من أين يأتي التغيير؟ (مجلة الجيش)



من أين يأتي التغيير؟!
د.إبراهيم أبو طالب
   متى سنجدُ المواطن اليمني بكل شرائحه وفئاته ومستوياته العمرية والثقافية والاجتماعية يهبُّ مدافعاً ومنافحاً حين تُذكرُ اليمن، وقضاياها وموضوعاتها المختلفة بدلا من أن نراه منتقداً متألماً متحسراً وأخيراً ساخرا مما حوله من الأمور جميعاً؟!
سؤالٌ طالما أرقني وكثيراً ما لاحظته وبخاصة عندما يقارن بما نعرفه مِنْ غِيرة بعض الشعوب على بلدانهم التي لا يذكرونها إلا بخير واعتزاز وفخر سواء مع أنفسهم أو أمام الآخرين إلا قليلا –طبعاً لأن التعميم ليس صحيحاً سواء هنا أو هناك-، لكن لدينا حين تذكرُ الثقافة –وأنا لا أخصِّصُ، ولكني أضرب مثلا- تنتقدُ وزارتها بأنها لا تهتم بالمبدعين ولا ترعى مسرحاً ولا إصداراً، ولا يوجد فيها مجلس أعلى لإدارة الثقافة في عموم البلاد باقتدار ومن قبل أهل الثقافة والأكاديميين والأدباء، وليس لها مجلة للطفل، ولا يوجد فيها هيئات –في أغلبها- فاعلة حقيقية تتجاوز الجموع الإدارية المعاقة والمعيقة، المتكلسة على الكراسي، والغارقة في الروتين الوظيفي الذي لا ينتج سوى استلامه للبند الأول –بند الأجور والمرتبات- في نهاية كلِّ شهر ميلادي، ويظل عمره في انتظار ذلك حتى ينفد، ولكن أليس ذلك واقعاً؟!.
   وحين يذكر التعليم يهبُّ ذلك المواطن متحسراً على المستوى الذي وصل إليه التعليم –حكومياً أو أهلياً إلا ما ندر- من تردي المخرجات وضعف المستويات الطلابية، وهي نتاج لمحيطها الذي أصبح التعليم أقل اهتماماته وآخرها، فلم تعد للمدرسة مكانتها الحقيقية في التربية قبل التعليم، ثم لم تعد تجيد كذلك حتى التعليم –إن قلنا إنها ستكتفي به- والإعداد الصادق المخلص للطلاب، ولم يعد للمدرس صدى كلماته ووقعها، ومهابة طلته وهيبتها، وأبوته الحقيقية ومكانتها، بل أصبح يهان ولا يقدّرُ، وربما يضربُ ويشتمُ بدمٍ بارد من طلابه أو من أحدهم، فلماذا يحدث كل هذا؟!.
   وحين تُذكرُ الصحة تسمع عن المآسي –وسماعك بالمستشفى خيرٌ من أن تراه- تلك الأخبار والأحزان التي تهلك المريض قبل مرضه، فيتعب هو وأهله والناس أجمعين تعباً مضاعفا يتمثل في وجع القلب والبدن، وحسرة المفارقات والغرائب، من ضيق الأفق لدى بعض الأطباء والجرأة على الخطأ والتشخيص غير العلمي دون مبالاة أو رادع -لأنه لم يعد لدينا رادع-، وحَدِّثْ، ولا حرج عن المستشفيات، فهي إن كانت حكومية فهي مليئة بالعجز وتشكو من الفاقة لأبسط مقومات الطب وحاجياته حتى على مستوى الإبرة، والشاش، والسرير السليم، وليست مستشفيات ومراكز العاصمة عنكم ببعيد فضلاً عن مستوصفات الأرياف ومراكزها –إن كانت ما تزال على قيد الحياة-، وأما إن كانت تلك المستوصفات والمشافي أهلية تجارية خاصة فهي لا ترحم أحداً ولا تعرف سوى الدينار والدرهم، ولا تتكلم إلا لغته وبمعنى بلدي لا تعرف سوى الريال المغلوب على أمره منذ زمن بعيد والذي لغُلْبِه لابدَّ أن يحشد كلَّ بني جنسه من ريالات بأنواعها، وفئاتها المدخرة والحاضرة، الكثيرة والقليلة، القديمة والحديثة لكي يواجه، ويسدّ احتياجات المريض ودوائه وإقامته الطويلة وفحوصاته التي قد تكون نتائجها مضبوطة، وقد تكون غير ذلك، يعتمد الأمر على حسن حظ المريض، وطاعة الوالدين، وعلى الصدفة وحدها أكثر من اعتماده على الدقة والأمانة ومخافة الله إلا ما رحم ربك، وما أكثر ما يفرُّ المريض ناجياً بنفسه قبل فوات الأوان، فيطير بما بقي لديه من صحة وممتلكات –إن بقيت- إلى أقرب دولة. فما السبب في كل ذلك ولِمَ؟!.
