إنه البحر لصالح باعامر



(إنه البحر) إنه صالح باعامر وعوالم حكاياته العجيبة

(قراءة في العناصر والتقنيات)
د/ إبراهيم أبو طالب([1])

     تُعدُّ رواية (إنه البحر) للروائي والقاصِّ صالح باعامر الصادرة عن دار طوى بلندن، 2013م ثالث أعماله الروائية بعد رواية (الصمصام) 1993م، و(المكلا) 2003م، وبعد خمس مجموعات قصصية هي: (حلم الأم يُمنى) 1980م، و(دهوم المشقاصي) 1992م، و(احتمالات المغايرة) 2002م، ومجموعتين نشرتا لأول مرة ضمن أعماله الكاملة عام 2004م هما: (بعيداً عن البروتوكول، وحين ينطق القصر).
ولكن هذه الرواية على تكثيف حجمها الذي لا يتجاوز ورقياً المائة صفحة من القطع المتوسط إلا أنها تنفتح على عالم واسع من الشخصيات والحكايات، وعلى عالم البحر ورحلاته في فترة من حياة اليمن هي زمن ما بعد الحرب العالمية الثانية وفي عهد الاستعمار البريطاني على مناطق الجنوب من اليمن السعيد، إنها تروي حكاية سفينة (الفرج) وأخواتها من السفن أمثال: سفينة (النور)، وسفينة (المستهل)،  وسفينة (البارشوت) وغيرهما.
 سفينة الفرج بقيادة (السحيم) البحار الماهر والأصيل في محبته للبحر ولزوجته حسناء ولأصدقائه من رفاق البحر ومعاونيه إنها تروي حكاية رحلة بحرية تمتَدُّ لأسابيع تمر على الكثير من المناطق والأماكن ابتداءً من (البلدة) موطن السحيم ورفاقه من البحارين والصيادين الذين يعملون على متن سفينته والسفن الأخرى وعودةً إليها بعد أن يمروا بأكثر من (56) مكاناً نجد حضورها الواضح في الرواية بعضها يكون الفضاء فيها موصوفاً، وأكثرها مجرد أسماء تمر بها رحلتهم التي تمتد عبر البحر من حدود اليمن إلى حدود عمان إلى حدود مناطق في آسيا وأفريقيا يرد ذكرها فقط وروداً عابراً، هذه الرحلة البحرية مليئةٌ بالأحداث والمتاعب في أجواء البحر المعتادةِ ومخاطره الكثيرة لكن الحياة والرغبة في الانتصار والمغامرات تكون رفيقتها وحافزها، وما فيها من منجزات في الصيد بأساليبه التقليدية والمستحدثة في زمن الرواية من صيد بالصنانير وآلات المنازك والعِسَوْ والشِّباك، ثم وصف حركة البيع، وطريقة معالجة الأسماك بالملح وتجفيفها وبيعها عبر الأسواق المتاخمة التي تمرُّ بها سفينتهم في رحلة معتادة تتكررُ عبر العام الواحد أكثر من مرة، بما يصاحبها من قلق وترقب وانتظار من قبل مَنْ في البرِّ من الأهل والأحباب، وفي هذه الرحلة صفقاتٌ ناجحة وأخرى مخيبة للآمال، وفيها توصيف لوضع المواني تحت الاستعمار كما حدث في ميناء  المكلا حين توقفت سفنهم لأيام بسبب إضراب العمال وما يعانيه البَحَّارة من قلق على تجارتهم من الأسماك ومن تعطيل للتجار في البر الذين يريدون أن تصلهم الأسماك لبيعها في أسواقهم لانتعاش الحياة، وكذلك تصف الرواية حياة البحارة بأفراحهم وانتصاراتهم وأغانيهم، وما يمرون به من شدائد حين تشتد حالة البحر ويهيج وينتهي بعضه بالموت المحقق واصطدام السفن باليابسة كما حدث لسفينة (النور) ويموت اثنان من بحارتها، وكيف يصارع القدر الإنسان مع هيجان البحر ويموت من يموت في صراع الموت والبقاء، وثنائية الحياة والموت التي تظهر في الرواية في موتٍ في البحر يكون للشخصية الأبيقورية العابثة (سالم الْمِرَزْوع)، وموتٌ يقابله في البر عند استقرار الرحلة ونهايتها، وحين تقرُّ عين والد السحيم بولده، فيموت بعد عودته من رحلته.
