مقاربات في السرد اليمني الحديث



رواية "امرأة .. ولكن".. المأساة والإعاقة حين تكون امرأة
د/ إبراهيم أبو طالب
   رواية "امرأة .. ولكن" للكاتبة الحقوقية لمياء يحيى عبد الرحمن الإرياني رواية مفعمة بتجسيد المعاناة بكلّ جوانبها، وجعلها نابضة صادقة ملموسة، إنها تروي حكاية "آمنة" الطفلة ثم المرأة التي أصيبت بعَرَجَةٍ خَلْقِيِّة وانحناء في ساقيها سبَّبا لها إعاقةً ومعاناة نفسية وجسدية بالغة الحِدَّة، وكانت على نفسيتها أكثر من أي شيء آخر، وعزز تلك المعاناة مجتمعٌ لا يرحم ولا يقدر حالة المعاق، بل يزيد - بالتشفي حيناً وبالشفقة حيناً آخر- من عمقها وألمها.
   الرواية تعتمدُ في سردها على ضمير السرد (أنا) المتكلِّم في شرح تفاصيل حياة بطلة الرواية منذ الطفولة حتى سِنّ الشباب، وهي كذلك تعتمد أسلوب الراوي العليم بكلِّ التفاصيل وخفايا الأمور.
   وقد نجحت الرواية في تصوير كافّة جوانب المعاناة لتلك البطلة "آمنة" بمراحلها وانتكاساتها منذ طفولتها، بل ومنذ سنواتها الأولى مبينةً سبب الإعاقة مروراً بسن المدرسة وتجسيد طموحها في الدراسة التي سبقتها بعام إليها صديقتها " سارة" بنت الحسب والنسب، الثرية وابنة صاحب المنزل التي يأويها، وأمها التي تعمل خادمة فيه، وقد صورت الرواية العلاقة التي نشأت بين (آمنة)، و(سارة)، وهي علاقة صداقة ومودّة، ثم مضت الرواية في تصوير الكثير من التفاصيل اليومية في ذلك المنزل الفخم من خلال شخصيات أهله وطباعهم وعاداتهم المتبعة على مدار الأيام، ولكن الملاحظ أن تلك الشخصيات في عمومها شخصيات ثانوية سطحية غير نامية عدا شخصية سارة وشخصية آمنه وتأتي معهما شخصية أحمد الصديق المشترك منذ طفولتهم، والأولى (أي: سارة)، تَمَّ الاهتمام بها لأنها صديقة آمنة الشخصية الرئيسة في الرواية، وكذلك تمضي في متابعة تطورها ونموها مع شخصية أحمد الذي نما معهما وبينهما –كما قلنا- وأعطته آمنة حبها منذ الطفولة في حين أعطى هو قلبه ومشاعره لسارة التي لا تحبه، وهكذا تتصاعد قصة حبٍّ نهايتها الحرمان، ثم المأساة بموت أحمد بسبب سياسي في حرب 1994م تحت أنقاض الصاروخ الذي وقع على منزلهم في القاع ليموت أحمد، وهكذا تفقدُ آمنة أجمل شيء في حياتها لتكرّس الرواية المآسي مجتمعة على هذه المرأة التي لا حظَ لها في شيء.
