خواطر حول ملتقى الإبداع الخليجي



ملتقى الإمارات للإبداع الخليجي، الدورة الثالثة: 2012م
(خواطر ورؤى ثلاثة أيام في الشارقة)


د.إبراهيم أبو طالب

   حين تغادر مدينة صنعاء مستقبلا مدينة أخرى تحس للحظات بانتشاء الخروج، ربما حرَّكَ فيك ذلك ذكرى جينات الهجرة المترسبة في وجدانك منذ زمن سيل العرم، أو الزمن المعاصر حين تطير بك الأحلام لهجرة البحث عن مستقبل أفضل أو لكي تعود محترماً مرموقاً في بلدك عبر الخارج – ولو لحين- كما عاد يوما نسيم حميد، وفؤاد المحنبي، وخالد نشوان والقائمة تطول،
ولكن لحظات اللذة المؤقتة سرعان ما تتلاشى ويعاودك الحنين إلى صنعاء المدينة الساحرة بجوها وفطرتها العذبة ذات الجمال الطبيعي غير المتكلف، ذلك الإحساس الخفي هو ما راودني وأنا أدخل في فضاء الشارقة بجمالها الحديث ومبانيها الشاهقة ذات الأشكال الهندسية المختلفة التي تتبارى فيها سباقاً نحو السماء وعلواً نحو التميز والاختلاف، فتختال في مدنيتها الحديثة ووفرتها الباذخة بوسائلها وأدواتها وأناسها من الإماراتيين والأجناس الأخرى التي تبدو في سباق متواصل نحو العمل والبناء، كلُّ شيء منظم ومرتب إلى درجة القيد، لا مجال للتقصير، يطالع الزائر لمطار الشارقة بداية لوحةً كبيرة تحمل شعار (ارفعه عالياً ليبقى شامخاً) مرسوماً بألوان العلم الوطني الأربعة في احتفائه بالعيد الـ 41 لاتحاد الإمارات، يطرز ذلك الشعار على شاشات العرض الكثيرة والمتناثرة بنظام وبذخ في أرجاء صالة الاستقبال والوداع ميديا مصورة وفيديو يلعب بأشكال كثيرة تتشكل من ألوان العلم الأبيض، والأحمر، والأخضر، والأسود في حركات تعبر عن الحياة بمرافقها من بناء ورياضة وطبيعة ونهضة وأفاق مختلفة، وثمة صور لأمراء الإمارات السبع في انسجامهم وتماسكهم شعار في كل مكان وصورة أيقونية على كل حائط أو ملصق أو صحيفة، تحية للإمارات إذن في عيدها الوطني ومزيداً من هذا التلاحم بين أمرائها المنعكس على جميع أبنائها الذين قدموا أنموذجا يُحترم في بناء وطنهم اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا، وكل إمارة أخذت إمارة نوع من المهام الإستراتيجية الكبرى فلدبي إمارة الاقتصاد، ولأبوظبي إمارة السياسة وكنترول الانطلاق، وللشارقة إمارة الثقافة وإليها نحطُّ رحالنا أنا وصديقي الشاعر جميل مفرح، - وكان من المفترض أن يكون ثالثنا الشاعر الأديب علوان الجيلاني، لكنه اعتذر لظروف خاصة- مشاركين في ملتقى الإمارات للإبداع الخليجي في دورته الثالثة لهذا العام في الفترة 4-6 ديسمبر 2012م، والذي يشارك فيه قرابة الـ (26) شاعرا وناقدا من دول مجلس التعاون الخليجي، واليمن، والعراق، وضيف الشرف لهذا العام الجزائر الذي ابتعثت لتمثيلها نقداً د.