4) أ.د/ كمال بشر (شيخ اللغويين العرب..صوت معلم لا يشبهه أحد)


- من هؤلاء تعلمت-
*سيرة ذاتغيرية*


ينزل من على سيارةٍ، يفتحُ البابَ سائقُهُ الخاص، فيهرعُ أحد الطلاب إليه بكلِّ احترام، يأخذ بيده، ذلك الطالب المؤدَّب هو "حسين عبد العظيم" زميلنا في دبلوم اللغة العربية، ثم يمضي الأستاذُ بكلِّ ثبات، وبخطوات هادئة ذلك الثمانيني الذي انحنى ظهره لكن الثمانين -وبلِّغها- لم تحوج سمعه إلى ترجمان، فسمعه ممتاز، إنما بصره هو الذي احتاج إلى ترجمان الحروف وعدسته المكبِّرة.

 يدخل إلى قاعة التدريس التي اعتاد عليها منذ فترة ليست بالقصيرة في معهد البحوث والدراسات العربية بشارع القصر العيني، في موقع ذلك المبنى الذي يبدو عليه القِدَم مع الفخامة، وارتفاع سقف غرفه، وتنوع مداخلها، وساحته التي أخذت مساحةً لا بأس بها في مكان مهم هو شارع الطلمبات في حي "جردن سيتي" ذلك الحي الأرستقراطي في زمن البشوات في مصر، وقد تعاقبَ على إدارة ذلك المعهد والتدريس فيه -منذ إنشائه في 23/ 9/ 1952م- عددٌ من الأعلام والأساتذة الكبار منهم: الأستاذ ساطع الحصري، ومحمد شفيق غربال، ود. طه حسين، وعبد الرحمن البزار، وآخرهم د. أحمد يوسف أحمد، أمّا الأساتذة والأكاديميين فحدِّث عنهم ولا حرج في مختلف التخصصات التي يتكون منها المعهد، وهي عشرة أقسام على النحو الآتي:(قسم البحوث والدراسات: الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والجغرافية، والتاريخية، والقانونية، والأدبية، والإعلامية، والتربوية، والتراثية). 

وأما أساتذتنا في قسم البحوث والدراسات الأدبية والذين كانوا من مختلف الجامعات المصرية فمنهم: د. عز الدين إسماعيل، د. نبيلة إبراهيم، د.صلاح فضل، د.محمد بريري، د. كمال بشر، د. محمد العبد، د. سعيد بحيري، د.وليد منير، وغيرهم. 
اعتاد ذلك الأستاذ الجليل على هذا المكان لسنوات طويلة كما تعوَّد على العطاء فيه لطلابٍ من كلِّ الدول العربية، يأتون للدراسات العليا في معهد هو من أقدم المعاهد الأكاديمية التابعة لجامعة الدول العربية حين تأسيسه، ثم تبِعَ المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم منذ قيامها في 1970م. 

ذلك الأستاذ القدير هو الأستاذ الدكتور كمال محمد بشر أستاذ اللغويات (1921- 2015م)، والأكاديمي الكبير منذ خمسينيات القرن العشرين حين تخرَّج في جامعة لندن، وحصل فيها على درجة الماجستير في علم اللغة المقارن عام 1953م،  وعلى درجة الدكتوراه في علم اللغة والأصوات عام 1956م.
وهو يمارس التدريس والبحث والتأليف لأكثر من نصف قرن ويزيد، وبروحه العذبة التي تُعلِّمكَ جمال الأستاذية وسموها مع خصوصية عذبة يمتاز بها، وهي إنه يخاطبُ طلابه بلهجته المصرية الريفية كاسرًا مهابة اللقاء الأول، فيسألهم عن أسمائهم، ويشير إليهم واحدا واحدا، متخذا من قوله: اسمك إيه يا واد؟ وانتِ يا وليه اسمك إيه؟ ومنين؟!، ثم لا تخلو محاضراته من النكتة التي يتبعها بضحكته المجلجلة المميَّزة.

كنَّا شبابا في مختلف الأعمار من أكثر من قطر عربي وإسلامي، من مصر، وفلسطين، واليمن، وموريتانيا، وأندونيسيا وباكستان هم مجموع الدفعة التي تدرس مقررَ (علم اللغة) وبالتحديد (علم اللغة الاجتماعي) في السنة الثانية للعام 2000/ 2001م الفصل الرابع التخصصي.

