10- البروفيسور العلامة عبد الملك مرتاض (السوربون بوابته إلى التراث العربي)

من هؤلاء تعلمتُ:
*سيرة ذاتغيرية*
(الحلقة العاشرة، مجلة أقلام عربية، العدد (32)، يونيو 2019م، شوال 1440هـ.).
البروفيسور العلَّامة/ عبد الملك مُرتَاض
 (السُّربون بوابتُهُ إلى التراثِ العربي) 

لأول مرَّة التقينا به في القاعة (20) إحدى قاعات كلية الآداب بجامعة صنعاء، في مقرر (قاعة بحث) أستاذٌ زائر  من جامعة وهران يزور جامعة صنعاء لفصل دراسي في العام الجامعي 1994/ 1995م 

بدا لنا أستاذا حيويًّا في قمة العطاء الفكري والروح المتدفقة بابتسامته وبتواضعه ومهابته يحدِّثنا بلغته العربية الفصيحة التي تشوبها طريقةٌ جزائرية في نطق بعض الحروف كحرف التاء الذي أسمعه لأول مرة يخرج بطريقة تختلط مع حرف الشين، فهي أكبر من تاء وأقل من شين، ويتدفَّق في الشرح بعلمٍ غزيرٍ، ومعرفةٍ مبهرةٍ، يعرِّفنا عن أساليب البحث، وأنواع المناهج، وحين يشرح يحدثنا عن أحد أساتذته في جامعة السوربون، وكيف كان يقفز على قدمٍ واحدةٍ، وهو يحكي لهم حركة أحد الطيور وهم يضحكون من بساطته وعلمه، ومحاولة تجسيده للمعنى بكل مشاعره وحركات جسمه لذلك الطائر الغريب المذكور في إحدى قصائد شاعر غربي، وينطُّ أستاذنا مثله على قدمٍ واحدةٍ أمامنا في قاعة الدرس، وهو منسجمٌ في شرح الفكرة، فما نكاد ندري أنعجب من الحاكي أم المحكي عنه؟، وهو يرتدي قبعته البيضاء ويحركها بيمينه، ثم يمضي الأستاذ في شرح بعض أبياتٍ قام بدراستها عن قصيدة (أين ليلاي؟) للشاعر محمد العيد آل خليفة التي تقول أبياتها:
"أيـن “لـيلاي” أيـنها ** حيلَ بيني وبـيـنَها
هل قضتْ دَيْنَ مَن ** فـي الـمُحبين دَيْنَها
أصْلتِ القـلبَ نارها ** وأذاقتْه حَيْنَهــــــا
مذ تعـرَّفتُ سِـرَّها ** وتعـشَّقتُ زيـنَهــــــا
فَتَعَـلقْتُ بـالطـيـــوف اللـواتـي حَكـيـنَهـا
وتَعـَلَّلْتُ بالمني ** فتبـيَّـنـتُ مَيْنهـــــــــا
مالـ"لـيلايَ" لم تَصِلْ ** مُهَجَـاتٍ فدَيْنهــــــا
وقـُلـوبًا عـلِقْنَهــــا ** وَعـُيـونًا بَكَـيـنَهــــا
إيـهِ يا عـيـنيَ اذرفي ** لن تـرَيْ بعـدُ عَـْينَها...الخ"
هذه القصيدة نشرت لأول مرة في جريدة الشهاب عام 1937، وقال عنها الإمام محمد بن باديس: "مَن هي ليلى شاعرنا يا ترى؟ ليست له قوسٌ ولكنْ له مروحة، فهل يعني هو الآخر مروحته؟. إن محمد العيد الذي يشعر شعور الشَّعب، ويتخيَّل خيال الشعب، لا تشغله قوسٌ، ولا مروحة، ولمن لا تفتنه- وهو البلبل الغريد في قفص- إلا الحرية، فهل يوافق على هذا بعض من ينقصُهم شيء من السياسة ليفهموا؟"، إذن فهي الحرية التي تستهوي الشعوب العربية، وينافح عنها شعراؤها الكبار في رمزهم، وتصريحهم وفي نصوصهم العميقة التي لا تتقادم بالزمان ولا تبليها الأيام لأنها مطالب جوهرية ما نزال نعيشها حتى اللحظة، ويصف لنا الأستاذ ما في هذه القصيدة من عمق دلالي، وقد أفرد لها دراسةً كاملةً، بعنوان (أ/ي دراسة سيميائية تفكيكية لقصيدة أين ليلاي؟) والذي على ما يبدو من العنوان أن فيها تقليد لكتاب رولان بارت S/Z" الذي هو عبارة عن أول حرف من عنوان النص الذي يعالجه الكتاب وهو أول حرف من قصة Sarrazine  لبلزاك، وحرف Z الذي هو آخر حرف من الأبجدية الفرنسية، وبهذا فالكتاب فيه تأثر واضح بالمنهج