1) أ.د/ كمال أبو ديب (أستاذ الخفاء والتجلّي)

- من هؤلاء تعلمت-
*سيرة ذاتغيرية*


يدخل إلى القاعة التَّدريسية في الفصلِ الدراسي الأول من العام الجامعي (1989/ 1990)، أستاذٌ مهيب ذو سحنة بيضاء شاميِّة، له شَعر ٌكثيفٌ يمشطه إلى الأعلى شَابَهُ البياضُ، وخالطه الوقار، يقفُ وسطَ صفوفٍ مزدحمة من الطلبة يبلغ عددهم أكثر من (مائتي) طالبٍ وطالبة في قاعة كبيرةٍ تستوعبُ طلابَ قسم اللغة العربية الجُدد من كليتي الآداب والتربية معًا، وبخاصَّة في مواد التخصص الأكاديمي في الأدب والنقد وغيرهما، يدرسون معه مقرر (الأدب الجاهلي)، وتنطلقُ أولى كلماته بطريقة جديدة، ومصطلحات مختلفة لم يألفها مستواهم من قبلُ، يخبرُهم بأنَّ ما درسوه في تعليمهم الأساسي والثانوي من دراسة الأدب كان خَطأ لا يمكن أن يستمروا عليه في دراستهم الجامعية، فمناسبة القصيدة، ومن القائل؟، ومتى قيلت؟، ومعاني المفردات، والمعنى الإجمالي للبيت، وغيرها في نظره طريقة دَمَّرتْ ذائقةَ التَّعليم، وبَلَّدتْ المُتعلِّم في تعامله مع النُّصوص الأدبية.





وشيئًا فشيئًا يعرض لهم طريقته الجديدة، وأسلوبه المختلف في تعليمهم للأدب الجاهلي، ومعلقاته، وقراءة نصوصه من خلال كتابٍ ضخم سيرشدهم إليه، فيهرعون لتصويره –لأنه غير متاح للشراء حينها- إنه كتاب (الرؤى المقنَّعة؛ نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي، 1986، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب)، وبعرض الأستاذ المدهش، وشرحه المتميز بصوته الذي له بحَّةٌ خاصةٌ، يمضي في شرح منهجِهِ بقصائدَ جاهليةٍ نسمعُها، ونتعامل معها لأول مرة، فلا نكادُ نفهمُ لغتَها الفصحى الغريبة، فضلًا عن شرحها بمنهجه البنيوي.
يمضي أستاذنا بلغةٍ عالية وجديدة تمامًا برموزها، ومفرداتها التي نكادُ نفكُّ طلاسِمَها ومستواها المتعالي بالنسبة لمن هم في مستوانا؛ حيثُ بدت لنا  أشبه بالرموز، والألغاز، مضى يقرأُ النصوص بطريقة نطقِهِ المستحبَّةِ يصاحبها نطقٌ خاصٌ لحرف الراء الذي يبدو بين الخفاء والتجلِّي، وهو يروي قضيةَ الموتِ والحياة، وثنائية البقاء والفناء في الشعر الجاهلي، وما تزال كلماتُهُ وطريقة روايته لهذه الأبيات في ذهني وذاكرتي حتى اليوم، وهو يروي قول دُويد بن زيد بن نَهْد حين حضره الموت:
اليوم يُبنى لدُوَيْد بيتُهُ
يا رُبَّ نَهْبٍ صَالحٍ حَويْتُهُ
ورُبَّ قِرنٍ بطلٍ أرديتُهُ
وربَّ غَيْلٍ حَسنٍ لويتُهُ
ومعصمٍ مخضَّبٍ ثنيتُهُ
 لو كان للدَّهر بِلىً أَبْلَيْتُهُ
أو كانَ قِرني واحدًا كَفَيْتُه