طارق ثابت، بورقة حملت عنوان: (المشهد الشعري المعاصر في الجزائر؛ القصيدة الحداثية، وبنية التحول)، وشعراً كل من عزوز عقيل، ومسعود حديبي، والأوّل طارق ثابت شابٌ وباحثٌ متميز ذو روح لا تبتعد عن روح اليمنيين شكلاً ومعنى، في حين أن الشاعر بن عزوز بسيط في علو المبدعين، ومسعود حديبي أكبر المشاركين سناً كان الأكثر شبابا في شعريته حين يتحدث في إحدى مقطوعاته عن التغريدة الفيسبوكية، وهكذا كان تعارفنا وإقامتنا في فندق (سنتروCentro ) بجوار مطار الشارقة والمطلّ على سرب طيران العربية لأنها الناقل الرسمي لأعضاء الملتقى، كانت تلك الإقامة سبيلا للتعارف ومركزاً للقاءات المتنوعة والطويلة في ردهات الفندق مع الشعراء والنقاد والإعلاميين، وهذه اللقاءات هي ما ينسج المودة وإذابة جليد المجهول عن الشخصيات بين المؤتمرين أو الملتقيين أثناء تناول الطعام في البوفيه المفتوح الذي قد يمتدُّ لساعات يغلب فيه لذةُ الحديث والتعارف لذةَ الطعام، ويكون أول يوم للملتقى فتقدم فيه أوراق بحثية وندوات وحوارات جادة في فترة الصباح في قاعة أحمد راشد ثاني بمقر اتحاد كتاب وأدباء الإمارات بالقصباء المكان الجميل في أحد أدوار المبنى الواسع، كانت جلساتها وفي اليوم التالي ليوم الافتتاح، تستمر الجلسات وأولاها حول التحولات والاستجابة في القصيدة الخليجية، شارك فيها الدكتور أحمد الزعبي الناقد الأردني المقيم في الإمارات، وورقته بعنوان: (مظاهر الحداثة في الشعر الإماراتي) وجعفر حسن من البحرين، بورقة حول (القصيدة الحديثة في الخليج، كتابة التحولات، أحمد العجمي نموذجاً) والدكتور سالم خدادة من الكويت، وأدارها محمد المزيني من السعودية، فيما عالجت الجلسة الثانية موضوع (القصيدة الحديثة في الخليج، الانفتاح على الأجناس والفنون الأخرى)، وأدارها الناقد المصري عبد الفتاح صبري مشرف نادي القصة في الاتحاد،  وشارك فيها الدكتور إبراهيم أبو طالب من اليمن، بورقةٍ حملت عنوان: (مرايا الفراشة ونارها؛ قراءة في القصيدة الخليجية الحديثة، وانفتاحها على الأجناس والفنون، ديوان الفراشة لبروين حبيب أنموذجاً)، والدكتور حسن مجَّاد من العراق بورقة بعنوان: (تجليات القناع بين الأداء الدرامي والنزوع الذاتي في القصيدة العراقية الحديثة).

   وكانت الجلسة الثالثة في اليوم التالي، أدارها الباحث اليمني الدكتور عمر عبد العزيز، قد قدمت خلالها ورقتان للدكتورة ميساء الخواجا من السعودية بعنوان:(جدلية الثبات والتغير: قراءة في حداثة الشعر السعودي)، وورقة صالح غريب من قطر بعنوان: (خصائص القصيدة المعاصرة وجوانب من ملامحها وتطورها)، ضمن محور (القصيدة الحديثة في الخليج: بحث في الأصول والملامح والتطور التاريخي)، وورقة للباحث العماني الدكتور حمود الدغيشي، ضمن محور (القصيدة الحديثة في الخليج: الآفاق وهواجس التغيير).