التحليلي لرولان بارت، ولكن من خلال نصٍّ إحيائي جزائري لمحمد العيد. حيث يوظف أستاذنا منهجه الحداثي وأسلوبه النقدي على الشعر الرصين ذي الحضور المتجدِّد والأفق الوطني والرمزي العالي في مستواه، وهو يشرح طبيعة هذا النصّ ومقاصده بكلِّ إدهاش ينقلنا مع لغته الناقدة وأسلوبه المتميز إلى عالمه العميق ورؤاه النقدية والأدبية المكينة، فكان ذلك اللقاء الأول وتلك المحاضرة دافعًا للذهاب إلى المكتبة للنظر في مؤلفات أستاذنا والتعرف عليه من خلال إنتاجه ومصنفاته الكثيرة.
وهكذا تعرفتُ على أستاذي الدكتور البروفيسور عبد الملك مرتاض [بن عبد القادر بن أحمد بن أبي طالب] (10 يناير 1935م- ...) أمدَّ اللهُ في عمره الذي تجاوز الآن الرابعة والثمانين في خيرٍ وصحةٍ وعطاء. أستاذُنا من مواليد بلدة مسيردة ولاية تلمسان بالجزائر عمل أستاذًا مساعدًا للأدب والنقد والسِّيميائيات في جامعة وهران منذ العام 1970م، وقد تخرج في كلية الآداب جامعة الرباط بالمغرب 1963م، ونال الدكتوراه في جامعة الجزائر 1970، بينما حصل على دكتوراه الدولة في الآداب باللغة الفرنسية من جامعة السوربون الثالثة بباريس عام 1983م.
هذا السُّوربوني ذو الثقافة الفرنسية والاتصال بالغرب دراسةً وثقافةً وحداثةً له تكوينه العربي التُّراثيّ ومرجعيته العربية الأصيلة، فقد حفظ القرآنَ الكريمَ في كُتَّابِ والدِه، والتحق بمعهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة، وفي عام 1955 م سافر إلى فاس لمتابعة دراسته بجامعة القرويين بالمغرب، وخلال هذه الرحلة العلمية درس الأدب العربي من شعرٍ، ونثرٍ، وبواكير الدراسات النقدية في العصر العباسي، كما درسَ العلومَ اللغوية من نحو، وصرف، وبلاغة وغيرها.
ومن هنا فسيكون لأستاذنا في مسيرته البحثية مرحلتان كبيرتان في تشكيل مشروعِه النَّقدي سنقف لديهما بإيجاز مُلْمِحِينَ إلى أبرز خصائصهما، وهذا التكوين سيكون واحدًا من أسباب المعارك العلمية التي سيخوضها أستاذنا مع العلماء، وقد أَطْلَعَنا أستاذُنا في إحدى المحاضرات على مقالةٍ علميةٍ نشرها في إحدى المجلات يردُّ فيها على أستاذنا الدكتور إبراهيم السمرائي –سنقف إن شاء الله في المقال اللاحق مع هذا العَلَم العربي العراقي الكبير- الذي يتَّهِمُه بأنه لا يعرفُ العربية الفصيحة بأصولها واشتقاقاتها ومفرداتها، وأنه بحكم تنشئته الغربية ولغته الفرنسية يجهل اللغة العربية الأُمَّ -أو نحوٌ من هذا الكلام- فما كان منه إلا أن ذَهبَ ليردَّ عليه، فكتب مقالةً علميَّةً باذخةً فيها من الألفاظ العربية الغريبة القاموسية ما يحتاجُ المطلع عليها إلى أن يكون معجم لسان العرب، والقاموس المحيط وغيرها من القواميس بجواره ليفكَّ مُلغِزها ويستجلي مفرداتها وتراكيبها الصعبة، وهو بذلك يردُّ ردًّا صَارخًا على أنه قادر على فهم اللغة أكثر من المتخصصين فيها، وأنها لغته الأصليّة، وأنه تعلَّم على يد علمائها الأفذاذ من أصحاب النزوع إلى العربية الفصحى التي تمثِّل الهُويَّة والحضور العربي الجزائري في مقابل زعزعة المستعمر لكيان الجزائر العربي، وأنَّه قادرٌ على الكتابة بها كما أنه مستوعب للغات الغرب وثقافته، وكنتُ ما أزال أحتفظ بنسخة من تلك المقالة التي استنسخناها عن الأصل الذي عرضه علينا أستاذنا، في إحدى محاضراته.