**
ثم يبدأ تحليل قصائد المعلقات من خلال الثنائيات الضِّدية، وربطها بوحدة موضوعية واحدة في تقابلات جزئية مبينًا طريقة الشاعر الجاهلي في بناء قصيدته ذات الموضوع الواحد من وجهة نظر أستاذنا الدكتور كمال أبو ديب أستاذ التطبيق المتميز للمنهج البنيوي على هذه القصائد الطوال، وليس كما صوَّرها لنا النقد الجزئي بأن الشعر الجاهلي هو شعر البيت الواحد الذي لا روابط فيه، فيمضي أستاذنا ليعرِّفنا على القصائد والمقطّعات، كما يقف بنا على القصائد الطوال (المعلقات) مبتدئًا بالقصيدة المفتاح-معلقة لبيد، ثم الرؤية الشبقية – معلقة امرئ القيس، فعينية أبي ذؤيب الهذلي -رعب اليقين، وهذه العناوين الموجزة الدالَّة هي ما يميِّز تحليل أستاذنا بما يصاحبها من ثنائيات ضدية، وعلامات، ورسوم توضيحية غاية في الدقَّة، والتجسيد العلمي للمنهج البنيوي، ثم لا أنسى طريقته في الربط بين قضايا العصر الجاهلي، وبين الشعر الذي يجسِّدها، ومن أبرزها قضية (الموت والحياة) التي وقف لديها طويلًا وأوقفنا معه؛ لا وقوف أطلال وبكاء فحسب، بل وقوف تأمل في خيال الجاهلي وفكره وحياته اليومية والوجودية، مبيِّنا الفكرة الرئيسة لدى الشاعر الجاهلي، وأهم ما كان يؤرقه، فينعكس ذلك كثيرًا في شعره، ألا وهو قضيىة الوجود لذا كان يربطها في تحليلها بأفقها الإنساني عمومًا من خلال حديثة عن الموت – مثلًا- مقسِّمًا إياه إلى استجابات: كالاستجابة السيدورية (ويعني بها موقف صاحبة الحانة سيدوري في ملحمة جلجامش)، والاستجابة الدويدية (التي أشرنا إليها في أبيات دويد الوجودية: "اليوم يبنى لدويد بيته...)، ثم يتحدَّث عن (كوننة التجربة) بأسلوب تحليلي بديع ومدهش، متطرِّقًا إلى طواف امرئ القيس من خلال أبياته التي مطلعها:
أرانا موضعين لأمر غيبٍ..ونسحر بالطعام وبالشراب
عصافيرٌ وذبَّانٌ ودودٌ .. وأجرأ من مجلّحة الذئابِ
ويسمها بقوله: (عبثية الفعل ونعمة الإياب)، ثم يدرَّسنا معلقة طرفة التي يوجز وصفها بعد شرح أبياتها وتفاصيلها بمنهجه البنيوي بأنها (السهم في لحظة النزع) وغيرها من الوقفات التي تُجلِّي لدينا الفهم لعالم الجاهلي من خلال شعره، وتكشف قناع الرؤى في الرؤى المقنَّعة، ولذَّة التحليل، ورغبة الاكتشاف.
إنها دروسٌ مختلفةٌ قدَّمها لنا أستاذنا القدير، فيها من إثارةِ العقولِ الصَّغيرةِ القادمة بحبِّها، واندهاشها من مناهجَ تاريخيةٍ تقليديةٍ مدرسيِّة إلى منهجٍ بنيويٍّ مباشرةً دونَ سابق تمهيد، ومع أهمِّ أساتذة هذا المنهج الكبار على مستوى الوطن العربي، وها هم يقفون بعقولهم وتطلعاتهم دفعة واحدة أمام "كمال أبو ديبٍ"، ومع منهجه البنيوي الذي كان شائعًا في الثمانينيات من القرن العشرين في الوطن العربي بعد أن سبقَ حضوره في النقد الغربي في ستينيات القَرن ذاته؛ إذًا هي دراسة وفق أحدث المناهج النقدية، وتحليل خطاب النصوص الجاهلية.