 وفي المساء يحلُّ الشعرُ ويسقط سقوط الندى لنستمع خلال الليالي الثلاث إلى ثمانية عشر شاعراً وشاعرة بواقع ستة شعراء كل ليلة يحلقون في عوالم الدهشة والإدهاش، قادمون بالجديد مما أنتجته قرائحهم معبراً عن هموم خاصة وعامة من أوطانهم الممتدة من العراق: أحمد عبد الحسين، وطالب عبد العزيز إلى اليمن: جميل مفرح إلى السعودية: هدى الدغفق، وعبد الرحمن الحربي، والبحرين: أحمد العجْمي، وإيمان أسيري، وقطر: د.زكية مال الله، وعلي ميرزا، وعمان: د.سعيدة بنت خاطر، وعبد الله العريمي، والكويت: نشمي مهنا، والإمارات: حمدة خميس، وخلود المعلا، وشيخة المطيري، وسعيد القبيسي، والجزائر: بن عزوز عقيل، ومسعود حديبي، شعراء متفاوتون في الأعمار، ومختلفون في التجارب الشعرية، حيث يحلق الشعر بأجنحة تنويعاته عبر قصائدهم ما بين عمودية وتفعيلة، وقصيدة نثر، وتتمايز طرائق أدائهم بحسب قدراتهم على الإلقاء والتمثيل لشعرهم لكنهم في جميع الأحوال كانوا محلقين منسجمين مع جمهور نوعي جاء ليطرب للسماع ويغذي لحظاته بإدهاشات اللغة، وعذوبة التجربة، وفي جمهور الحاضرين في بيت الشعر لفت انتباهي طفلةٌ يمنية دون العاشرة من عمرها تتابع الشعراء باهتمام وتأمل قد لا يلتزم به من هو في سنها لكن "آية" تهتم وتتابع كالكبار بجوار أخيها الوليد ووالدتها وأبيها الإعلامي الدبلوماسي عبد الحكيم الحمادي صاحب الخلق الرفيع والذي حضر لمجرد معرفته بأن في الملتقى أدباء من اليمن، لكن هذه الـ "آية" عندما حاولت التقرب منها بقطعة حلوى كانت على جانب البوفيه وبمقربة من مجلس الشعر أجابتني بلغة جميلة فهمتُ منها حبها للعربية الفصحى والأدب واستنتجت بأنها غداً ستكون من أديبات اليمن لأنَّ روح بلقيس قد سكنت وجدانها وكذلك غزال المقدشية، وزينب الشهارية تطلُّ من عينيها الجميلتين، وكذلك رأيت فيها ابتسام المتوكل، وآمنة النصيري، ونادية الكوكباني وغيرهن، وهي في طريقها - بعد سنوات- لاعتلاء هذه المنصة التي كانت ترقبها بشغف وتأمل، صفَّقت "آية" طويلا وكثيراً مع الجميع لابن بلدها الشاعر جميل مفرّح حين ألقى قصائدَهُ الطويلة المكثفة، وهو يتدفق كبحر من الشعر لا شاطئ له، لأن لديه الكثير، وعشر دقائق لن تكون كافيةً لكل هذا الشعر المتحرك المسمى "جميل مفرح"، ولكن حسب الشعر اليمني أن يكون حاضراً ومدهشاً وقوياً كما هي حالته حتى في قاعات الدراسات النقدية التي وإن كانت مخصصةً للقصيدة الخليجية بتنويعاتها، فإن تجربة الحداثة في القصيدة اليمنية وفي أعلامها حاضرة في أمثلة الدارسين، وقراءاتهم، ومداخلاتهم.
   تمضي بنا أيام الملتقى الثلاثة في تعارف وودٍّ عربي وهموم وأحلام مشتركة شعريا وحياتياً يحوينا حسنُ تنظيم اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، فلم نشعر بأي تأخير في موعد أو تقصير عن واجب، تستقبلنا الابتسامات الرقيقة من كل فريق العمل المتناغم من قاسم سعودي إلى الهنوف، وفاخرة، في الاستقبال والتنسيق، إلى أحمد حسن المصور الذي لا تكاد كاميرته تفوّت صغيرة ولا كبيرة من حركات الوفد والحضور إلا ثبتتها في إطار إيقاف اللحظة، إلى القاص إسلام أبو شكير برقي عباراته وتنسيقه، أما المبدعة سناء مدحت فهي مهندسة العلاقات بحضورها الراقي وابتسامتها التي تشعُّ نقاءً وصفاء، وكل شيء في غاية الترتيب، يحرك هذا الفريق المتناغم شخصيتان مبدعتان هما: رئيس الاتحاد: حبيب الصايغ، والأمين العام: أسماء الزرعوني اللذين يفتحا آفاق التواصل مع المؤسسات المختلفة كبيت الشعر الإماراتي ومؤسسة العويس وغيرها، فتحية للجميع على كلّ ذلك البهاء.