وتمضي بنا المحاضراتُ المفيدة وفق مناهج النقد الحديثة وطرائق التحليل التي ينتهجها أستاذُنا مرتاض، ويعلمها لنا من خلال الشرح تارة ومن خلال الإحالة إلى أعماله وأبحاثه ودراساته تارة أخرى، وما كان أدلَّ على أن نفهم المنهج أو يُفهمَنا الطريقة من خلال التطبيق على تلك المناهج بالدراسات المنجزة التي كان قد قام بها، وهي كثيرة ومنها، دراسته لقصيدة للدكتور المقالح التي خصَّها بكتابٍ كاملٍ هو كتابُه (بنية الخطاب الشعري؛ دراسة تشريحية لقصيدة أشجان يمانية لعبد العزيز المقالح) عام 1991م، ولأول مرة نقفُ على مصطلح (تشريحية)، ثم ندرك بعد ذلك ارتباطه بالسيميائية والتفكيكية، وهذا الكتاب سنعرف من خلاله طبيعة قراءة نصٍّ شعري، وفق منهج غربي محدَّد ومؤطَّر في فصول الكتاب؛ حيثُ يتحوَّل فيه أستاذنا من دراساته السابقة ذات الأبعاد الانطباعية، والتاريخية، والتراثية التي صدر له فيها عددٌ من الكتب إلى الدراسة النصِّية من داخل النصِّ ووفق مناهجه الحديثة المستفادة من المناهج الغربية وطرائق الحداثة، وفي هذا الكتاب "دراسة للبنية، ودراسة خصائص الصورة الفنية، ودراسة خصائص الحيِّز الشِّعري، ودراسة خصائص الزمن الأدبي، ودراسة الصوت والإيقاع، وأخيرًا دراسة المعجم الفني، وقبل ذلك ابتدأ بتمهيد عرض فيه لنظرية الجاحظ".
وهي دراسةٌ عميقةٌ، وسيكون لأستاذنا وقفةٌ أخرى مع هذه القصيدة بكتابٍ آخر هو كتابه الثاني: بعنوان (شعرية القصيدة.. قصيدة القراءة؛ تحليل مركَّب لقصيدة أشجان يمانية) صدرت طبعتها الأولى عام 1994م عن دار المنتخب العربي، ومن هنا سينتقل التركيز من البنية كما كان في الكتاب الأول إلى السيميائية بدلالتها، ومن مصطلح التشريح إلى مصطلح التحليل الذي سيوضِّحه في مقدِّمة الكتاب بأنَّه يريد به "أنَّ القراءة ليست نقدًا تقليديًّا خالصًا ولا نقدًا جديدًا أيضًا خالصًا، ولا إبداعًا بالمفهوم الشائع خالصًا وإنما تقع بين كل ذلك سبيلًا، فهي قراءة أو تقترب من المفهوم الجديد لهذه القراءة فكأن هذه القراءة التي يلهج بها المعاصرون إنما يحاولون من وراء ممارستها في ثوبها الجديد إلقاء وظيفة النقد التقليدية السلطوية أو يجتهدون على الأقل في الحدِّ من غلوائها، إذ أصبح الناسُ يضيقون بهذه الأحكام القضائية المصلتة على النصِّ".