كان في الطلابِ من يتخذُ من ارتباطه باتحاد طلاب اليمن – كمؤسسة طلابية حين ذاك- ذريعة تسلُّطيةً، وسلطةً طلابية ليقف معترضًا وموجهًا للطلاب –بزعمه- متلمِّسا من كلام الأستاذ ما يبرهن عن عدم فهمٍ أولًا، ثم يرفض لمجرد الرفض، وتحت شعار مقاومة الحداثة أو باسم الدين من خلال ما يجوز، وما لا يجوز في غير موضعه أصلًا، وقد يقفُ أحدُهم مجادلًا بلا علم، لكنَّ الأستاذُ يمضي رغم محاولات تعطيل المحاضرات، وإيقاف تداعيات منهجها الذي لم يلتفت إلى تعطيلات أولئك الطلاب البسطاء، والمعذورين في فهمهم القاصر، والموجَّه أحيانًا، وتربيتهم المدرسية، وحرصِهم على التشبُّثِ بالمألوف من طرائق التدريس، ووضوح المقرر وتقليديته، لكن الأستاذ المختلف يمضي فاتحًا شارحًا مطبِّقًا لمنهجه دون تردُّدٍ، ويريد أن يتفاعل معه في ذلك كلُّ الطلاب، لكن لو أنهم لم يفعلوا جميعًا ما يريدُ، وفهمه عنه آحادٌ منهم ربما لكفاه.



وتكونُ متابعاتهُ في شرح القصائد الطوال من الأدب الجاهلي بمحمولاتها الدلالية، وبطريقتها التي لن يفكَّ شفرتها، ويحلِّل روابطها سوى منهجه الذي ارتضاه، وطبَّقَهُ، وراهن عليه في تدريسه؛ إنه المنهج البنيوي كما أشرنا.
يمضي الفصلُ الدراسي مُدهِشًا بكلِّ تفاصيله، فارقًا في تعلُّمِنا، جديدًا في فتح آفاق معارفنا وعقولنا، وبالنسبة لي كان فيه الكثير من التحدِّي لإثبات المعرفة، والتمسك بعوالمها من خلال جديدٍ لم يؤلف، وطريق في التحليل لم يُعرف، وبما فيه من مصطلحات كثيرة تتداخل بين العربية والأجنبية لم يكن لي بها عهدٌ- ولا لغيري من الزملاء- وأنَّى يكون لنا ذلك.
ثم يزدادُ التَّحدي، والقراءة، والاستغراق في الاطلاع، ومن خلال العودة إلى المكتبة لفهم كثيرٍ من ألغاز المنهج، وفكِّ شفراته وفهمه مع تلذُّذٍ غريب بهذا الأسلوب الجديد المدهش الصعب المكتنز، ولكلِّ جديدٍ لذَّةٌ-كما يقال- ولأستاذنا هذا المختلف الذي أدهشني بثقته بنفسه، وبعلو مكانته العربية، واسمه الذي بدا يتضح لي مكانًا ومكانةً شيئًا فشيئا بعد القراءة، والعودة إلى المكتبة التي كانت النافذة الوحيدة حينئذٍ للمعرفة والاطلاع على كتبه.
