أدب الحوار، وأفق التحاور



لمؤتمر الحوار الوطني ...أقول:
د.إبراهيم أبو طالب
   إن شهرنا الجاري هو شهر الحوار على المستوى الوطني والسياسي، وهو شهر إثبات الوطنية وتمحيصها، ومن نافلة القول التأكيد على أهميته، وفاعليته في خروج الوطن من كثير من معطلاته، ومعيقاته للوصول إلى الاستقرار المنشود، والأمن المغيب، والحل السياسي النافع للوطن والمواطن على حدٍّ سواء، والجميع يدركُ من السياسيين والمتحاورين بمختلف أطيافهم -كما يدرك المواطن- أهمية يوم الـ 18 من مارس لهذا العام الذي سيكون انطلاقاً لمستقبل اليمن.
لأنه يومٌ مفصلي فارقٌ في أيام الوطن وأبنائه، ولستُ هنا في مقامِ الناصحِ – وإن كانت النصيحة واجبةً- ولكني في موقف الْمُذَكِّر المحاور، ولا يخفى على ذي لُبٍّ ما للحوار –كمصطلحٍ- من أهمية كبرى في كلِّ مجالٍ يلج إليه، سواء كان ذلك المجال فلسفيّ حيث نجد سقراط -وتلاميذه حتى اليوم- يتخذونه سبيلاً للمعرفة والعلم والتعليم بما يثيره في ذهن المتحاورين من آفاق، ورؤى، وما يفتحه من علومٍ ومعارف، وقد عُرف أسلوبه في فلسفته الكبيرة بأسلوب التحاور، وإثارة السؤال والإجابة الفاتحة للسؤال التوليدي وهكذا، وهناك المجال العلمي القائم على الحقيقة التي لا يصل إليها الذهن إلا بالحوار سواء كان ذلك الحوار مع المادة – حوار مجازي- أو مع مَنْ حاول الوصول إليها، ودرسها، ووضع قوانينها، وكلا الحوارين مُجْدٍ يوصلان إلى الحقيقة ويحققان الهدف العلمي، وثمة الحوار الديني – أيضاً- وهو من ركائز الدعوة، وقد بدأ الله به مع ملائكته منذ خلق الخليقة، وأوجد الخليفة في الأرض بقوله تعالى: ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها، ويسفك الدماء ونحن نسبّحُ بحمدك ونقدِّس لك قال إني أعلمُ ما لا تعلمون (البقرة أية 30)، ثم حواره عندما نفَّذَ إرادته بعمارة الأرض بالبشر مع أنبيائه، فاتخذ الله موسى كليما، وحاوره في الوادي المقدس طوى، وجعل رسالته حوارية مع أشد خلق الله كفراً ممن ادعى الإلوهية، وهو فرعون، ونازع الله في صفة من صفاته –تقدست صفاته- فقال لرسوله موسى ﴿فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى (طه، 44)، ثم جعل الله الرفق صفة من مكارم الأخلاق لدى نبيه الخاتم محمد – صلى الله عليه وسلم- فكان ليِّنَ الجانب، وكان لِيْنُ الحوار مما امتنَّ الله به على نبيه: ﴿ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك﴾ (آل عمران 159)، والتزم المصطفى تلك القاعدة الحوارية، ووجه بها أهله "يا عائشة عليك بالرفق، إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، و لا ينزع من شيء إلا شانه"، ثم مع صحابته، فما أكثر القصص والمواقف التي تروى في كتب السيرة، وبطلها الحوار، واللينُ، والرفق، فكم من أعرابي يخاطب الرسول بشدة، وربما باستفزاز وغلظة، فيرد عليه الرسول بلطف، ولين، وتفهم ليعرف ما لديه، ويستوعب شكواه أو قضيته، وكذلك سار على النهج خلفاؤه الراشدون، حتى عمر بن الخطاب المعروف بشدته في الحق، وقوة شخصيته حين يقول في خطبته: "أيها الناس، اسمعوا وأطيعوا" وهو على المنبر وسط جموع المسلمين، فينهض صحابي ويقول: "لا سمع لكَ، ولا طاعة" فلم يسجنه عمر، ولم يرسل له الأمنَ، وهو الخليفة المطاع، ولم يتكبر، وتأخذه العزة بالإثم، ولم يجبره غيرُه على الصمت بالقمع، والتضليل، والقسر، بل تفَهَّمَ موقفه، وحاوره في اللحظة سائلا عن سبب غضبه، فإذا بالصحابي يفهم الأمر خطأً، فيتخذ موقفاً صادقاً حين يرى على الخليفة بردين يمانيين من ثيابٍ وزعت على الصحابة بالتساوي لكلِّ صحابي برد واحد، وعمر بن الخطاب نال بردين اثنين، حينها غضب ذلك الصحابي على التوزيع غير العادل اجتماعياً، ودون أن ينافق ولي الأمر أو يسلطه أو يخفيها في نفسه، فقال نصيحته علناً، واعترض بوضوح القول والفعل، فأوضح له عمر بن الخطاب عن طريق ولده عبد الله بن عمر الذي تحدث مبيناً أن البرد الآخر إنما هو بُرْدُ (رداء) ابن الخليفة أعطاه أباه حين لم يكفه الأول لطوله وجسمه الفارع، وبذلك استقرت نفسُ الصحابي وهدأت ثائرته، وقال –بالحوار أيضاً- الآنَ؛ لك السمع والطاعة، يا عمر".