إذًا فهنا قراءة موازية تستنطق النصَّ وتحاوره وتتجاذب معه وفق منهجها آفاق الإبداع ودلالات الشفرات وإنتاجية النص، وهذا هو البرهان الذي يقدِّمه أستاذنا لمعاودة نصٍّ واحد مرتين لكي يقدم قراءتين فيه مما يعطي المنهج وجاهَتَه في التعامل العلمي والإبداعي مع النصوص العميقة.

وإذا كانت هذه القراءة هي واحدة من مشروع ضخم لأستاذنا الناقد الكبير عبد الملك مرتاض في مسيرته العلمية فإنه كان قد حلَّق في آفاق من التجريب وفق مناهج القراءات المتعددة والحقول المعرفية التي قاربها برؤيته المنهجية وأفق اطِّلاعه الواسع الذي يجمع بين ثقافته العربية الأصيلة المتجذِّرة في عروقه العربية وحضارته العريقة، وبين اطلاعه الدراسي ومثاقفته الغربية التي اتخذ فيها من السوربون محطَّةً وميدانًا للطَّلَب، ومن الفرنسية جناحًا للاطلاع على تلك الحضارة الغربية في مناهجها وكتاباتها ومعارفها، فقدَّم بذلك رؤيته الخاصة الممزوجة بأصالتها ومعاصرتها، ومن هنا تعدَّدت كتاباتُه وآفاقُ اهتمامه التي تسير في مسارين نقديَّين واضحين مثَّلتهما مرحلتان من حياته العلمية والبحثية هما: مرحلة النقد التقليدي التي تمثَّلت في مرحلة ما قبل السربون بالنقد الانطباعي من خلال كتاباته الأولى مثل: كتاب (القصة في الأدب العربي القديم)، 1968، والنقد التاريخي الذي يمثله كتابه: (نهضة الأدب العربي المعاصر في الجزائر 1925- 1954م)، 1983، وكتابه (فن المقامات في الأدب العربي)، 1970، وكتابه: (فنون النثر الأدبي في الجزائر)، 1983 وغيرها؛ حيث كان "مُعتنِقًا منهجَ العربِ الأقحاح الأوَّلين فبدأ انطباعيًّا تأثريًّا مزاجيًّا تاريخيًّا، وأما المرحلة الأخرى فهي مرحلة النقد الحداثي بمرجعيته الغربية التي بدأت منذ حصوله على شهادة دكتوراه الدولة في الآداب من جامعة السوربون عام1983م، وكان عنوان أطروحته "فنون النثر الأدبي بالجزائر" أشرف عليها المستشرق الفرنسي "أندري ميكائيل"، وقد شكَّلت هذه المرحلة نقلة مختلفة لدى أستاذنا أضرب فيها صفحًا عن المناهج السابقة التاريخية منها والسِّياقية والانطباعية، ومحَّض دراساته للمناهج النصية، وقد تجلَّت تلك النقلة في عدد من كتبه منها: (النص الأدبي من أين؟ وإلى أين؟)، 1983، وفي هذا الكتاب يتضح تبنيه للمناهج الغربية، فيتعامل مع نص لأبي حيان التوحيدي كبنية لغوية وجمالية انطلاقًا من العناصر التي تكوِّنه وصولًا إلى وظيفته التأثيرية الجمالية، حيث تعامل مع اللفظة الواحدة وما توحي به، ثم الجملة، ثم النص ككل، وكتابه (بنية الخطاب الشعري)1986، وكتاب (ألف ليلة وليلة، تحليل سيميائي تفكيكي لحكاية حمال بغداد) 1989، وكتاب (أ/ي دراسة سيميائية تفكيكية لقصيدة أين ليلاي؟)،1992، وكتاب (شعرية القصيدة.. قصيدة القراءة؛ تحليل مركب لقصيدة أشجان يمانية)،1994، وكتاب (تحليل الخطاب السردي؛ معالجة تفكيكية سيميائية مركبة لرواية زقاق المدق) 1995، وكتاب (مقامات السيوطي؛ تحليل سيميائي مركب للمقامة الياقوتية)،1996، وكتاب (في نظرية الرواية، بحثٌ في تقنيات السرد)، 1998، وغيرها من الكتب التي طبَّق فيها المناهج الحداثية.