ثم تأتي طريقةُ قياس التحصيل في نهاية الفصل الدراسي لهذا المقرر، فيكون أكثر إدهاشًا وغرابة من طريقة تدريسه، إنها مختلفةٌ تمامًا؛ حيثُ يقفُ صاحبُ المنهجِ محاولًا اختبار منهجه، وقياسه بمقدار فهمنا له وتطبيقه لا بمقدار ما نحفظ منه أو نستظهر من مصطلحاته ونصوصه، هو لا يريد ذلك الاستظهار، ولا يقيس الحفظ لدينا، ولا يعنيه، فهو يعرف أنَّنا عهدنا هذا النمط، وهو نمط تقليدي مألوف، إنه يريد اختبارنا في طريقة فهمنا، وتطبيقنا لمنهجه، وما فهمناه منه، ومقدار استيعابنا لخطواته الإجرائية، فطلب منا أن ندخل إلى قاعة الاختبار بكتبنا، ومراجعنا، وملخصاتنا (أوبن تست Open Test) ولأول مرة نعرف هذا المصطلح، وندخل إلى قاعة الاختبار، ونجيب عن سؤالين فقط بطريقة بدتْ لنا مربكةً ومفاجئةً، كيف سنفعل، وكل شيء أمامنا؟، إنه سؤال قراءة، وتطبيق منهج وفقَ ما أراد لنا أستاذنا أن نتعلمه، ونتشبَّع بطريقته لكي نحلِّل نصًّا ما بطريقةٍ بنيويَّة، وبين أيدينا الدواوين، والكتاب المنهجي، والمراجع الأخرى، ولكن كيف سنفعل بكل ذلك خلال ساعتين؟، يجب علينا فيها أن نثبتَ مدى فهمنا، ومهارتنا في تطبيق ما أخذناه عنه، وتحليل نصوصنا وفق ما تعلمناه منه خلال ثلاثة أشهر مضت بكلِّ جديدها المتميز في الدراسة، والمختلفة في المنهج، والأستاذ؟! إننا أمام تحدٍّ حقيقي لإثبات ما فهمناه، وكيف فهمناه؟.
وكانت تلك غاية الأستاذ ومقياس تقويمه لنا، فهل نجحَ في وضع عقولنا أمام أول خطوات البنيوية وأدواتها المنهجية، وإجراءاتها التطبيقية، وهل فهمنا جزءًا منها؟، ذلك ما كان يعنيه، وهو ما أدركناهُ فيما بعد حين أكملنا مشوار الحياة العلمية، والبحث الأكاديمي، وعرفنا مقام الأستاذ في خارطة الدَّرس النقدي العربي، فحمدنا لجامعتنا، ولمديرها في ذلك الوقت أستاذنا الدكتور المقالح جهدَه، وبُعدَ نظرِهِ في التَّعاقد، واستقطابِ كبار النقاد العرب، والأكاديميين من الأَعلام الكبار في الوطن العربي.




وكان "كمال أبو ديب" أحد أولئك الأعلام، وكان لجهوده في غرس بذور السؤال المعرفي، والمنهج العلمي، وعدم الاستسلام للفرضيات الجاهزة والقوالب الثابتة الأثر البالغ في نفوسنا وفي عقولنا المتشكِّلة في طريق البحث.
وقد كان ذلك التَّحدي وإثبات القدرة على فهم المنهج، وبدأتُ – ومعي عدد من زملائي من غير المتبرمين من منهجه- بحرصٍ كبيرٍ في التفاعل مع هذا الأستاذ المختلف، وأردت على المستوى الشخصي أن أثبت أولًا- بفهمي الآني في تلك المرحلة، واستنتاجي، وقراءتي لكتبه المتاحة في مكتبة كلية الآداب- أني تعرَّفتُ على رجلٍ غير عادي قادم إلينا من جامعة اليرموك، ويدرِّسُ الأدبَ العربي في جامعات أمريكية؛ حيث عملَ باحثًا وأستاذًا في جامعات أكسفورد، وبنسلفانيا، وكاليفورنيا (بيركلي)، وكولومبيا (نيويورك)، وله سيرةٌ علمية زاهرة، وكتب كثيرة حافلة، اطلعتُ حينها على عددٍ منها –وفيما بعد اكتملت معرفتي به-: ووقفت على عدد من أهم إنجازاته المتنوعة التي منها: «نظرية الصورة الشعرية عند الجرجاني» «حيرة من يعرف كل شيء»، «احتفاء بالاختلاف»، «الثقافة بين التشظِّي والتعدد»، و«مدخل بنيوي للنص القرآني». باللغة الإنجليزية، ومن أشهر كتبه باللغة العربية «في البنية الإيقاعية للشعر العربي؛ نحو بديل جذري لعروض الخليل...»، و«جدلية الخفاء والتجلي؛ دراسات بنيوية في الشعر»، و«الرؤى المقنَّعة»، و«في الشِّعرية»، و«البنى المولدة في الشعر الجاهلي»، «الأدب العجائبي والعالم الغرائبي»، «جماليات التجاوز»،«كتاب الحرية» وغيرها. وقد ترجمَ عددًا من الكتب إلى اللغة العربية من أشهرها كتابيّ: «الاستشراق»، و«الثقافة والامبريالية» للناقد ادوارد سعيد. وأصدر عددًا من الكتب الإبداعية بين الرواية، والشعر منها: «سماء بلا نجوم»، و«بكائيات من مراثي ارميا»، و«معلقة الأضداد» و«عذابات المتنبي»، وقد ساهم في كتابة عددٍ من الموسوعات العالمية وتحريرها، ومنها: «الموسوعة الإسلامية»، و«الموسوعة الإيرانية»، و«تاريخ كامبرديج للأدب العربي»، و«معجم أوكسفورد الإنجليزي - العربي»، و«موسوعة ذا كوليج»، و«وموسوعة الأدب العربي»، وغيرها عبر رحلته العلمية العميقة والثرية.