   إن الرواية تحتوي على الكثير من المواضيع الغنية، والجديرة بالتأمل، كالصراع بين الموت والحياة، -كما أسلفنا- والربح والخسارة، والشوق والانتظار، والجنس والمتعة، والجن والأنس، والاستعمار وطلب الحرية، والجسد وفتنة المشاعر، والتراث والتجديد، وآلات البحر وحضور إرادة الإنسان وغيرها من القضايا والثيمات التي عالجتها الرواية باقتدار، وفيما يلي بيانٌ لأبرز عناصر الرواية وتقنياتها:
أولا: من العناصر الروائية:
1.           الشخصيات:
   تحتوي الرواية على أكثر من (23) شخصية منها شخصيات رئيسة وهى: (السحيم) وزوجته (حسناء) ذات النقاء العاطفي، والصدق الشعوري، والجسد الحسناوي المثير الذي يشعُّ شباباً وفتنةً وإغراءً حتى يتحرش به كل من تقع عينه عليه بما في ذلك مخلوقات البحر أمثال ثعبان البحر الذي يقترب منها، وهي تسبح وتلهو بجسمها العاري في البحر مع صديقتها (الزين) ذات يوم من أيام التنظيف للملابس، وثاني تلك الشخصيات المساعدة والأقل حضوراً تأتي شخصية والد (حسناء) وهو (سالم باصريره) وكذا شخصية أمها، وعمها الساري والد السحيم، وتظهر تلك الشخصيات بوصف بسيطٍ فقط ليعمق حضورها معرفتنا بالشخصيتين الرئيستين (حسناء) و(السحيم)، في وصف بعض ملامحها والأثر النفسي الذي ينتابها بسبب الانتظار للعائدين من البحر تفاعلاً مع انتظار (حسناء)، فوالدها حين تزوره يظهر من تلك الزيارة اهتمامه وانشغاله بتنظيم وترتيب عدة الحجامة التي يمتهنها، وكذا شخصية عمها الساري الذي أصبح ضعيفاً قليل الحركةِ ينتظر بشوق ولده السحيم، والشخصية المركزية الأخرى هي شخصية (السحيم) الذي يبدو كرابط لمن في البر والبحر من المقيمين والبحارة، وهي شخصية تلقى العناية من الراوي – بضمير الهو الغائب- كونَها شخصية نامية وذات ملامح محددة بما تتصف به من صفات البطولة، والوفاء، والقوة، والإخلاص في العمل، والتفوق، فالسحيم ناخوذةٌ ذكيٌّ قويٌّ يعرف أحوال البحر بحدسه واستشعاره، ويملك سفينة (الفرج) ويعبر بها الأماكن، ويلاقي بها الأهوال في رحلته البحرية للصيد والتجارة، وهو فوق كل ذلك عاشقٌ رقيقٌ يحبُّ حسناء ويطارحها الكثير من الغزل الرقيق والشِّعر الجميل مما يحفظ من التراث ومما يقوله هو من الشعر في حسنائه، ويجيد الغناء والرومانسية المختلطة بنسائم البحر وطموحات البحار وأحلامه.