   تبدأ الرواية من حيثُ الزمن بالحاضر، وبلحظة بيع آمنة/المرأة للخبز على الرصيف كواحدة من ضحايا المجتمع ومهمشاته، تنتظر من يشتري منها خبزها، الذي يبقي عليها وعلى حياتها، وفي هذه اللحظة تبني عالماً من الأمل لا ينتهي لأن الأمل من مكملات العيش والبقاء، هاهي تنظر في الشارع الطويل، وتنتظر شخصاً يأتي كلَّ يوم ليزيد لها في ثمن الخبز أكثر من قيمته الحقيقية، وقد يشتريه كلّه أحياناً، وهي تمضي في تأويلاتها وترسم عالماً من النشوة والحب الافتراضي من طرفها المتعطش للحنان، وهي ترى في هذا الرجل صديقها وحبيب طفولتها الذي اختطفه الموتُ، كما أخذَ منها كلَّ جميل في حياتها المعذَّبة، ثم تعودُ بالذاكرة لتسرد قصتها كاملةً في تكسير للزمن في خطِّيَّته، وتراتبيته، وهذا ملمحٌ تجديدي في سرد الرواية، يضاف إليه ملمحٌ آخر يتمثَّلُ في محاورة صوت القاصة/ الكاتبة ذاتها وحضورها بحوار مع صوت السارد، وعلى امتداد الرواية لتوضيح جدل الظهور بين ما كانت عليه الفكرة في نظر القاصة، وما تريد الظهور به البطلة، ومناقشتها للطريقة التي كان عليها رسم الشخصية وفقاً لها، ولِمَ لمْ تجعلها أقل مأساة؟، ولمَ قست عليها بكل هذه الهموم والمواقف؟!، وغيرها من الحوار والتوضيحات التي تدخل كتجديد في تيار وعي مختلف يميل إلى توضيح أسلوب القاصة، ومبررات سردها وهذا شيء تجديدي يكسر من الرتابة المألوفة في الكتابة الروائية، وهذا الملمح جديد، استطاع أن يكسر من تقليدية الحكاية بعض الشيء، وأنها مكررة بموضوعها الهامشي في حكاية ربما تتكرر آلاف المرات من خلال شخصيتها المهمشة المعاقة، في عدد من المجتمعات المتشابهة.
   ثم كيف أن هذا الصوت يأتي متوازناً وغير مُخلٍّ طوال الرواية، يحدد مسارها ويعلقُ على ما قد يتبادر إلى ذهن القارئ من تساؤلات، ولعلَّها تدركُ كلَّ ما سيدور بخَلَدِ المتابع وذهنه في كمِّ المعاناة والمآسي التي حشرتها في حياة معذبة لم تَرَ للفرح طريقًا، ومقدار الخوف في حياة هذه الـ "آمنة".
   فـ"آمنة" يتيمة، عرجاء، غير جميلة، تتعرض لكثير مما يتعرض له الأطفال من التحرشات والمضايقات والانكسارات النفسية البالغة التأثير في نفسيتها وتنشِئتها، ولعلَّ اهتمام الكاتبة بعالم الطفولة، وحقوقهم كان وراء الكثير من الموضوعات الجزئية والتفاصيل التي دخلت في بناء القصة كالتحرش الجنسي بالأطفال الذي تعرضت له آمنة من (صالح) الخبَّاز في طريق عودتها من المدرسة، وكذلك تعرَّضتْ من قَبله في عمرها الصغير الذي لم يتجاوز التاسعة لِتحرش آخر من أحد حراس المنزل الذي تسكن فيه بل وقد حاول اغتصابها حين حملت إليه الخبز في يومِ مرض أمها، -ولعلَّ الخبز يرسمُ قدرها منذُ الطفولة- وكيف هددها بالمسدس إن هي أباحتْ بالأمر لولا أن عودة صاحب المنزل ومرافقيه من الحرس الآخرين قد أنقذها في آخر لحظة، ثم يأتي موضوع الاعتداء بالضرب من المدرِّسة أستاذتها القاسية، وعقوبتها النفسية في المرة الأولى حين سخر منها الطلاب وضحكوا من مشيتها العرجاء داخل الفصل مما يجعلها تنقطع عن المدرسة لعامين كاملين.