الدكتور مرتاض أستاذٌ إشكاليٌّ متجدِّدٌ لا يقفُ على حالٍ واحدة في البحث ولا في التنظير، ولا يستقرُّ على منهجٍ واحدٍ مكرَّر، بل وصل به إيمانه بعد اطلاعه على مناهج الغرب في مصادرها الأصلية، وعدم تعصبه لمنهج ما على حساب منهج إلى تبنِّي (اللامنهج) أو ما يطلق عليه بالمنهج المركب الذي يقوم على تعدِّد القراءة للنص الواحد، وقد مارس ذلك في مشروعه النقدي، وبرهن عليه بأكثر من كتاب وبحث.
لأستاذنا طريقة خاصة في نحت المصطلحات، ومنه تعرَّفنا لأول مرَّة على مصطلح (البَنَوِيِّة) -وليس البنيويِّة كما هو شائع ولا البنائيَّة- ويفسِّر ذلك وفق أصول عربيَّة معجميَّة وصرفيَّة في تبنيه للمصطلح، ومنه عرفنا أيضًا مصطلح (الحيِّز) عوضًا عن مصطلح المكان، أو الفضاء في الرواية، ومصطلح (السِّيميائيِّة) التي يرى أنَّه مصطلح عربي الأصل ورد في عديد من الكتب التراثية، قبل أن يكون مصطلحًا غربيًّا مأخوذًا من الفعل (سوم) وتعني العلامة، والسمة، والوسم، والسيميا: عِلمٌ من علوم العرب، وفي المقابل نجد له مصطلحات يثورُ فيها على المعاجم القديمة وعلى اللغة القديمة ويقترح كثيرًا من المصطلحات المقيسة على التسميات الغربية، مثل قوله: (جدلغة) وتعني (لغة جديدة) قياسًا على قولهم (نيولوجي) وهكذا، ومن المصطلحات الأخرى التي ابتدعها نجد له أيضًا (البدعدة) المنحوتة من( بدأ وعاد) قياسا على recurrence. و(التحلفسي) المنحوت من التحليل النفسي وغيرها من الاجتهادات واللغة الخاصة والمصطلحات التي تحتاج إلى دراسة نقدية في مشروعه الثَّريِّ، وقد نهَضَ لدراسة مشروعه عددٌ من الباحثين في الجزائر وفي غيرها، وربما بلغت الآن أكثر من مائة رسالة جامعية، وما يزال الأمر قابلًا للبحث والدراسة العلمية الجادة، لأن مشروعه الإبداعي والنقدي والتعليمي متعدِّد العطاء، واسع الأغوار، وهو يرمي في كل فنٍّ بسهمٍ فيصيبُ.
 أستاذنا كاتبٌ مبدعٌ يمتلكُ ناصية البيان وإشراق العبارة وجمال السبك، متحكمٌ في التركيب مدهشٌ في البناء، خلال أكثر من نصف قرن زادت مؤلفاته العلمية عن ثمانين مؤلفًا، تفخر به الجزائر، وقد عرفتْهُ مؤرخًا وناقدًا ومبدعًا، كما عرفته الأقطار العربية كلها منظِّرًا، ومحاضرًا، ومحللًا، ولغويًّا، وعضوًا في عددٍ من المجامع اللغوية، ومحكَّمًا في البرامج الثقافية والشعرية، والمؤسسات العلمية البارزة في المشرق والمغرب.

 وله في الإبداع عددٌ من الروايات مثل: (نار ونور، وادي الظلام، الخنازير، مرايا متشظية، الطوفان، الخلاص، رباعية الدَّم والنار، ثلاثية الجزائر (رواية تاريخية)، ثنائية الجحيم...)، وله مجموعة قصصية بعنوان (هشيم الزمن)، ومسرحية بعنوان (زواج بلا طلاق)، وسيرة ذاتية هي (الحفر في تجاعيد الذاكرة) 2003م.
 ولأستاذنا القدير في دراسة النصوص طريقة خاصَّة يربط فيها عادةً بين أفق التنظير وممارسة التطبيق على النصوص التي تنوعت بين شعر وسرد ونثر عموًما، ويميل في جميعها إلى دراسة التراث وفق المناهج النقدية الحديثة، وله في التنظير المستقلِّ أيضًا كتابات عميقة وكثيرة منها: كتاب (في نظرية الرواية) 1998م، و(في نظرية النقد) 2001م، و(في نظرية القراءة)2003م، و(في نظرية البلاغة)2011م، وغيرها من الإسهامات المتعدِّدة التي يطول بيانها.