   وهكذا يمضي الأمر في كلِّ اتجاه فحيثما وليتَ وجهكَ وجدتَ أن المشكلة تتلخص في أمور أربعة تقريباً، أولها: عدم الولاء لله أولا ثم لهذا الوطن الذي نعيش على ترابه ونستظل بسمائه التي لا سماء ولا أرض تُقلُّنا وتعزنا سواها، فأين المفرُّ؟!، وثانيها: غياب الإخلاص في كل أمورنا ظاهرةً وباطنة، وهذان الأمران دينيان يتعلقان بالضمير وبالوازع، وأمران آخران دنيويان –إن جاز التعبير- يتمثلان في سوء الإدارة ذلك السوء الذي يتسببُ في كثير من المشكلات أعلاها وذروة سنامها الفساد الإداري بما يستجرُّهُ ويستتبعه، من التقصير، والإهمال، واللامبالاة، وعدم الإحساس بالمسؤولية، وغيرها وصولاً بعد ذلك إلى العجز وعدم الإنتاج وهو النتيجة الطبيعية، والأمر الرابع: هو قلة الإمكانيات المتمثلة بقلة المال، وكلّ ما وجهتَ انتقادك أو لاحظت أين مكمن الخلل وجدتَ أنه في الشكوى من عدم وجود المال الكافي، فهل المال غير كافٍ بالفعل أم أنه يتسرب إلى غير مواطِنِهِ الحقيقية؟! ويظل النقص في تغطية الاحتياج، وفي غياب الإمكانيات يلاحق المؤسسات والهيئات، وحتى أنه يلاحق الأفراد، حتى يتمثل أخيراً وبشكلٍّ رسمي معلن في عجز الموازنة السنوية للحكومة.
   ذلك هو الحال، ونحنُ أمة يمنية تعودنا على القدرة على عرض المشكلات وتوصيفها لكننا لم نجرب كثيراً في وضع الحلول والمخارج، والسعي إليها، فهل السبب يعود إلى عدم الممارسة أم إلى الركون إلى الشكوى دون فعل، والركون إلى المجالس القاتية اليومية التي نفرغُ فيها همومنا، ونتناقلها، ونتناولها مع أغصان القات الطرية وأوراقه، لنرميها مع عجينته الخضراء المهروسة بالخدر، والوهم، و"الضبح" في نهاية المقيل؟!، ولا جديد سوى الغرق، وتفاقم المشاكل، والموضوع أبسط بكثير مما قد يوحي لنا به الواقع إنه يتمثل في الإرادة الحقيقية للتغيير الذي يبدأ أولاً بتغيير النفس بعاداتها السلبية وتخاذلها، فتتخلص من حالة الاستسلام لعادات معينة سلبية صنعناها بأيدينا ومزاجنا ثم عبدناها، واستعبدتنا واستسلمنا لإرادتها، والتغيير الحقيقي لا يبدأ من الخارج مهما كان هذا الخارج حريصاً أو ودوداً، إنه يبدأ من الداخل من الذات من نفس قوية تملك إرادة صادقة وعزيمة لا تلين.
   ومن هنا نفهم كلام ربنا عزَّ وجلَّ وتقدس في ملكوته؛ حين يقول: ﴿...إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم... .(الرعد، من الآية 11)
   إذن الحلّ من هنا، ومن هذه النقطة "أنفسهم" تكون البداية للتغيير المنتج المثمر الحقيقي الذي سيعم الحياة فتتغير به وتُقْدِم على الفعل بدل القول، وعلى المعالي بدل الأماني، وعلى العطاء بدل السلبية المستلبة، فعلى الجملة تكون العواقب حميدة، والغاية عظيمة، فكلُّ واحدٍ من أبناء هذا الوطن -صَغُرَ شأنهُ أو كَبُر- على ثغرة من ثغراته لو أصلحها وبدأ بنفسه، فإنه سيمتلك التغيير، ولن ينتظر المخلِّص أو الخلاص من الخارج، لأنه ببساطة شديدة هو نفسه المخلّص والْمُخْلِص، ولن يعيش المرءُ منا حياته مرتين، ولن يعبر نهر الحياة سوى مرةٍ واحدة، لذا عليه ألا يملأ هذا العبور بالشكوى، والتبرم، ولكن بالعمل الحقيقي، والحب الصادق الذي يبدأ بالذات ليشع على ما حولها، محققاً فلسفة الاستخلاف السماوي لنا على هذه الأرض، لأننا مستخلفين فيها بقول المولى عزَّ وجلَّ:
﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننَّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدِّلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني ولا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون (سورة النور، آية 55).
فهل نحنُ فاعلون؟! وهل سنبدأ حقاً بالتغيير أو أنها مجرد شعاراتٌ جوفاء لم تغير واقعاً، ولا تسمن ولا تغني من جوع؟!.
نشرت في العدد 385، أبريل 2013م.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)