السرد اليمني وقضية الاستقلال



لمحة عن الاستقلال والنضال الوطني في السرد اليمني
د/ إبراهيم أبو طالب
كان للقصة القصيرة والرواية اليمنية حضورٌ واضح في معالجة القضايا الوطنية والاجتماعية بروح الأدب الملتزم بقضايا الوطن واحتياجات المجتمع، وتصوير جهود شخصياته في الدفاع عنه، ورصد القضية الوطنية، بكلّ فلسفتها ورؤاها وجوانبها النفسية والوجدانية، وفي هذه الإطلالة السريعة سنقف عند بعض تلك النماذج القصصية والروائية التي عالجت هذا الموضوع، ومن ذلك -على سبيل المثال لا الإحصاء أو الحصر في هذه اللمحة- قصة "الكرنفال" لسعيد عولقي في مجموعته القصصية (الهجرة مرتين، بيروت، دار الفارابي، عدن، دائرة التأليف والنشر بوزارة الثقافة والسياحة، ط1، 1970م)
وهي قصة تقوم على المونولوج غير المباشر، وتظهر فيها شخصية "عم صخر" الشخصية الرمزية المعبرة عن شخصية اليمني المناضل الذي أفنى عمره في الدفاع عن الثورة، وتعرَّضَ للجوع وللسجن والألم من أجلها، ثم يموت في سجنه منفرداً دون أن يشعر به أحد واحتفالات عيد الثورة على أشدها، هذا هو خطها السردي ملخصا، في حين بقية أحداث القصة تبدو غير مترابطة أو متتابعة بسبب تيار الوعي الذي يجعلها عائمة ممتدة في كل زمن وبلا زمن أحيانا تظهر متفرقة في ذهن عم صخر يرويها لنا ضمير الغائب حينا أو يحيلنا عليها ليترك عم صخر يظهرها بصوت الأنا حينا آخر،"استسلم عم صخر للأرق.. وأخذ يجمع التبغ، ويلعق ورق الشام ليعد لنفسه لفافة تبغ يرحل بها إلى أعماق نفسه لينبش فيها ركام الذكريات بين أطلال الماضي، كأنما لم يكن لحياتي مطلع الذكريات البعيدة في القرية، ثم في زنزانة السجن في المدينة والإصرار.. الإصرار على الحياة في القرية وفي الزنزانة.. والقمر يبزغ ويأفل ولا يوحي بشيء.."(ص 56) ، وهكذا تستمر الأفكار والذكريات في تداعيها بلا رابط، وكأنها هلوسات محموم ولكنها تعبر عن أزمة الشخصية وصدمتها في الواقع الذي لم يقدر لها فعلها الثوري والنضالي فتنتهي حياته كما تنبأ بها الأب من قبل وعاشها وهي تتحقق معه الآن"سوف تبتلع السجون دائما أشرف الناس، ويمضي اللصوص في الشوارع"(ص56).
والنموذج الآخر يظهر في قصة "الإنذار الممزق" للقاص أحمد محفوظ عمر في مجموعته القصصية ( الإنذار الممزق، عدن، دار الهمداني، ط2، 1983م) والذي يأتي فيها البطل الوطني مستمداً قوته من موقعه النضالي ومن جماعته، فيرفض حماية المستعمر والخضوع لإرادته، ويستمد ذلك من جلسائه "وقبل أن يبت الشيخ في الأمر نقَّلَ عينيه بين وجوه جلسائه أو بالأحرى برلمانه الشعبي، فقرأ على وجوههم الشاحبة آيات الاستنكار والإصرار على رفضه، فالتقط الشيخُ الرسالة بحركة آلية ومزقها نصفين، ثم أعادها إلى الرسول ثانية، وقال بصوت يخنقه الغيظ: نحن في الانتظار للترحيب بكم، وعاد الرسول إلى حكومته"(ص13).
ومن هنا يتصاعد الموقف البطولي لهذا الشيخ ومن معه، وهو من البداية يدرك نتيجة رفض الإنذار من قبل المستعمر وتمزيقه، ويعلم أن خصمه يفوقه عُدَّة وعددا، ولكن البطولة تتمثل في المواجهة وقتال الخصم، والبطل هنا لا يخرج عن واقعه وعصره - فليس بطلاً خارقًا- فهو يواجه قوة استعمارية بعدد قليل من الرجال يعرف مصيرهم، وحين تبدأ المعركة غير المتكافئة ويرى المصابين بقذائف الطائرات فإنه يبكي وما بكاؤه إلا لأنه"يرى الظلم والاستبداد ينتصران على الحق والحرية"(ص16)، وهذا البطل ينتظره الموت كنتيجة حتمية، هو يعرفها وينتظرها لكنه لا ينهزم ولا يهرب، بل يواجه إلى آخر لحظة من عمره، ويتلقى النهاية بكل شجاعة لأنه يشعر شعورا عميقا بأنه سيظل حيّا في جماعته، حتى وإن مات،"وكما كان أسلوب تمرد أهالي القرية أسلوبًا حضاريا وإنسانيا – على الرغم من تخلف الحياة الاجتماعية والاقتصادية – كان أسلوب رد الفعل الاستعماري وحشيًا وخاليا من الضمير الإنساني، فالقصة تجسد وحشية الاستعمار البريطاني.. وأن الاستعمار لم يكن يحمل رسالة تمدينية"-كما يقول عبد الله علوان في مقال بعنوان- (تطور الوعي في قصص أحمد محفوظ عمر، مجلة الثقافة الجديدة، العدد 1، السنة 20، فبراير 1990م، ص 36)، وهذا الشعور هو الذي يتجسّد في ملامح بطل إيجابي آخر هو"خميس العفيفي"في قصة"القوي والأقوى" لسعيد عولقي في مجموعته سابقة الذكر، الذي يستطيع بعدد قليل من أتباعه – لا يتجاوزون خمسين رجلا – أن يُكوّنَ جيشًا لقتال المستعمرين، فيذيقهم الأمرَّين مدافعا عن وطنه وحريته، فيتحول لدى الناس إلى منقذ تُرْوَى حكاية بطولاته في كل مكان، ويزيد عليها الراوي في المقهى على الطريقة الشعبية والذي يسمى "عبده تشوتيه" يزيد عليها أحداثًا من خياله، ويشبهه بأبطاله الخالدين أبي زيد الهلالي، وعنترة، ولكن هذا البطل يقع في أيدي جنود الاستعمار، ويُحبس بالأغلال، ويُعذَّب لكي يركع للسلطان وللمستعمرين، فيرفض ويصمد حتى يموت شامخًا، وهو يخاطب السلطان بكل ثقة، وهو في الأسر بقوله "نعم أنت تملك السلاح، والمال، والسلطة، والأتباع... لكنك لا تستطيع أن تقهرني وترغمني على الركوع..لذلك أنا أقوى منك" (ص 45).