   ثم تأتي شخصيات البحر الأخرى وهي كثيرة – نسبياً- ووراء كل شخصية حكاية عند ظهورها تتبعها حكايتها وعالمها الخاص، ومن هنا تظهر تقنية مهمة في الرواية وهي من عوالم الحكي الشعبي الذي تتخذه الرواية أسلوباً في تقديم شخصياتها وبنائها، وذلك أن كل شخصية ستبدو لنا مع خط سير الرواية الزمني التتابعي ستكون ذات قصة تذهب الرواية في إشباعها وبيانها كلٌّ بحسب أهميته، ومن هنا ستظهر لنا – مثلا- شخصية العم (سالم عوض) وحكايته التي ستأخذ حيزاً لا بأس بطوله داخل الرواية مع عدد من الشخصيات حتى تكاد تغيب معها شخصية السحيم –كشخصية رئيسة ومحورية في الرواية إلى حين-، وتلك تقنية حكائية واضحة كما تظهر في حكايات ألف ليلة وليلة حين تغيب الشخصية الرئيسة حتى نكاد ننصرف عنها كليةً ثمَّ عند نهاية الحكاية الدخيلة تعود الحكاية الأولى- فتظهر حكايته مع العمال المضربين في الميناء، ومشاكل الاستعمار والممارسات الخاطئة، وتظهر شخصية (محمد العماني) مع العم سالم الذي يلتقيه ويساعده في أن يَحْمِلَهُ على سفينته ليعود إلى أهله وزوجته في المكلا في حين رفضه البحارةُ والسفنُ الأخرى، وحين يقع (العم سالم عوض) في أزمة التأخير وعدم قبول الميناء لاستقبال بضائعهم يعرض عليه (محمد العماني) المساعدة بما يمتلكه من قدرات خاصة وأسرار لم يفصحْ عنها تماماً سوى بالإلماح حيثُ طلب منه أن يخبرَ التجار بأن يفتحوا أبواب بخاراتهم (مخازنهم) عند منتصف الليل وسينقل البضائع من السفن إليها دون احتياج للعمال والحمالين ولا حتى إلى إذن من إدارة الميناء ليحلَّ المشكلة، لكنها تُحلُّ قبل ذلك التوقيت وتُفَكُّ الأزمة للبحارين والتجار بقرار إدارة الميناء بالسماح للبضائع بالمرور، فلا يتحقق ما وعد به العماني ولا نعرفُ السرَّ والقدرات الخاصة التي وعد بها، ولعلَّ ذلك مما يفتح أفق الإثارة في حكايات الرواية المتعددة.
   وهكذا يتوالى ظهور الشخصيات وحكاياتها، فتأتي حكاية (عبد الله أحمد علي) الشاب الذي من الشيخ عثمان مع العم (سالم عوض)، ويبدو كأنَّهُ رمزٌ للشباب الذين يسعون بثقافتهم وتواصلهم مع الأحرار في المدن أمثال المكلا وغيرها إلى إرسال رسائل عبر البحارةِ وبواسطتهم إلى أقرانهم وأصدقائهم من الشباب في المدن الأخرى؛ حيث يطلب منه حمل رسالة فيها الصلاح والخير -حدَّ قوله-، وهكذا تحتمل الرواية الكثير من الآفاق الوطنية، والحياتية، والملامح الرمزية أيضاً.