   وبهذا ندرك أهمية الحوار لفهم الناس بعضهم بعضاً وإزالة ما يُشْكل في أذهانهم، وما يعلق في نفوسهم من الغموض، ويصل بهم إلى الفهم، والحلِّ الْمُرْضي المقنع الذي قد ينشئُها سوء الفهم، ويحلها الحوار، وما أجمل مقولة ذلك الفيلسوف حين يقول:" أنا مستعدٌ أن أدفع نصف عمري لأقول رأيي، ولكنى مستعدٌ أن أدفع عمري كله لأسمع رأيك".
   ومن آداب الحوار عدم التعصب للرأي، وإن ظنَّ صاحبه أنه الرأي الأوحد والأصوب، فلعلَّ الأمر نسبيٌّ ويحتاج إلى مراجعة وتأمل، واعتراف بالصواب، وعدم المكابرة على الخطأ، والتشدد بالتمترس وراء أفكارنا، ولا شيء سواها، وأنها الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فذلك غير صحيح لأن الأمور نسبية في غالبها، وتقاس بمنطق العقل، وكذلك من الآداب عدم النصح للمُحَاوِرِ بغلظةٍ ومجاهرة وإيذاء لأن ذلك مما يغضبُ النفسَ الأبية التي جُبلت على اللين، والسماحة، والهدوء، والاحترام، ولذلك نتذكر معاً قول الإمام الشافعي رحمه الله:

تعمدني بنصحك في انفرادٍ ..وجنبني النصيحة في الجماعةْ
فإنَّ النصح بين الناس نوعٌ.. من التوبيخ لا أرضى استماعه
وإن خالفتني، وغضبت قولي.. فلا تجزعْ إذا لم تلقَ طاعةْ
ويقول أحمد شوقي:
لك نصحي، وما عليك جدالي .. آفة النصحِ أن يكون جدالا

فهناك فرق كبير وواضح بين الحوار والجدل، فالأول غايته الوصول إلى الإقناع، والتفهم، والخروج برؤية واضحة، والآخر غايته الإثارة، وتعميق التأكيد على موقف الذات، والتشدد في موقفها ورؤيتها الثابتة غير المتقاربة مع غيرها لإثبات ثنائية الغالب والمغلوب، ولسنا بحاجة إلى ذلك، ولا جدوى منه.
وحسن الظن في من تحاوره من أهم الفطن، ومن تمام العقل وقدرته ما يقوله الشاعر عبد الملك الجزيري:
واستنصح البرَّ التقيّ وشاورِ الفطن الذكيَّ يكنْ ربيح المتجرِ
واخْزِنْ لسانكَ، واحترس من نطقه   واحذرْ بوادرَ غيِّهِ، ثمَّ احذرِ

ما أعظم المهمة التي انتدب الشعبُ وأبناءُ هذا الوطن العظيم والكبير بعضَ أبنائه إليها من المتحاورين، وخوَّلهم للقاء، والنقاش، والحوار باسمه، ومدَّ لهم أفق التحاور في قضاياه وهمومه وشؤونه وشجونه، وينتظر جهدهم، وبما سيخرجون به انتظار ظامئ أضناه العطش، وموجعٍ آذاه الألم، وهم الفاتحون المصلحون، فما أصدقهم لو لم يكذبوا أهلهم فالرائد لا يكذب أهله، وهم رواد هذه المهمة، وما أعظمهم لو خرجوا بأنفسهم وبالوطن من محنته، وإنها لأمانةٌ عظيمة، ومسؤوليةٌ جسيمة يترقبها كل اليمنيين، ويضعوا أكفهم على قلوبهم خوفاً، ويرفعونها إلى السماء دعاءً صادقاً أن يسدد اللهُ خطى المتحاورين، ويثبتهم على القول الثابت في مصالح الوطن وأبنائه، والاتفاق على ثوابته، وقيمه، ووحدة أرضه الموحد.
نشرت في مجلة الجيش العدد (384) مارس 2013م.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)