ولجهوده الكبيرة والمتعدِّدة ومنجزه النقدي سُجِّل اسمه في موسوعة "لاروس" بباريس مصنَّفًا ضمن النقاد العالميين.
تحية:
(لمرتاضَ) ذاكرةٌ من أَلَقْ
لَهُ هِمَّةٌ من عَبَق
له في الطُّموحِ صَفاءُ الوضُوحِ
له في البيانِ علوّ الشَّفَقْ
يعلِّمُنا أنَّ مَهرَ العلومِ
اجتِهَادٌ وَصَبرٌ وَحَفرٌ
وعُمرٌ يُحرِّكُنا بِالقَلَقْ
وحتَّى تَرَى شَامخاتِ الجبالِ
وتبلغَ آفاقَهَا شَامخًا
وتَحمِلَ صَخرةَ هذا الوجُودِ
تُشعِلَ ضوءَ العُيونِ بِنورِ الحَدَقْ
وتَنحتَ في الصَّخرِ اِسمَكَ
تَرقُمَ في الطِّرسِ رَسمَكَ
لا تَنحَني مَرةً للنَّزَقْ
وَوَاصلْ خُطاكَ لِتَعبرَ ذاك النَّفقْ
تُراثُكَ ذاتُكَ.. هذي العُروبةُ أَقدارُنا
وهذا الِّلسَانُ هُويُّتنا والأَرَقْ...
فصلُ الخطابِ:
"الحُلم واسعٌ شاسعٌ، والطُّموحُ كبير غيرُ محدودٍ؛ ولكن ما أُنجزَ منهما ضئيلٌ صغيرٌ، وما تحقَّقَ منهما نَزرٌ قليل. كان عليَّ أن أعلُوَ القِمَّةَ فظَلتُ قابعًا في الحضيض. وكان عليَّ أن أُلِمَّ بأهمِّ الثقافات الإنسانيِّة الكبيرة في لغاتها الأصليِّة، فلم أستطع أن أحقِّق شيئًا من ذلك، إلَّا في العربيَّة، والفرنسيّة، وبدرجةٍ أدنى في بعض اللغات الأخرى الأوربيَّة والشرقيّة... وكان عليَّ أن أحفَظ العلوم ولا أنساها فأهُذَّها هَذًّا، غير أنِّي كثيرًا ما أَذهَل عمَّا أتعلَّم، وأنسَى ما أحفَظُ، فأُضطرُّ إلى مراجعته كلَّ حين عوضَ المُضيِّ في طلب علم جديد، وكنت أحلم بأن يُصبحَ الأدب العربيّ المعاصر كالأدبَين العالميّين الكبيرين: الفرنسيّ، والإنجليزيّ، بيد أنَّ هذا الحلم لم يتحقَّق، وظلَّ هذا الأدب قابعًا في مكانه لا يَريم! وكنتُ أحلم بأن تغتديَ الجامعاتُ العربيَّة في الوطن العربي مراكزَ إشعاعٍ معرفيّ وثقافيّ، وحضاريّ، فتزدهر المعرفة فيها في أعلى مستوياتها، وأرقى درجاتها، فتخرِّج مثل هذه الجامعات فلاسفةً مفكِّرين، ونقادًا عالميِّين، ومهندسين مخترعين، وباحثين مُؤتَلِقين، غير أنَّ ذلك لم يحدُث، بكلِّ حزن، إلى اليوم، أو لم يحدث إلاّ لمامًا، ثمّ كنتُ أحلم، ولا أَزالُهُ، بأن يُصبح العربُ أمَّةً كبيرة، كما كانوا، يمتلكون قوَّة العلم، وقوَّة الاقتصاد، وقوَّة السِّلاح، ومن ثَمَّ قوَّة السِّياسة، بحيثُ يهابهم العدوّ، ويحترمُهم الصَّديق..." @ أ.د/ عبد الملك مرتاض.

* نُشر المقال في العدد -32 من مجلة أقلام عربية، يونيو 2019م. شوال 1440هـ.
على الرابط الآتي:
 https://drive.google.com/…/1UAJLoFmQcJtPG55Oa6d1CC8RG…/view…





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)