ومما كان يلفت النظر إليه ويشدنا ونحن طلاب عند التعامل معه تحليه بكلِّ صفات الأستاذ الجامعي القدير والنموذج المكتمل والباحث العلامة هذا فضلًا عن ثقته بنفسه الثقة الملفتة المدهشة المهيبة، ومكانته وقربه من رئيس الجامعة الدكتور المقالح الذي يُعدُّ رائد التحديث والحداثة في اليمن، والشخصية الثقافية الأولى في الجامعة وفي اليمن بعمومه، وما كلُّ أساتذة الجامعة الآخرين يحظونَ منه بنفس الاهتمام والمكانة، ومن هنا أدركتُ – حينها- أنَّه عَلَم ٌكبير في آفاق الدرس النقدي المنهجي الحديث عربيًّا، وعالميًّا.
وثانيًا: كان عليَّ أن أثبتَ أنني قادر على فهم منهجه، وتحصيله التحصيل المتميز للحصول على تقدير كبير، وبالفعل كان الجهد وتحققت الغاية، وكان تقدير (جيد جداً) لدى أستاذ البنيوية ورائدِها -بالنسبة لي- يمثِّلُ فرحةً لا تساويها امتيازات المقررات الأخرى، وما يزال الرقم (128) من (150) في سجلِّي الأكاديمي؛ موقَّعًا بيدِ البورفيسور كمال أبو ديب شامةً أعتزُّ بها، على قلةِ من أخذَ هذا الرقم أو قريبًا منه، لأنَّه شهادةٌ من عَالم كبير، وأستاذ قدير له مكانته العلمية، والنقدية، والأدبية.
وتمضي الأيام ويترك الأستاذ الزائر جامعة صنعاء إلى افق آخر من عوالمه المليئة بالحياة والحضور، وبعد عقدٍ من الزمان، وبالتحديد في عام 2000م التقيتُ أستاذي الكريم "كمال أبو ديب" في المؤتمر الدولي الثاني للنقد الأدبي الذي نظمتهُ كلية الآداب في جامعة عين شمس بالتعاون مع الجمعية المصرية للنقد الأدبي، وجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا تحت عنوان «النقد الأدبي على مشارف القرن» في الفترة من 20- 24 نوفمبر، كنتُ حينها طالبًا في بداية مرحلة الماجستير، وحين رأيته هرعتُ إليه مسلمًا مبتهجَا فَرحًا بلقائه، وأخبرته أنني من طلابه في جامعة صنعاء، فبشَّ بي ورحَّبَ، وسألني عن صحة أستاذنا وصديقه المقالح، وعن وجودي هنا في القاهرة، فأخبرته عمَّا استفهم، وأضفتُ- دون قولٍ وعلى عجالةٍ، بلسان الحال- بأنَّ طالبَكَ الذي وضعتَ في عقلهِ بذرة السؤال، والبحث عن فهم القراءة والمنهج، وقلق المعرفة قد تأثَّر بك، وتعلَّم منك شيئًا ما من حب العلم، وروح القراءة، وفق ما غرسته فيه، وفي جيله ذات عام، وذات مُقرَّرٍ، وفي موطن العلم، وجامعة صنعاء، فأثمر ذلك الغرسُ في سعيه لإثبات الذات، وتحقيق المعرفة في طريقٍ ما يزالُ طويلًا، ومنك تعلمتُ.