   ثم تبرز شخصيةٌ جوهريةٌ أخرى ذات عمق في الرواية لارتباطها بالسحيم من ناحية كونه من أهم عماله ومساعديه على السفينة، ومن ناحية ثانية بما يمثله من شخصية أبيقورية تلهو بالحياة دون جِدٍّ وتعيش حياةً عابثة مع من يعرف من النساء في كل مكان ينزل فيه ومنهن قمر "التي تعيش في منزلها وحيدة تقتات من عملها كنزيلة تستقبل القادمين إلى المكلا لتقوم بخدمتهم وتسكينهم في منزلها..." ص 76، وغيرها من عشيقاته "كعديلة في عدن، وله سلامة وحمودة ومزنة وبخيتة وصفية وتَوَل في البلدة والمناطق المجاورة لها" ص 78، إنه (سالم المِرَزْوع) الذي يجعل له في كل مدينة وميناء صديقةً وداراً يعاقر فيه المتعة واللذة دون أعباء ولا تكاليف تحمله مسؤولية لذا يبلغ الخمسين من عمره وهو حرٌ من الزواج، ولكنه أنيق المظهر جميل الطلة يهتم بهندامه مما يجعله جذاباً ومحطَّ إعجابٍ من النساء، وهو أيضاً يحسن التعامل مع الأطفال حيث يكلفه السحيم في كل ميناء بأن يعطيهم (الفوالة) – أي بعض الحلوى والهدايا-، ويتلاطف معهم. وهو فوق كل ذلك وفيٌّ يضحي بنفسه في نهاية الرواية من أجل صديقه السحيم حين يصارعُ أمواج البحر العالية الهائجة ولم يكتف بالفرجة بل قذف بنفسه وراء صديقه ومعلمه (السحيم) لكي ينقذا إنساناً غرق في العاصفة لكنه يموت بعد ذلك راضياً بفعله ذاك، وفي نهايةٍ مأساويةٍ يحزن لها السحيمُ كثيراً.
   هناك أيضاً شخصيات أخرى تظهر بحكاياتها على امتداد الرحلة البحرية وعلى امتداد  النصف الأخير من فضاء الرواية النصي، أمثال حكاية (السواري) -ابن عم السحيم- وأحد المتوهين في زنجبار، بعمان وعمله في محل بيع الحلوى وله قصص كثيرة في ذلك المكان مع السيدات، ويقوم هو برواية بعضها عن شخصيات أخرى، بما يفتح آفاق الحكاية داخل الحكاية –  من جديد وفي كلِّ مرة كما أشرنا- كملمح تقنى لرواية (إنه البحر).
   حيث يشرح حكاية (أحمد الغرابي) مع (ممتاز جوهر) ابنة التاجر الهندي وتنتهي حكايتهما بالحادث المروري الذي يصاب في الغرابي، ولكن دون إشباع يجعلنا نقول وماذا بعدُ؟! وما الفائدة في إيراد هذه الحكاية التي لم تفد الرواية كثيراً إلا من مجرد أنها أضافت حكاية جديدة إليها؟، وحكاية مقهى ماليندي لحسن البلوشي، الذي كان يعمل لديه الصبي سليمان وحكايته مع الزنجباري هلال تلك الحكاية الغريبة التي تدل على الحب الشاذ، والتزاوج الْمِثْلي الغريب بما يوحي بأفق من الحرية في ذلك الزمان.
   وحكاية أخرى كثيرة ترد في حديث السحيم وابن عمه السواري وتظهر شخصيات ثانوية مثل: سويلم نائب السحيم، وفرج نصب وبقالته "بحر العرب" وبول الفتاة فيها، وحليمة السقطرية ضاربة الورع.
   أما في "البلدة" فهناك أهم الشخصيات التي تُركِّز عليها الرواية بعد شخصيتي: (حسناء، والزين)، وهي شخصية المغنية (النوبة) ذات الصوت الجميل والأداء المحبب إلى سكان البلدة، ومعها راقصة الزار (السعد) مع محبوبها (شيرون) جني البر والبحر، وعبر هاتين الشخصيتين (السعد وشيرون) سيمدّ الراوي في رواية (إنه البحر) أفق القص في اتجاه الحكاية الشعبية إلى عالم الحكاية الخرافية؛ حيث نجد (السعد) هذه المزورة (أي التي ترقص رقصة الزار) في موسم التجلوب (معرفة حال البحر وأخبار البحارين والسفن) نجدها ترقص وتطرب حتى يأتي حبيبها (شيرون) الجني لينقلها إلى عوالم الخرافة وآفاقها في المألوف الشعبي حيث حكاية المزوَّرِين والْمُزَوَّرات ورقصاتهم التي لا تنتهي عجائبها، وهناك تكتمل حكاية شعبية خرافية داخل الرواية بمبرراتها الذوقية والحكائية حيث تطلب (السعد) من (شيرون) أن يكون لها وحدها حصرياً، ولا يكلفه أحد غيرها بمهام أخرى، فيقول لها: "امتلكيني قطعاً قلاطاً ولن يشاركك فيَّ أحد
-     كيف؟!