   لاحظت حضوراً عربياً مؤثراً في صناعة المشهد الثقافي في الإمارات فليس مُحتكراً بل هناك مشاركة للأكاديميين والإعلاميين والمثقفين من أكثر من بلد عربي من العراق أمثال د.صالح هويدي، وعبد الإله عبد القادر، وساجدة الموسوي، وغيرهم، ومن سوريا إسلام أبو شكير ومن الجزائر د.الرشيد بوشعير، ومن الأردن د.أحمد الزعبي، ومن مصر عبد الفتاح صبري، وزكريا أحمد وغيرهم، ومن اليمن د.عمر عبد العزيز، وفي مؤسسة العويس وجدت شاباً، عرفته يمنياً من نباهته، هو وليد اليزيدي طاقة من الحركة، وحسن الاستقبال، كل ذلك يصنع المشهد الثقافي في الشارقة ودبي بتعاون حقيقي وبتفانٍ واضح وانسجام كبير لأن الثقافة صناعة عربية خالصة، وحب البيان موهبة متأصلة في العقل العربي – كما يرى الجاحظ- "بأن الحكمة نزلت في العرب على ألسنتهم..." ومن هنا فلا غرابة أن يكون هذا الانسجام واستقطاب العقول والخبرات ناجحاً وحصيلته هذا الكم الواضح من الفاعليات الثقافية، والمجلات المتميزة، والكتب، والإصدارات ذات الرقي في الشكل والتنوع في المضمون، والطباعات الفاخرة والورق الصقيل، خذ ما شئت من مطبوعات العويس المعروضة على الأرفف والتي تدافعَ عليها جميع الحاضرين لاقتنائها، وسيصلك عددٌ كبير من إصدارات اتحاد كتاب وأدباء الإمارات إلى غرفتك في الفندق لتنعمَ بقراءتها عند عودتك، والكتابُ هو أفضل صديق ترسله مع صديقك الجديد الذي تعرفت عليه في لحظات ليبقى معه طويلا ويحدثه عنك حين يعود إلى أهله، ويستقر به المقام في وطنه مصحوباً بتوقيعك، وإيميلك، ورقم تليفونك مع إدراكك بأنه ربما لن يرسل إيميلا إلا القليل، ومن سيتذكرك حين يجدُ فرصةً للقراءة، ولكن هذه عادة الملتقيات، وحب الإنسان للتآلف والتعرف على الآخرين، وتخليد اسمه في ذكرى الزمن، وذاكرة الإنسان.
   نغادر الشارقة وثمة كلماتٌ مضيئة نقرؤها على وجوه الإماراتيين عنوانها الإصرار على التميز في بناء وطنهم الجميل، ويتردد في وجدانهم صدى كلمات باني الإمارات الحديثة المرحوم الشيخ زايد بن سلطان في وفاءٍ منقطع النظير بينهم وبين روحه المحلقة في كل مكان، وفي ذكرى اليوم الوطني للاتحاد تقرأ كلماته المضيئة التي تقول: "إن الاتحاد هو السبيل الوحيد لتحقيق الأمن والاستقرار لشعبنا وحماية مقدراتنا وتوفير الحياة الأفضل لمواطنينا بما يكفل مواجهة الأطماع التي تحيط بنا من كل القوى المتصارعة".
   تذكرتُ قومي ليتهم يعقلون، وينطلقون للوحدة والبناء وعدم الصراع العقيم، الذي استغرق منا نصف قرن بلا فائدة تُذكر إذا ما قيست بالآخرين في زمنهم الأقلّ، وهاأنذا أعود إلى صنعاء مدينتي الجميلة الفطرية الساحرة عبقها أو عفنها هو قدري وألذ ما عرفتُ وهناك على لوحة صورة لشاب يقول هل تشاركني يوم 12/ 12/ 2012م لتنظيف مدينتك "بصْمَتُك تبني اليمن"، نعم، سأشاركك لكي لا أرى مدينتي أقل من مدن الآخرين، وسأظل أحلم بها تحفةً راقية بين المدن، وسأرفع هامتي عالياً كما أمثلها دائماً بين البشر وأخرج متميزاً منتصرا – في كلِّ مرة- ليمنيتي وعروبتي واعتزازي ببلد علينا جميعاً أن نشعر به، وبمقداره، وبأهميته وأن نبنيه بحبٍّ وإخلاص، وسأرفض أي شعور آخر قد يقودني إلى الإحساس بأنني أقلُّ من الآخرين.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)