دمشق الألمُ والتشريد


ودمع لا يكفكفُ يا دمشقُ
د.إبراهيم أبو طالب
"سلامٌ من صَبَا بَرَدَى أرقُّ...ودمعٌ لا يكفكفُ يا دمشقُ"
هكذا نادى بالسلام على هذه المدينة وحيَّاها أميرُ الشعراء أحمد شوقي قبل حين من الدهر، وما كان يدري بأن الدمع الذي كان رمزاً للشوق إليها في زمانه سيتحوَّلُ إلى دمٍ لا يكفُّ ولا يجفُّ في زماننا ، بقسوة وعنفٍ يتزايد فيه الأموات، ولا ينتهي القتل، ولا يستكينُ الألم، ولا يقلُّ العنف في أبشع المجازر التي تنال الإنسان في هذا الزمان.

 ولسنا هنا بصدد تحديد الظالم والمظلوم أو وضع تقييم تعسفي أو علمي أو أيديولوجي لتحديد أي الكفَّات أرجح أو أي الفريقين أصح، لأننا ننطلقُ من مفهوم أعمق ورؤية أبعد من سطح المشكلة وظاهرها إنها الخسارة الفادحة التي نالت شعباً عظيماً وحلَّتْ بكل مفاصله ومرافقه ومقدراته، إننا نركّزُ على عِظَمِ المصيبة، وحجم الذلِّ الذي لحق بشعبٍ عزيز، والنتيجة التي كانت هي الحصيلة المتحققة والفاتورة الفادحة الثمن التي دمرت بلداً كاملا وألحقت الضرر به مما عاد به قروناً من الدهر إلى الوراء، وأنهى إستراتيجيته، وبُناه التحتية والفوقية في أرقام مخيفة عن حجم الدمار والقتلى، وكانت سوريا ببنيتها محط إعجاب ونظر تقديرٍ عند كثير من شعوب المنطقة العربية.
إن ما لحق بسوريا خسارة فادحة مُدَبَّرة، ومصابٌ جلل، وقهر واضح للإنسان السوري وحياته وكرامته حتى غدا هذا الإنسان في مهب الفاقة وفي متاهات الحاجة في كلِّ البلدان المجاورة يتكفَّف الناس، ولا يكفكفُ دمعه، وقد أراق ماء وجهه في السؤال وعلى جنبات الطرق يفترش الأرض  هو وأهله وأولاده ويلتحف السماء بعد أن كان عزيزاً محترماً في وطنه، وهاهم في أرض الله مشردون فمن كان منهم مقتدراً مستوراً بمهنة أو تخصص أو مال استطاع أن يفرَّ بنفسه ويجيره تخصصه واقتداره ومهنته في دول العالم، وأما من كان من ذوي الاختصاصات العادية والمهارات المكررة البسيطة - وهم كثر- فقد اتجه إلى قهر السؤال وذلِّ المسالة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ونحن في اليمن استقبلنا عدداً كبيراً من الأسر والمحتاجين الفارِّين بأنفسهم من الموت والناجين بحياتهم وحياة أطفالهم ونسائهم وأعراضهم من الردى، وقد تزايد وجودهم بشكلٍ واضحٍ أصبح الترمومتر الدال عليه هو ذلك الانتشار الكبير للسيدات والأطفال السوريات والسوريين وحتى الرجال في الأسواق والجولات الرئيسية والفرعية في شوارع العاصمة صنعاء وبقية المحافظات، بل وحتى القرى بشكلٍ غدا يمثلُ ظاهرة اجتماعية واضحة حتى إن وجودهم طغى على عدد المتسولين – وما أكثرهم- من اليمنيين المهمشين ومن اللاجئين الصوماليين وغيرهم، و(اِرحبي يا جنازة فوق الأموات) كما يقول المثل الشعبي، ولا بأس بمساعدة الناس فالصدقات يذهبن السيئات، ويطلن في الأعمار، وتداوي المرضى، وفضلها ثابتٌ وكبير وفق تراثنا الديني، ولكن ألا يجبُ أن نرحم عزيز قومٍ ذلَّ، ونكفيه ذُلَّ المسألة ونظرات الشفقة؟!، وأحياناً نظرات الـ....عند بعض من لا يردعه رادع ولا يملأ عينه سوى التراب والعود، ألا يجب أن تنهض الدولة ومعها المجتمع بمنظماته المختلفة إلى تنظيم حال هؤلاء المتضررين المحتاجين الفارين بحياتهم؟! بأن تكفيهم السؤال والطواف في الجولات اضطراراً، وأن تضعهم في مكان أو أماكن تحددها وتفتح لهم سُبل العيش الكريم المنظم، بإشرافها كدولةٍ لجأ إليها هذا الكمّ الهائل من البشر، إنهم بلا شكٍّ إخوة لنا في الدين والعروبة والعِرْق والأخوّة وهم ضيوف علينا في محنتهم ووقت حاجتهم وقهرهم لكن لا يجبُ أن ندع الأمر هكذا على علاته، بل ينبغي أن يُنظَّم حتى لا تتداخل المشاكل وتتفاقم، ولا تستغلُّ الحاجة والفاقة بصورة أو بأخرى تحتَ أيَّ مبرر.