ومما يتميز به الدكتورُ بشر أنه يدرِّس كتابَه الذي اعتاد عليه، وهو من أهم كتب اللغة، وكان حين يقف في نهاية المحاضرة عند نقطة ما من الكتاب، ينطلقُ في المحاضرة القادمة مما يليها دون أن يسأل عن "أين وقفنا؟!" إنها ذاكرة عجيبة قوية يتمتع بها أستاذنا في تركيز شديد وسعة رائعة.
سألناه في ذات يوم عن تلكم الذاكرة وقوَّتها –لا قوَّة إلا بالله-، ونحن نحتفلُ بعيد ميلاده التاسع والسبعين في عام 2000م، حين بادرتْ إحدى الزميلات المصريات بلفتِ نظرنا إلى هذه المناسبة، فأعددنا لها شيئًا مما يعبِّر عن حبنا له وإجلالنا لشيخنا الجليل، وأهداه بعضنا – فيما أهديناه- مصحفًا فرح به فرحا كبيرا، وحينها قال لنا: "كلَّما استمعتُ إلى القرآن أو قرأت فيه اكتشفتُ ظواهر صوتية وفوائد عجيبة، ومع كل استماع أخرجُ بفكرة بحث لغوي أو صوتي أو دلالي مختلف إنه التجدُّد الذي يمتاز به كتاب ربنا"، إنها روح الباحث ولماحيته وفتح آفاق دراساته التي كان يقوم ببعضها أو يفتح بها على طلابه موضوعاتٍ تصلح للبحث والتحليل.
لاحظنا على أستاذنا أنه يتمتَّع بصحة جيدة وبذاكرة قوية، وبتركيز علمي شديد على الرغم من أنه يدخِّن بكثرة حتى لا تكادُ تغادر إصبعه السيجارة، ويشربُ قهوته التركية الثقيلة التي كان يهرعُ بها إليه ساعي المعهد كعادةٍ يوميةٍ مع دخوله إلى القاعة، فسألناه ما سرَّ هذه الذاكرة – ماشاء الله تبارك الله- والصحة الطيبة؟ مع نصحه -على استحياء- بأن التدخين قد يضر بصحته الغالية! فاخبرنا عن سرِّ تلك الذاكرة والتركيز والصحة بحمد الله أنه منذ كان في الفلاحين – بحسب عبارته- وهو ينامُ بعد التاسعة ليلاً أو عندها، ويستيقظ قبل الفجر ثم لا ينام إلا وقت القيلولة إن كان اليوم بمشاغله الكثيرة يسمح له بالعودة إلى البيت وأخذ قسط من الراحة وإلا فإنه لا يغير عادته في الحفاظ على نظامه الخاص في النوم المبكر والاستيقاظ المبكر.

إذن فهذه عادة صحية لم يغيرها طوال عمره حتى عندما كان شابًّا في مرحلة التعليم العالي في خمسينيات القرن العشرين – حيث حصل على الدكتوراه في علم اللغة والأصوات عام 1956م- لم تُغيّر عادته أضواء لندن ومساءاتها الصاخبة ولياليها الساهرة التي لا تنام، فعادته الفلاحية، وطباعه المصرية الريفية التي نشأ عليها وقت التكوين صحبتهُ في حلّه وترحاله، فلقي ثمرتها في صحته وقوة حواسِّه وذاكرته التي هي الوارث منه، وبركتها لم تتغير، فظلّ نهر علمه، وتدفق معارفه، وغزارة إنتاجه مصاحباً له ما شاء الله.
 

فتعلَّمتُ منه أن سرَّ الحفاظ على العقل وروح غذائه يكمنُ في عادة النوم السليمة.
ويمضي أستاذنا في شرح قضايا منهجنا بكل اقتدار معهود، نستفيد من تعليقاته العلمية ونكته المعرفية، يشفعها جلال قدره مع تواضعه المهيب ومكانته العلمية المعروفة والمشهودة في ميدان التأليف والتدريس والإشراف على الرسائل العلمية من ماجستير ودكتوراه بلغت المئات، إشرافًا وإرشادًا ومناقشات.
وأحاول الاقتراب من أستاذي الجليل لإعجابي الشديد بروحه الودودة وعلمه الغزير، فيصادف صدور ديواني الثاني (أنشودة للبكاء، 2000م) فأهرعُ بهِ إليه زائرًا له في مكتبه بكلية دار العلوم، حيث يطلب من الساعي أن يحضر لي الشاي، وتلك عادة يقدِّمها لضيوفه ولطلابه، فلا يخرج من يزوره إلا بعد أن يشرب شيئًا، يسألني عن اسمي وجنسيتي -حين أخبرته أني أحد طلابه في المعهد-، ثم يسألني عن اليمن والحياة فيها ويأخذ الديوان، وقد بشَّ به ووعد بقراءته، ثم يطلق عليَّ منذ تلك اللحظة لقب " اليمني الشاعر" وكلَّما رآني بعدها عرَّفني بهذا الاسم وناداني به.

