ صوته ونسمع إيقاعه الخاص رغم اختلاف الوعاء.

* ككاتبٍ مثابرٍ كيف تتعاملُ مع الزمن؟ أهو المنتصر الذي يصعب هزيمته برؤى الفلاسفة أم هو في الحاضر والماضي والمستقبل يمرّ كتيارٍ كهربائي كما يقولون.. هل الحاضر لدى الكاتب حالة مُتخيلة.. وحالة حُلم فعلًا؟ أم ماذا؟

- سؤالك عميق والزمن لغز محير حقًّا.. لكن في اعتقادي أننا من يخلقُ الزمن، ومن يتكيَّف معه، بل ومن يعيشه بتفاصيله أو يؤجله أو يتجاوزه، الزمن بوصفه خطًا مستقيما ونهرا جاريا هو ما لا نملك له دفعا ولا منعا ولا حصرا، ولكن الزمن الذي نؤطره ونمسكُ بلحظته هو زمننا الخاص زمن إبداعنا، زمن نقوم بتجميده وتأطيره في قصيدة أو رواية أو كتاب، إنه زمن نفسي نحن من يتحكّم في حدوده ويوقفه أو يشكِّله في إطار ثابت تمامًا كلقطة الكاميرا حين تجمِّد اللحظة وتوقفها، هذا هو زمننا الذي نستطيع أن نحتفظ به في أعمالنا، ونعدُّه من أعمارنا ورصيدنا، أمَّا الزمن السيل والتيار المتدفق الذي يجرُّنا في مسراه فلا قدرة لنا عليه ولا طاقة لنا به، ولا اقتدار لنا عنده؛ لأننا لو لم نتخذ منه وليجةً، ولم نحتفظ منه بذكرى نخفيها عنه لما أنتجنا شيئًا، ولا حققنا طموحًا، ولا امسكنا حلمًا. والزمن لم يحيِّر الفلاسفة والشعراء وحدهم منذُ قال قس بن ساعدة" منع البقاء تقلب الشَّمس" ولكنَّه حالة يجب على الكاتب أن يوقفها حين تحضره الكتابةُ، ويستمع إلى وقعها؛ سواء كان متخيلا أو حالما أو واقعيا، فالغاية أن ينتصر للفعل بالقول المكتوب، ويفوز بالقول بتفعيله في النصِّ، ويجسِّد المكان بتثبيت اللحظة الزمنية، وحينها قد يُعطيه الزمن قياده وربما يسلِّمه شيئًا من خلوده. 

* كتبتَ للأطفال أيضًا شعرًا جميلًا!

لهذا النوع من الكتابة طقوسهُ المتفردة، ألهذا عدد مَن يكتبون للطفل قليلون؟ أم هناك شروط ترتبط بكتابة جادة وهادفة للطفل؟ ما أهمّها؟

- الكتابة للطفل مسؤولية (إبداعية وقِيَمية وتربوية)، ولهذا فالمحافظة على هذا المثلث يحتاج إلى نضج كبير لا أحسب أني أدعيه أو بلغته، أقول دومًا إني أغنّي مع الطفل ولا أغني له، لأن غنائي معه يحجبُ نشاز صوتي، وأقول إني أحاول بالكتابة للطفل أن أرتقي إليه وإلى عالمه الجميل المعقَّد، وإلى سمّوه النبيل المُفْرِط في البراءة، وإلى خياله الكبير الذي يفوق خيال الكبار مهما حلَّقوا، ولهذا فالكتابة للطفل تحتاج إلى قواعد معرفية وإلى قاموس خاص لمخاطبة مراحلَ عمريةٍ محدَّدةٍ وفق قراءة جادَّة وثقافة عالية، فليس ما يبسّط للطفل من أدب الكبار أدبًا موجهًا للطفل، ولا ما يُكتَب له بوصفه راشدًا أو رجلًا صغيرًا أدبًا كذلك، بل هو نوعٌ يقوم على مواصفات خاصَّة، ورؤية واضحة؛ لا تعقيد فيها ولا استسهال، ولا صوت فيها يعلو على صوت الطفل والطفولة، فيناسب خياله، ويقود إلى إدهاشه، فإن فعلتَ ذلكَ وحقَّقته فقد كتبت للأطفال، وإلا فما أنت سوى مجرد كاتب وحسب.

* هناك عبارة تقول: "كل كاتبٍ لديه كتابٌ، فقط يحتاجُ إلى أن يبحثَ عنهُ"! أي كتاب قادمٍ تشيرُ إليه بوصلة إبداعك؟

- مع كل تجربةٍ وكتابٍ ينفتحُ الأفق على غيره، وثمة مشاريع كتابية تنتظر وأخرى تتهيأ، ولكن لعلِّي في الفترة القادمة أعمّق كتاباتي النقدية في مجال السرد، وأخرى في الكتابة الموجهة للأطفال التي أراها تمثِّلُ هاجسًا ملحًّا، وأمَّا عن الكتاب القادم ببوصلته، فسيكون عن (حكايةُ السرد.. سردُ الحكاية) مقاربات في تشكّل الحكاية في فنِّ القصة وأدب الرحلة. وقد أصبحَ مُنجزًا يبحثُ عن ناشر.

===========================================

رابط الحوار: https://alarabi.nccal.gov.kw/Home/Article/24867










موقع مجلة العربي:https://alarabi.nccal.gov.kw/


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)