-     أبلغي ملك الجان الذي ملّكك إياي برغبتك هذه.
-     كيف أصل إليه؟
-     كما وصلت إليه من قبل.
-     كان الوسيط بيني وبينه آنئذٍ شيخاً من العراق.
-     لكي أثبت إخلاصي لك، سأطير بك إلى هذا الملك الآن مباشرة وفي ثوان سيتم فيها كل شيء وأعود بك.
-     أين يقع ملك الجان؟
-     في إحدى جزر الشرق..." صـ 41.
   هكذا يجري الحوار بين السعد وشيرون، فيطير بها إلى ملك الجان عبر رحلة لا تبتعد كثيراً عن رحلة السندباد في الجزر السبع، ولكن بشكل سريع، وهنا تبرز دلالة الرقم سبعة كتيمة شعبية وعوالم الحكاية من تنقل من جزيرة إلى أخرى وما يجده الرائي في تلك الجزر من غرائب ؛حيثُ "تحولت الطيور الأربعة إلى صبايا لم تَرَ السعد في جمالهن أحداً من قَبْلُ، قَدَّمْنَ لهما طعاماً وشراباً مكونا من شحم البعوض ولبن العصفور وأكواب من خشب امتلأت بحليب كالماء وماء كالحليب..." ص 42، بما يذكر بالكثير من ملامح السيرة الشعبية أيضاً –كما في رحلة سيف بن ذي يزن في جزر واق الواق-، وهنا تُحْسَبُ للراوي هذه الرؤية التي فتحت على أفق ثري من الخيال، وعوالم الدهشة والجمال داخل إطار رواية حديثة تستمد مفاتنها ومغذِّياتها من جذور أصالة الحكي الشعبي.
2.           المكان:
   يلعب المكان في حضوره أثراً عميقاً في بناء الرواية بمستويين: الأول واقعي وهو عوالم البحر بآفاقه المكانية وفضاءاته التي تزيد على أكثر من (56) اسماً لأماكن مختلفة في رحلة السفن البحرية منها: (قصيعر -أولاً الذي يكون لها الإهداء في الرواية، وهي قرية الكاتب (باعامر) ولعلها (البلدة) ذاتها منطلق الرحلة ومكان أبطال الرواية-، ثم تأتي من الأماكن -بحسب سير الأحداث والسرد- رأس فرتك، مرباط العمانية، زنجبار، البلدة، منطقة حساي، المهرة، ماخر، سيحوت، صخور الموبرة، حي السقاطرة، سقطرى، جزيرة لامو وعبدالكوري، شيلة، كعال فرعون، جزر قلنسيا، الميطي، حافون، رؤوس عمان، قفزان، الغبة، جزيرة الطير (لشحن الربش براز الطيور كسماد)، مرسى مرباط، رأس ريسوت، وسدح، وحاسك، ونوس، فالمكلا، وادي الغليلة، برع السدّه، غيل باوزير، عدن، جيبوتي، حي العبيد، ميناء معلا دكة، دار سعد، نشطون، شوعب، جزر أرخبيل سقطرى...الخ) من الأماكن الكثيرة حتى تعود الرحلة مؤخراً إلى البلدة في نهاية المطاف، وبما يمثل رحلة دائرية أو شبه دائرية في أماكن تحرك السفن لجلب الأسماك والبضائع عبر حدود المكلا وسقطرى وامتداد عمان ورؤوسها العالية وصولاً إلى أفريقيا وعوداً إلى مواني آسيا وكثير من جزر اليمن المعروفة كجزيرة عبدالكوري وجزر أرخبيل سقطرى وغيرها.