   أما الرواية فقد عالجت موضوع المستعمر وطريقة النضال ضده وربطت الفعل الثوري في الشمال والجنوب وذكرت أهم مواقف الثوار، وما مر به الوطن من صعوبات لتحقيق ثورته، وما حدث من حصار على صنعاء وقد جاء هذا الموضوع وغيره في عدد من نصوصها في المدونة الروائية اليمنية بطريقة أو بأخرى، ومن تلك الروايات: مرتفعات ردفان لحسين صالح مسيبلي، والرهينة لزيد مطيع دماج، وطريق الغيوم لحسين سالم باصديق، وغيرها وسنقف عند أنموذج واحد من تلك الروايات، وهي رواية ربيع الجبال لمحمد مثنى (عدن، دار الهمداني، ط1، 1983م): فـ» حزام « بطل رواية » ربيع الجبال « يسمع حكاية شعبية معروفة هي حكاية (بشيبة ولا بكلّ الشباب) عن شخصية وطنية تخلص أبناء قريتها من ظلم إقطاعي كبيرٍ يسمى الدندكي، فتحتال عليه، يسمعها في إحدى جلساته في القرية، وما زال »يرددها ويتحدث عنها باهتمامٍ ووَلَهٍ، كأنه بطلها الحقيقي، وأحيانا يصور المنظر ويمثله كأنما كان حاضراً مع القرى في تلك الأزمنة السحيقة« (ص100) ويتعلق حزام بهذه الحكاية من بين الحكايات الكثيرة التي سمعها، حتى يقول له رفيقه: »إذا كنت، يا أخي تريد أن تكون بطلاً كالكهل، فلماذا لا تصعد إلى رأس جبل، وتـركب الضباب إلى الأبد؟‍!« ص (101).
وتأتي نهاية حزام نهاية بطولية، واستجابة لسؤال رفيقة، يصعد إلى الجبل (جبل عيبان) دفاعاً عن الوطن في صفوف المقاومة الشعبية في حصار السبعين يوماً على صنعاء، حيث يقاتل حتى يستشهد فداءً للثورة والوطن » كلهم هنا سقطوا بشظايا قنبلة، ولكن حزام نهض كشابٍ في عز الشباب، وأطلق قذيفتي بازوكا، وهو يترنح بدمه، ثم سقط مرة ثانية، وكانت هي السقطة الأخيرة« (ص109) .
وهكذا يرسم بطل الرواية نهايته مع فارق في الزمان، واتفاق في المكان، فكلا الحدثين يتم على جبل، وكلا البطلين يموت دفاعاً وتضحية: الشيخ يدافع عن أبناء قريته لينقذهم من استغلال دائم من إقطاعيٍّ مستبدٍ في زمن سحيق، وبطل الرواية يموت دفاعاً عن أبناء وطنه لينقذهم من العودة إلى الملكيَّة في الزمن الحاضر في حالة فشل الثورة لو سقطت صنعاء في حصارها، ويحدث فعل البطولة بتأثير سحر الحكي، وقصة البطل الشعبي الذي يحدد مصير بطل الرواية، ويضع نهاية مثلى لمشواره الطويل مع الغربة في البلدان الأوروبية والمشاركة في الحرب العالمية الثانية مع الطليان في صفوفهم كأجير حرب لا هدف له، ليترجل الفارس على تراب الوطن كأصدق نهاية وأبلغ حب، مدافعاً عن قيمة نبيلة- تجبُّ ما قبلها من تقصير نحو نفسه وأهله ووطنه- إنها حرية الوطن واستقلاله.
وهكذا نرى أن الأدب السردي قد شارك في توصيف الحالة الوطنية بمستوياتها في دفاعها عن الوطن تماماً كالشعر والمقالة والمسرح وغيرها من الأجناس الأدبية الأخرى ليكون الأدب رديفا للنضال بالسلاح، وبالمقاومة، وبالالتزام بقضايا الوطن واحتياجات أبنائه لأن الأدب يظل المقياس الصادق والمعبّر الأكثر تأثيرا عبر العصور وفي مختلف الظروف والأزمان.

* نشر في صحيفة 26 سبتمبر.العدد 1673، 6 ديسمبر 2012م


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)