تواضع الكبار:

حين نشرتُ هذا المقال في صيغته الأولى عبر صفحتي على الفيسبوك ردَّ عليَّ أستاذي الكبير مُعلقًا على المنشور بقوله: "فكرةٌ فريدة تفصحُ عن نبلٍ في النفس والفكر، وولع بالبناء المعرفي جيلًا بعد جيل، وباحثًا في إثر باحث. مع أنني أعتزُّ بخطوتك هذه؛ فإنني أشعر بالحرج لإغداقك عليَّ ما لا أستحقه من مكانة.. مع مودتي وتقديري".. ما أجمل أن يردَّ عليك أستاذك بعد أن تباعدت المسافات إلا مسافة الودِّ والذكرى التي لا يفصلها عنَّا شيء، ولا يقطعنا عنها بعد الزمن وطول السفر في مرافئ الحياة، فما أقرب من يتركون أثرهم في وجداننا، وما أعزَّهم في حياتنا! وما أكثرنا بهم! "بلى أستاذي الكريم.. تستحق لأنك أنت أنت من قَدَحَ فينا بذرة المعرفة المختلفة، وجمال السؤال، وعمق الوفاء لتراثنا، ولذواتنا، ولحضارتنا.. دُم فاتح آفاق، ومحرك أفئدة نابضة بالعلم، والحب، والجمال، أيها الكمال... ولك محبةٌ غير مُنقطعة"..
 
تحية:
"يا سيِّدَ المنهجِ المُنضَبط
بروحِكَ أدركتُ معنَى الضِّياءِ
وأشرقتِ النَّفسُ من ظُلمةِ الأمسِ
من حيرةِ الحرفِ
من وَهْدَةِ الرِّمسِ
من هُدنةِ الجَهلِ
أضحتْ تُثيرُ السُّؤالَ،
وتهوَى السُّؤالَ
وتَصنعُ من سِينها ألفَ سينٍ!
وتبحثُ في كلِّ شَيء
تسائِلُهُ تَارةً
تَختَفي/ تستبينُ
ولكنَّها في خُطَاها تُحَاولُ أَن تَقتَفي
زهرةَ النُّورِ
أو وَردةَ المُستَحِيل...".
============
(فصل الخطاب):
بدأ المنهج الذي يطوِّره هذا البحث باتخاذ صيغة أولية له في النصف الثاني من الستينيات في سياق التطوير الطبيعي لمجموعة من المبادئ والتصورات النقدية التي تبلورت أثناء عملي الطويل في جامعة أكسفورد على نظريتيّ الصورة الشعرية، والنظم عند عبد القاهر الجرجاني، وكانت دراستي للجرجاني قد اتخذت مسارًا محددًا لها هو موضعة تحليله للنظم، وللصورة الشعرية في سياق النظريات الحديثة المطروحة في النقد الغربي، وقد قادني هذا المنهج إلى التعمُّق في دراسات التيارات السائدة في اللسانيات (بفروعها المختلفة) وفلسفة اللغة، والرمز، والشكل، والصورة الشعرية في جوانبها المتعددة وبين أهمها الجانب النابع من دراسة اللغة المجازية في الفكر الديني، والفكر "البدائي"، والأسطورة.
د. كمال أبو ديب (من مقدمة كتاب الرؤى المقنعة)


* ثم نشر المقال ضمن سلسلة من هؤلاء تعلمت الحلقة الثانية، بمجلة (أقلام عربية) العدد 24 أكتوبر2018م.
ويمكن الاطلاع وتحميل العدد من الرابط الآتي:



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)