سؤال الثقافة؟!




سؤال الثقافة والمستقبل
د.إبراهيم أبو طالب 

   إن السؤال حول مستقبل الثقافة من أهم الأسئلة التي تقدمها الأنساق الحضارية لمجتمع من المجتمعات عبر تاريخيها، وهو سؤال جوهري لأنه يعبر عن مدى تطور الشعوب، واهتمامها بأعلى منتجها الحضاري، ألا وهي الثقافة؛
لأنها الهوية وهي القوة، ولا شك أن عصرنا الحاضر هو عصر الثقافة بكل مكوناتها، الثقافة في مجال المعرفة التقنية، أو المعرفة التكنولوجيا، أو المعرفة الصناعية، أو المعرفة الحضارية التي تشكل نوعاً أساسياً من حوار الحضارات أو صراعها - بحسب "صامويل هنتنجتون"- ومن هنا فإن الدور الأبرز هو دور الثقافة، وسؤال ما مستقبلها؟ بلا ريب من أهم الأسئلة  التي تقدمها البلدان أو تتساءل حولها عندما تتحول من طور إلى طور أو تتجاوز الأمس إلى الغد، وهكذا أدركنا في تاريخنا المعاصر أهمية السؤال من خلال كتاب الرائد الكبير عميد الأدب العربي د/ طه حسين في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر)، وهو يخرج بالسؤال وبالمتسائل من طور التأخر إلى أفق التقدم، ومن عدمية الفعل الثقافي إلى طموح تأسيس دور ثقافي حقيقي ينافس في مجال الأمم، ويحقق حضوراً كبيراً لمصر بتاريخها وخصائص بنيتها في الإنسان وأفقه، وفي محتوى ما أحدثه في تاريخه من وجود، لكي يعيد الروح لهذا الإنسان، ويؤكد أهمية فاعليته وحقيقة وجوده.
 ونحن في اليمن نشترك مع كثير من بلدان الحضارة في جوهر وجودنا وأهميته؛ حيث إن وجود اليمن عبر التاريخ وجودٌ حضاري، ولم يكن ليتحقق هذا الوجود لولا ثقافة فرده، ثم ثقافة مؤسساته، لأن ما صَلُح به ماضينا هو ذاته ما سيصلح به حاضرنا ومستقبلنا وهو الثقافة ودور المثقف الذي يعول عليه كثيراً في البناء والتغيير والتطوير.
 ومن هذا المبدأ يجب أن يُعطى هذا المثقف مكان الفعل والعمل، لا دور المتأمل والناقد المتابع من الخارج وكفى، وعليه فلن تتطور رؤانا إلا إذا قادها منتجها الفاعل (المثقف)، بالتعاون مع بقية المؤثرين في صنع القرار- وكل فرد هو صانع حياة – ولكن يجب أن يعود الأمر غلى نصاب العقل وتأكيد دور المنهج الحقيقي، لأن ثنائية المثقف / السياسي هي التي صنعت ثورات اليمن ابتداءً من عام 1948م مروراً بالثورتين الخالدتين سبتمبر وأكتوبر فتحقيق الوحدة، فقيام ثورة الشباب كل ذلك كان المثقف والسياسي فيه كيان واحد، وصوت واحد وحين ينفرد بالقرار الثاني – أي السياسي- فإن النتيجة بلا شك هي الفردية السلبية، والتأخر، والجمود.
 إن مستقبل الثقافة يصنعه المثقف الحقيقي وحين نتحدث عن هذا المثقف فإننا لا نقصد به كياناً هلامياً عدمياً من عالم المثل – ولكنه كيان فاعل منتج في تخصصه قادر على الفعل في مجاله، مكتمل في دوره لأنه قد امتلك عناصر أدائه ومقومات ثقافته، وبنيته التكوينية الحقيقية.