أما المستوى الثاني من المكان أو الحيز فهو الخيالي أو الخرافي المتمثل (بقارة الماورا، وجزر الشرق) التي تظهر كامتداد لفضاء آخر متخيل في حكاية (شيرون والسعد) حبيبته الأثيرة في رحلة موازية لرحلة البحارة ولكن لأخذ الأذن وطلب الزواج بين السعد وشيرون من ملك الجان لكي يتمثل لها في نهاية الرحلة بشراً سوياً جميل الطلَّة، وبهي الطلعة، ويخبرها بعد الارتواء بأخبار (التجلوب) وما يلاقيه البحارة وسفنهم في رحلتهم من أحداث، وأين وصلوا فيها؟!، وما أخر أخبارهم؟!.
هكذا يؤكد فضاء المكان أهميته في تظافره مع الشخصيات وكونه مسرحها الأهم في حركة الرحلة وفضاء الرواية كتحرك شخصياتها عبر تلك الأماكن المتنوعة، وهي لا تأتي إلا بحسب احتياج الشخصيات إليها ولظهورها على تلك الأماكن المختلفة، ويظلُّ البحر رابطها المشترك الذي يَشُدُّ إليها صواريه وحباله المشرعة على استقرار شخصياته فيها لحين الانطلاق من جديد إلى البحر والمياه ورحله جديدة مع إشراق كل طموح و بداية كل حلم بالعودة من جديد، في مدٍّ وجزر بين البر والبحر والاستقرار والسفر.
3.           المصطلحات والمسميات الخاصة:
   الرواية ( مليئة ) بخصوصية عالمها وبمصطلحات البحر والسفن وحياة المنطقة التي تدر أحداثها فيها لذا فلا غرابة أن نجد فيها كثرة الهوامش التوضيحية لقارئ عربي ويمني لا يعرف تلك الخصوصية الاصطلاحية حيث نجد أنها تحتوي على أكثر من (65) مصطلح من مثل: (الدواربين، القطمر، القلمي، الخن، الصرنج، السكوني، العبرية، المتوهين، الناخوذة، الدقل، التجلوب، الصاري، شرح، الكنبار، حوت الشوحطة، جدحا، الفرم، المنازك، العسوه، الربش، الشاروني،القنب، الوضح، الشكله، الصرنج، الفواله، الميشوه، التجحيب، العتم، الدفافي، الشامبات والزناقل، الجزوة، الورينبو، سفن الجالبوت، نذوخها، هوريا هوريا ، وأخيراً المونفست).
كل تلك المصطلحات تدور حول عالم السفن وآلاتها وأدواتها وحول طرائق الصيد وأساليب التعامل وأنواع الأسماك ومسمياتها، وكذا التعامل مع رجال المواني ومسميات البضائع وأدوات السفن وأجزائها وعوالمها التفصيلية المختلفة.
ثانياً: من تقنيات الرواية:
   تحتوي الرواية إضافة إلى ما سبق توضيحه من تقنيات القصة داخل القصة وفتح أفق الحكي بعضه على بعض ثم العودة إلى الحكاية الرئيسة على الكثير من الأغاني والنصوص الشعبية والتراثية التي يقولها البحارة ويتوارثون إنشادها في حالات المنشط والمكره، وفي حالات الراحة والألم وذلك في صفحات كثيرة على امتداد الرواية (ينظر منها مثلا الصفحات صـ 27، 29، 36، 37 ،64، 65 ،81 ، 84 ...الخ) وفيها مثلاً هذه الأناشيد الترنمية البديعة التي تتغنى بها (النوبة) مغنية البلدة في حفل التجلوب:
"سهّل طريق الصواري والعول
ليمخرون قرب غبة قمر
قريب الفرج يا قريب
وسويلم المهتر ما به بدل
وسحيم صاحبه قائد مكتمل
قريب الفرج يا قريب
يا الله مع الصاري يا قريب" ص 37.