   ثم كيف يسخر منها الأطفال - رغم ما يفترض فيهم من براءة- في لعب الكرة حين طلبت منها سارة أن تترك الفرجة وتشاركهم اللعب، وكيف أثر كل ذلك في نفسيتها؟!، وأخيراً تأتي الحادثة الأشدّ على نفسها وكانت القطيعة بعدها بينها وبين المدرسة إلى الأبد، وهي في الصف الثامن بسبب عقاب مدرِّسة الانجليزي التي طلبت من الفصل أن يقف جميعُ الطلاب على رجل واحدة ويرفعون أيديهم، وهي لم تستطع لإعاقتها فعلَ ذلك، ولكن أستاذتها تعدُّ ذلك التصرف تكبرا ورفضاً لأمرها، ولم تتفهم حالتها الصحية وإعاقتها، بل لطمتها على وجهها، فيكون ذلك آخر عهد لها بالمدرسة التي لم تجد فيها من يحنُّ عليها أو يعاملها معاملة إنسانية تربوية في مكان هو الأجدر بتلك المعاملة، وبذلك الإحساس بحالتها.
   كلُّ ذلك الألم تقبلته آمنة بألم نفسي آخر موازي وانهزام داخلي، ولم تخلق منها ما سمته القاصة وأرادته آمنة بالفولاذية أو المرأة الحديدية التي ربما تخلق امرأة تتحدى الإعاقة، والسبب أن القاصة لجأت إلى الواقعية وإلى تصوير النماذج المماثلة والأكثر تحققاً وحياةً في الواقع، وهي النماذج المستسلمة لظروفها وإعاقتها، وكان ذلك هو اختيار القاصة لأن النادر الذي لا حكم له هو من يخلق شخصية فولاذية لم تكن (آمنة) هي ذلك النادر، بل مضت لتجسد الشائع من الشخصيات المستسلمة، والتي تغدو ضحيةً لمجتمعٍ مُتَخَلفٍ، ومن هنا كانت الرواية أكثر صدقاً في تصوير الشخصية، وأكثر واقعية.
   إن رواية "امرأة..ولكن" تحتوي على الكثير من القضايا الجزئية والوصف السردي المعتمد على فلسفةٍ ناضجة، ورؤية تفهم الواقع جيداً، وتجيد توصيفه بنهايات تصل في كثير من مواطنها إلى حدِّ وضع الخلاصات الحكيمة والفلسفات الواضحة الرصينة، فمثلاً حين تقارن بين بطلتي الرواية بلغة مُرَكَّزة تأتي هذه الخلاصة في قولها: "ذلك التناقض بين أنفي وعيني كان دائماً يذكرني بالتناقض بيني وبين سارة في كلِّ شيء بدءاً بالملامح وانتهاءً بتفاصيل الأقدار" (ص 17)، أو " بالله كيف تسرق الحربُ فرح الحياة" (ص 128)، أو " لا خيار لنا في الحبِّ إلا الطاعة" (ص 83) ، أو قولها: " وأشعر أن لوجعي رائحة" (ص 53)، وغيرها من اللغة والتعبيرات العالية الدلالة ذات ظلال المعنى الإيحائي الواسع، وهذا يقودنا إلى الحديث عن لغة السرد في الرواية وهي تبدو لغةً تميل إلى الشعرية في وصف الكثير من التفاصيل، وهي لغة ذات مرجعية ثقافية تدلُّ على اطلاع واسع، وتحتوي على قدر من رومانسية (غادة السمان) ووصفها الذي أكثرت القاصة الحديث عنها وعن (حنَّا مينه) في ما كانت تقرأه سارة من الكتب لهذين الأديبين، وتلزم به آمنة حتى لا تعتبرها معاقة في قراءتها.