 وبهذا يبرز تساؤل حقيقي يرتبط بالمجتمع ويتصل بمرافقه وهو (من هو المثقف؟) هل هو مجرد المتعلم، المتخصص في مجال ما من المجالات المعرفية، أم أنه الفاعل في تطور المجتمع صاحب الدور الفعلي في الشأن الثقافي والتنوير والبناء المجتمعي؟ لا شك أنه المقصود بدلالة المثقف، لأن الأول قد يكون متعلماً في مجاله لكنه غير قادر على صنع التغيير والمبادرة التي تجعله قائداً في مجتمعه، وهو بلا شك سيصبح تابعاً لذلك المجتمع بما قد يجره إلى عاداته أو تقاليده أو أعرافه السلبية، وليست الإيجابية، فيتحول إلى منْ لسان حاله: قول الشاعر القديم:
(وما أنا إلا من غُزَّية إن غَوَتْ  ...غَوَيْتُ وإن تَرْشُدْ غزيةُ أرْشدِ)
   هنا لا يتحقق دوره، بل إنه سيصبح سلبياً بكل المقاييس، وإنما المثقف المنشود دوره هو الرائد الذي لا يكذب أهله، ولا يقودهم إلى سلبيات موروثاتهم، بل ينطلق بهم إلى آفاق الرحب، والبناء، والتطور، مع توازنه في شتى مجالات تفكيره وسلوكه، وبهذا المثقف الحقيقي يتطور المجتمع، وينتقل من حال إلى حال.
   ويظل دوره هو العنصر المهيمن ومن هنا سيتبعه اهتمام المؤسسات بتحويل جهده وجهد كثير من أمثاله إلى أنساق مؤسسية تقود الثقافة إلى صناعات حقيقية تنافس صناعات العالم المتطور لأنه لم يعد في زمن الشركات العملاقة والصناعات المتطورة في مجال صناعة الثقافة من دورٍ يُذكر للفرد أو المثقف (السوبرمان، الجامع، المانع)، وإن كان أساسياً -بلا شك- ولكنه لا يظهر ما لم تتضمنه وتحتويه وترعى عبقريته تلك المؤسسات المنظمة والمدعمة بمنهجها، وخططها، ودراسات جدواها، وبناء خطواتها، ثم تنفيذها في أنساقها المختلفة.
إذن إننا نحتاج الآن إلى إعادة دور المثقف إلى الصدارة، وإتاحة المجال أمامه للعمل دون أن نُكَبِّله بهموم العيش، والسعي من أجل توفير لقمة البقاء فقط حتى يحتفظ بوجوده البيولوجي اليومي دون أن نعطيه المجال لأن يبدع وينتج ويفرّغ هذا العقل الذي أعطاه الله وأودعه مواهبه لكي يبني ويعمل لا أن نشغله بفتات المعاملات وروتين المتابعة حتى في أبسط حقوقه، لأن مثل ذلك اليومي والروتين تحققه الإدارة الناجحة التي نحتاج في هذا الوطن أن تكون من أوائل مهام التغيير والتطوير لأن الإدارة تطورت وتغير مفهومها إلا في هذا البلد فعليها أن تلحق بإدارات العالم التي غدت على شكل إدارات رقمية لم يعد الإنسان معيقا لخطواتها كما هو حاصل لدينا، وإعطاء العقل والإبداع داخل المثقف فينا مجالاً للحركة وحرية للانطلاق لا أن نقيده –كما سبقت الإشارة ووجب التأكيد عليها- باليومي والهامشي من أمورٍ تجاوزها العالم، وما تزال لدنيا قابعة تتسببُ في أكل أعمارنا واستنفد إبداعنا، وبعد ذلك نظلم المثقف بسؤالٍ صادم جارح مؤداه: (ماذا فعلتَ ؟ وأين أنت في رصيد العالم؟).
   نأمل أن يكون المستقبل للثقافة والمثقف، وعلى الجميع أن يسعى لتطوير ذاته وتثقيفها ليلحق بركب الحياة القادمة المنشودة في اليمن العظيم بمستقبله الثقافي.     
  

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)