   كما يبرز الراوي العليم بضمير الغائب (هو) كتقنية أساسية في بناء الراوي، أما الزمن فهو زمن تقليدي خطي تتابعي لم يعترضه تكسير معتمد أو قفزات كثيرة في مسيرته ليتناسب مع البناء العام للرواية ذات الطابع الحكائي، وتحتوي الرواية على الكثير من العادات والتقاليد المرتبطة بعالم البحر والتفاؤل والتطير فيه أمثال : عادة رمي التمر الجاف إلى البحر لمعرفة الحظ وأسرار معرفة اتجاه الريح، وحال السفن وجلب الحظ للبحارة بتلك العادة، كذلك حركة حسناء والتي كانت تضع من السبابة والإبهام ناظوراً ترى به إلى عمق البحر لتتابع هل ثمة سفينة قادمة، إضافة إلى عادة ما تسمى بـ حمى السقطرية (صـ 52) التي تصيب به إحدى السقطريات بعضَ البحارة إن هو لم يبادلها المحبة، ويُخلص لها الوفاء.
    كذلك عادة (سلامة الرأس) التي كان يطلبها مَنْ في اليابسة وبخاصة على الحدود العمانية من البحارة لكي يجعلوهم ينـزلون إلى بلدتهم ويتمتعون بالتسوق والتجارة، ولذا يعطونهم ما يحملون على سفنهم من حبوب الذرة والدقيق والزيت والصنانير وكمية من وريقات التنباك (الحُممي) والملابس والبن، وغيرها من متاع الحياة الدنيا، ليسلموا بذلك رؤوسهم.
    كما أن الرواية لا تخلو من بعض مظاهر توصيف الجنس، ولكن بلغة هادئة غير صادمة، بل اعتمدت على الإيحاء أكثر من المباشرة، وعلى التلميح أكثر من التصريح، وفي العموم فإن لغة الرواية تغلب عليها الجزالة والتمكن الوصفي الذي تميل فيه إلى لغة السرد المتقنة الصافية دون حشو زائد ولا اختصار مخل، إنها لغة روائية لا تخلو بعض جملها من المجاز المطلوب والاستعارات الموضحة التي تدل على خبره كاتبها القصصية والروائية وتمكُّنه من أدواته السردية الناضجة، ولكن من الملاحظ على نهاية الرواية أنها جاءت مخالفة لأفق التوقع الذي وضعته البداية حيث الشوق والرومانسية وتخيل لحظة اللقاء بين (السُّحَيم) و(حسناء) بعد الرحلة الطويلة التي كان من المفترض أن تكون عناقاً كبيرا موغلا في الحب والشوق لكنه كان عناقاً حزيناً فيه الجفاء والحداد المكلل بموت صديق في البحر وأبٍ في البرِّ، وتلك هي حقيقة الحياة واللذة الناقصة الْمَشُوْبَة دوماً بالمنغصات.
   والخلاصة إن رواية (إنه البحر) ذات نَفَسٍ خاص وشخصية مميزة هي شخصية كاتبها صالح باعامر التي عرفناها في كثير من رواياته ومجموعاته القصصية، شخصية مستقلة لا تشبه إلا نفسها صادقة البوح والإيحاء، واضحةٌ في التعبير والتوصيف تنفتح على عوالم من الدهشة في منطقة جغرافية من اليمن السعيد تشتمُّ منها رائحة البحر وألوان أصدافه وقواقعه، وتستمع إلى أهازيجه وأنغامه الخاصة كما ترى فيه إنسانه البسيط العميق الأصيل بكل اقتدار وبمنتهى الفن والخصوصية، كما أنها بكلِّ ذلك تمنحُ القارئ انتعاش المعرفة، ولذة التوقع، وأفق الإمساك بجذوة المعنى في أقل عبارة، وأقصر طريق، إنها رواية تشبه قواقع البحر صغيرة الحجم لكنها تحتوي على أسرار البحر جميعها، وشفرته، وآفاقه الممتدة.  


([1]) أستاذ الأدب والنقد الحديث المساعد، جامعة صنعاء.

صنعاء، 25 يونيو 2013م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)