   يضاف إلى معالجة تلك المواضيع النفسية والوجدانية للشخصية من الداخل (أي الجوانية) كما يطلق عليها بعض نقاد السرد المصريين معالجة لواقع سياسي وقضية حرب 94م والانفصال والخوف على الوطن، وفيها وجهة النظر للكاتبة من خلال شخصياتها وتعبيراً عن بيئة الشخصية المركزية آمنة وسارة وأسرتها القريبة من النظام، وموضوع الصراع والموت، وأسئلة كثيرة تحفزها الرواية، مدللةً على عبثية الحرب، وعشوائية الأقدار وإصرار تلك الأقدار على أن تحطَّ بكلكلها على أمثال آمنة من المهمَّشين، والمظلومين، فتزيدهم بؤساً وإعاقة، وتتداعى تلك القضايا من خلال وجود آمنة في الشارع واقفة تبيع خبزها لتصور لنا الكثير من مواقف الشارع، وما يتعرض له المهمشون من احتقار، وعدم اهتمام، وما يقومون به من أعمال في الشحاذة، والشقاوة، والعبث، يضاف إلى ذلك تصوير ما يتعرض له الأطفال في الشوارع من معاناة وتجاهل من الناس، وغير ذلك من قضايا الطبقات المهمشة التي تُسَخِّر لها الرواية جانباً من رؤاها، ووصفها.
   يمكن أن نقول بأن رواية "امرأة ..ولكن" وثيقة إبداعية فنية وصورة حسية تجسيدية لمعاناة المرأة اليمنية التي تصاب بإعاقة جسدية تدفعها بسبب المجتمع ونظرته القاصرة وعبثية رؤيته إلى إعاقة أكبر وأكثر ألماً وهي الإعاقة النفسية، ويأتي تصويرها بالتركيز على مواطن الألم من داخل الشخصية نفسها دون التعامل معها بترفُّعٍ أو نظرة علوية قاصرة، ولكن بالنظرة من الداخل والحرص على تقريب تلك النظرة بتفاصلها الصغيرة التي تصنعُ عُمقاً في الرؤية، وفلسفة المعاناة، يصاحب ذلك كله لغة عالية السبك والمجازية التصويرية المعززة لتعميق الأثر الدلالي في ما يحتاج إلى ذلك من مواطن السرد، في حين يأتي الحوار وكثير من مواطن الوصف ذا صفاءٍ سردي نثري اللغة دون تكلُّف أو حشو.
   وتأتي الرواية في سردها بالتفاصيل والهوامش الموضحة عن عادات اليمن ومسميات خصوصياتها من العادات الاجتماعية كالولاد وتفاصيله الدقيقة والصغيرة، وكذا الزواج وعاداته، والشعوذة التي تشير إليها كما تفكر فيها دائما نساء الطبقات الاجتماعية الأقل ثقافة، وكيف تؤمن بها تلك النسوةُ، وتدور حياتهنَّ حول تلك الأفكار كما يحدث في حوار آمنة مع الحَمَّامِية –المرأة التي تعمل في حمام النساء- التي تقدم لها الطرق والممارسات والنصائح التي تصرف عنها الجني الذي شوَّه ملامح ساقها، وتسبب في عرجتها (ص 141)، وغيرها من تفاصيل الفولكلور اليمني الذي تعرض الرواية بعض عادات المقيل، وطرائق (التَّفْرطة) – جلسات النساء بعد العصر- وطقوسهن، وطقوس تناول القات وعوالمه عند النساء، وكذلك تفاصيل الزَّفة للوالدة –النفاس- وغيرها من العادات.
   إن رواية "امرأة ..ولكن" وثيقة فنية لحالة إنسانية معاقة تصور حالتها النفسية، ومقدار المعاناة التي تعيشها من الداخل، كما أنها توضِّحُ مقدارَ الألمِ ونتائجَهُ حين يصيبُ شخصاً ما، فلا يترك له للفرح باباً ولا للخلاص مهرباً، إنه قَدَرُ المعاناة، والظروف التي تخلق إنسانا بائساً لا حول له ولا قوة، فيستسلم لأقداره، ويعيش ظروفه بمآسيها، وواقعها الصعب.


ونشرت في مجلة الرافد، الإماراتية، العدد (190)، يونيو 2013م:

 http://www.arrafid.ae/190_p19.html


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)