مما لاشكَّ فيه أن لكلِّ قادم احتياجاته ولكل مضيِّفٍ طاقة على الإكرام وقدرة على الاستيعاب والاستضافة، ولهذا لا بدَّ من ترتيب أمور بقائهم سواء كان هذا البقاء مؤقتاً أو سيطول لزمن يعلمه الله وحده، ثم الراسخون في صناعة الحروب.
على المجتمع ومؤسسات الدولة أن تحدد مكاناً لبقاء الفارين بحياتهم –كما تصنعُ بلدان العالم في مثل هذه الحالات- وتكرمهم وترتب أمورهم وتدعو المجتمع الداخلي والمجتمع الدولي إلى التبرع ومعالجة أوضاع هؤلاء البشر الذين من حقهم وفقاً للإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن يعيشوا بكرامة، وحقهم في الحياة حقٌّ مكفول وثابت، وعلى الجميع السعي إلى عدم ترك الأمور تسير على مبدأ (اِرحبْ على الحاصل)، لأنَّ العشوائية لم تعد من مظاهر المدنية الحديثة حتى في أقل البلدان مدنيةً، وستقود تلك العشوائية وعدم إدراك العواقب المترتبة عليها إلى مشاكل تثقل كاهل دولتنا المتعبة أصلاً بمشاكل نفسها، وقد تقود إلى متاهات لا تحمد عقباها وإلى تداخل لا مبرر له، وهم أصحاب اضطرار لا يجب أن يستغلُّ، وبخاصة إذا ما سمعنا عن زواج بالسوريات رخيص الثمن، والعكس لا بدَّ سيحدثُ، والشباب أصحاب حاجة والمضطرُّ يركب الصعب، ومن هنا ستتفاقم المشكلات الاجتماعية لكلا الطرفين إن لم يكن عليها رقيب وقانون ينظمها. ونؤكدُ على ذلك لأنه قد يقول قائل: ولمَ لا؟ ما دام الزواج سيكون صحيحاً وشرعياً بشروطه؟ هذا واردٌ لكن السبب هو ما سيترتب عليه فيما بعد من عدم استقرار حين تهدأ الأحوال – ولا بدَّ لها يوماً أن تهدأ- واختلاف الثقافتين وغيرها من الأمور التي تحتاج إلى كفاءة والكفاءة هنا بمعناها الواسع بين طرفين متكافئين في كل شيء أو بالكثير إلى حدٍ ما، وليس المقياس احتياج اللحظة من طرف وانتهازها من طرف آخر، لأنه سيترتب على ذلك منتجات ومخرجات من الأطفال وغيرها من الالتزامات المختلفة بما يبني أسرة متوازنة سليمة، وفي مثل هذه الحال لن تتحقق تلك الأسرة.
ومن هنا ننصح ونلفتُ الانتباه بالقول إن على الدولة أن تتحمل هذا العبء الذي يضاف إلى أعبائها، وتسعى إلى تنظيمه بين طرفي المعادلة بين مواطنيها من جهة ومواطني دولة شقيقة متضررة قادمة بعوزها وخوفها وهروبها من الموت من جهة أخرى.
ثمَّ إن هناك دور يجب أن ينهض به دعاة التثقيف والإعلام،  وخطباء المساجد وهو أن يدعو إلى معالجات البرّ والإحسان بهؤلاء الذين أصبحوا بين ظهرانيهم مشكلة قائمة وحدث واقع، وأن يتركوا التجاهل والنظر إلى بعيد بوهم الصدقات الجاريات لإخوانهم في الشيشان وباكستان وشرق استان وغرب استان – وإن كان بعضهم يستحق- ولكن أخوك القريب أولى بالنجدة والدعوة الصادقة لمشكلته وعلاجها، ومساعدة الدولة في هذا الحمل الثقيل والتفكير في وضع مقترحات للحلول الفعلية.
ولا يكفي أن نتباكى فقط أو نكفكف الدمع على دمشق ولا على حمص ولا حلب ولا غيرها من مدن سوريا الشقيقة وقراها، أو أن نقف في صف النظام أو الجيش الحر لندعو على هذا أو ندعو لذاك، ولكن علينا أن نقف مواقف الرجال في يمننا نجدةً لشامنا، لننقذ هذا الإنسان المسلم العربي الذي لا حول له ولا قوة، فيما جرى له في طول بلاده وعرضها، وأن ننهض جميعاً بواجبنا في هذه اللحظة الفارقة التاريخية في حياة شعب أضنته الحاجة ومزقته الكارثة وتقاذفته أمواج الحرب.
فاللهَ اللهَ في شعب عظيم أذلته المأساة التي تمرُّ بها بلاده، ففرَّ لينجو بحياته من الموت متلمساً بصيص حياة، وقليل وجودٍ كريم، ولنتذكَّر أن الدهرّ ذو غِيَرٍ، ولنرفع أمامَ أبصارنا مقولةَ: "ارحموا عزيزَ قومٍ ذلَّ، وغنيَّ قومٍ افتقر"، ولا أراكم الله مكروها في عزيز.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)