كنتُ أسعد برؤيته ولقائه، وبهذا النداء، وحين أتيحتْ له فرصةٌ لقراءة الديوان -على الرغم من مشاغله الكثيرة تدريسا وإشرافا ومناقشات وعضوية مجمع اللغة العربية وغيرها- بادرني ذات يوم فقال: "إنك شاعرٌ مثقف، في شعرك عوالم كثيرة، وقد لخصتَ في قصيدتك "أنشودة للبكاء" حياة الإنسانية من خلال رموزها وحياة الأنبياء فيها وغيرها من الدلالات تلخيصا بديعًا" إنها شهادة كدتُ أطير بها فرحا لشاب متطلِّعٍ يعجب أستاذٌ بحجم كمال بشر بشعره ويثني عليه، سواء كان حقيقة ذلك الإعجاب أو أنَّه بروح المشجع من عالم خُلقُه خلق العلماء الكبار، فأيًّا كانَ فحسبي أنني مررت على خاطره وحظيتُ بقراءته وإقراره بصحة ما جاء في ديواني من اللغة والصور والمعاني إذ ما كان له أن يسكت عن خطأ أو يتغاضى عن زلَّة، فكان ذلك لديَّ شهادة عبور وجواز انطلاق.
ثم تمضي الأيامُ، وفي ذات نهارٍ يدخل علينا قاعة الدَّرس، ويبدو عليه الضيق والحزن والأسف من قضية أرَّقته... وما لاحظتُه عليه من حُزن قد أثار مشاعري فأحببتُ أن أشاركَه شعرا، مؤكدا له محبتي ومشاعري نحوه أستاذا وعالما، وقد ردَّ هو بدوره على تلك القضية... ولكنِّي كتبتُ قصيدتي التي عبَّرتُ فيها عن مكانة الرجل وعلمه، ومما قلت فيها:
"... فكمالٌ بعلمهِ
فاحَ في الأرض كالشَّذا

إن تكنْ قدْ جهلْتَهُ
 سلْ عن البِشْرِ ذَا وذَا

يعرفُ العلمُ فضلَهُ
باجتهادٍ تعوّذا

نِصفُ قرنٍ ونيّف
وهو يُعطي، وكم غَذا

صارَ في العلمِ حجةً
للخلافاتِ نابذا

"مَجمعُ العُربِ" شاهدٌ
أنَّ فرسَانهُ إذا

قالَ بِشرٌ: مقولةً
أصبَحَ الكلُّ آخذا

"ابنُ جنيِّ" عصرِه
مَنْ عَلى نهجه حذَا

حازَ في المجدِ رُتبةً
هكذا العلمُ هكذا

إنّما كلُّ عالمٍ
 ليس ينجو مِن الأذى...الخ".

سعد بها أستاذي الكبير وتقبَّلها بقبولٍ حسن، معلقًا على رويِّها، وهو حرف الذال الصعب القلق، بقوله:"أنت شاعر قدير لا يكتب بمثل هذه القوافي، ويجيد إلا القليل، وهي بذلك سَلِسَة طريفة قوية لفظًا ومعنى".
ذلك هو عالم اللغة الكبير وأستاذها القدير شيخنا الأستاذ الدكتور كمال بشر –رحمه الله- الذي تعلمتُ منه تواضع العالم الجليل، وقدرته، ومهابته، وبساطته مع طلاب العلم ليحقِّق بكلِّ ذلك أستاذيته باقتدار دون أن ينقص تواضعه من مهابته ومكانته شيئًا، بل إنه يزيده رفعةً وسموًّا.

تعلمتُ منه حرصَهُ على مواعيده المنضبطة، وتفانيه في تدريسه بصحة جيدة رغم تقدُّم العمر لكنه استطاع المحافظة عليه بعاداته الصحية الجيدة، وبما يمنحه الله عزَّ وجل للعلماء من بركةٍ في الجهد والوقت والصحة، بفضل مسعاهم، ونبل عطائهم.

كما تعلمتُ من كتبه الكثيرة جودةَ السَّبك، ومنهجية العلم، وغزارة التحليل، وفي كتبه الكثير من الفوائد والعلم التخصصي الكبير، ومن تلك الكتب على سبيل المثال لا الحصر: كتاب قضايا لغوية، 1962م، وعلم الأصوات،

 ودراسات في علم اللغة، 1996م، ودور الكلمة في اللغة، وهو ترجمة لكتاب: words and their uses، وقد نشر أول مرة سنة 1962م، وأعيد طبعه أكثر من خمس عشرة مرة، وعلم اللغة الاجتماعي، نشر أول مرة سنة 1992م، وأعيد طبعه (منقحًا) سنوات 93، 94، 1995م، وخاطرات مؤتلفات في اللغة والثقافة، 1995م، واللغة العربية بين الوهم وسوء الفهم، نشر سنة 2000م، وفن الكلام، 2003م، وصفحات من كتاب اللغة، 2004م، ومجمعيات، 2004م، وإذاعيات لغوية، 2005م، والتفكير اللغوي بين القديم والجديد، 2005م).

 وقد درَّس لنا واحدًا من تلك المؤلفات، وهو كتاب (علم اللغة الاجتماعي) دراسةً كاملة، واستظهرناه عن عقل وقلب حَاضِرينِ، وتلقيناه عنه تلقيا مباشرًا.


 وقد أدركنا من خلال ذلك الكتاب علمه وتمكنه في التأليف وعرض موضوعات اللغة بما شكَّل منهجا (بِشْريًّا) خاصًّا، و(كمالاً) علميًّا متحقِّقا نافعًا لكلِّ قارئ وطالب علم جادٍّ مثابر.

تحية إجلال لتلك القامة العلمية واللغوية الشامخة والرئيس الأسبق لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، العالم والعلامة المكلل بالجوائز اللغوية مشرقاً ومغرباً، والذي وصف نفسه في إحدى اللقاءات بقوله: "أنا رجل نصفي فلاح ونصفي شيخ" فمن الفلاحين تعلم الأصالة والتواضع، ومن الشيوخ تعلم الدقة والانضباط، وأقول: لله درك أيها اللغوي الكبير، والأستاذ القدير في بساطة روحك، وجلال علمك، وسمو خلقك، ونفعَ الله بك أقواماً كثيرين، وطلاب علم من كل الوطن العربي الكبير ومن غيره.
 
رحم الله أستاذنا القدير وجزاه عنَّا وعن طلاب العلم والباحثين وعن اللغة العربية وعلومها خير الجزاء، وأثابه مغفرة ورضوانا...
#####
تحية:
(هو الشيخُ
أصواتُه في ثنايا اللسانِ
وفي كلِّ قلبٍ جرى  بالبديع البيان
هو الشيخُ
آفاقُهُ رَحبةٌ
وطلابُه في المدى يشهدون
وآثارهُ في معالي الدروس
هي الضادُ تنعمُ بالمعجزات
ويورقُ فيها ربيعُ الحياةِ
وقد أشرقت في النفوسِ
وميلادُها
كلَّمَا عادَ ميلادُ أبنائِها
ويولدُ من نبضِها عَالمٌ
يسيرُ
 على نهجِ من قد مضى
وأخلصَ في قولِها
والفعال
وخلَّدها في مرايا الوجود
سلامٌ على شيخِنا
يومَ عاشَ
سلامٌ على شيخِنا
في الخلود...).



==========
فصل الخطاب:


"اللغة تشبِه الكائنَ الحيَّ في التطوُّر، فالخيرُ في اللغة انعكاسٌ لخير أصحابِ اللغة، والشَّرُّ في اللغة انعكاسٌ للشرِّ في أصحابِ اللغة. أصحابُ اللغة العربية هجروا هذه اللغة وعزلوها، فوقفت، وتخلَّفت، ولم تجارِ العَصر" #كمال_بشر.
 
#######
*نشر المقال في العدد (27) من مجلة أقلام عربية، يناير 2019م.




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)