مقاربات في شعر الألفينيين


جدلية التناص،.. الديني في السياسي
 في ديوان (بلى ولكن...)
د/ إبراهيم أبو طالب
   هذا ديوان يعيش شاعرُهُ "أنور داعر البخيتي" حالةً من البحث، وتظهر نصوصه المكتنزة المعنى في تكثيف العبارات ورشاقة الومضة الشعرية لتعبر عن حالة شعرية متفردة تبحث عن اليقين في كل شيء، من اليقين الثوري السياسي، إلى اليقين الاجتماعي، إلى اليقين الإيماني الديني، والإيمان في ذاته ثورة، وثقافة، وبحثٌ عن المختلف، سلمان الفارسي باحثٌ عن الحقيقة، ومهاجرٌ مغترب في سبيلها عبر المكان، وعبر نفسه التي انطلقت قبلَ قدميه للبحث عن الحق، وإبراهيم النبي– عليه السلام – الذي يحمل الديوان جوابه بإيجازٍ دالٍّ "بلى...ولكن" دون إطناب، باحثٌ آخر يستلهمه الديوان، ويتناص معه كما يأتي التناص في عدد من عناوين الديوان الداخلية،
ومفردات قصائده بالنص الديني القرآني المقدس في مواطن شديدة الدلالة، والاختيار الخاص: "أو لم...؟!" فيأتي هذا الربط بين الداخل والعنوان، ثم بين إضاءات النص المقتبس/ المتناص معه بما فيه من تأسيس على الاسترجاع لاستثماره وفق رؤية ثورية تتماهى مع رؤى أقدم تبدأ برؤية إبراهيم الباحث عن الحقيقة.. الباحث عن الثقافة.. عن الوعي.. عن تجاوز الهامش إلى الجوهر، والمتجاوز الشكلي إلى المضمون، والمجتاز للإدعاء بحثاً عن الصدق، وترك كل مظاهر الزخرفة المرفوضة، ويبدأ الأمر بثنائيةٍ دالة اشتغلَ علها الديوان في جُلِّ نصوصه، هي ثنائية: السياسي الديني/ والديني السياسي، وظل يعمل على هذا المضمون في إطاره الكلي، بتنويعات متعددة، ولكنْ ما شأن العتبة الخارجية في الغلاف، وكأنها توضيح يتجاوز ما سارت عليه دواوين الشعراء في مقولة (نحو ثورةٍ ثقافية) تعززه لوحة الميلاد والخروج لسلفادور دالي، وهي منتقاة بعناية لتعزيز المنظور الرؤيوي التصويري للديوان في تكامله مع النصي، إنها بلا شك لوحة مقصودة بعناية لتعطي القارئ أفقا معرفياً، ثقافياً، لا يقدم ديوان شعر فحسب لأن تحديد جنس النص أمامنا أغنت عنه مفردة (شعر) الدالة على جنس المقروء على غلافه الخارجي، ولكنَّه يقدم محاولة داعية إلى ثورة مطلوبة ملحة، وربما مؤجلة، أو مأزومة، هي ثورة الثقافة التي تنقص الوضع الراهن، وتعزز خيار إكمال ثورته المتعثرة إنه جواب لسؤال افتراضي هو: "ما الذي نريده؟!" ما الذي يريده الشباب في واقعهم اليومَ والآن؟، ممن خرج إلى الساحات رافضا الذل، والفساد والتأخر بكلِّ أشكاله، ومعلناً ومعلياً صوت الشباب النقي الخالي من إيديولوجيات الأحزاب، أو قيود التخلف والعودة إلى الخلف عكس انطلاق الحياة وروح الشباب، إنها الثورة الثقافية الشبابية لذا يظهر الديوان كمحاولة لبيان ملامح المطلوب، وهو من خلال شخصياته الواضحة، والضمنية للثورة الفكرية التي كان مدار حضورها السؤال؟ -وما يزال- لكي يطمئنَّ ذهنٌ متقدٌ، ونفسٌ توَّاقةٌ للتغيير الحقيقي، ولا غرابة أن تظهر في النصوص المكثفة الموجزة إشارات إلى شخصيات حققت الثورة على المستوى الديني:                                            
وسألتُ موسى
موسى
لِمَ لا تراه
وقد تجَلَّى!؟
فأجابني
تدري لمَ؟
قلتُ: لمَ؟
فقال لي:
"الحب يا مسكينُ أعمى" صـ 64.
وهو في نفس النص يتداخل مع إبراهيم لأنَّ كلا الباحثين مراده الخلاص والإدراك يقول:
"آمنتُ / ليس لي ظهرٌ /ولكن / ليطمئنَّ ربي / فإذا كفرتُ / فليس بي ريبٌ / ولكن / ليطمئن قلبي / هذا أنا / قُل / في كلا الضدين / لست أنا " صـ66
فلسفة التناقض، وربما مبدأ الحلول يحضر من طرفٍ خفي.
 إن هناك ما هو تثويرٌ على الثابت، وهو اختراق قشرة الإدعاء والظواهر غير الحقيقية في الديني أي: في الهامش الذي تظل لديه بعض الأنفس غير المدركة لحقيقة الإيمان بل تصور– وكثيرٌ ما تلامس النمط للشخصية الدينية السطحية – من اللاهثين خلف الحور في نمطه المُنَفِّر للإنسان المحبّ للحياة، إلى إنسان مغيّب العقلِ يجيد صناعة الموت، ومن هنا أتتْ انطلاقةُ الديوانِ كشعارٍ ثوري:
"لا للتكفير (كف)، نعم للتفكير (فك)" صـ18.
   وهو شعارٌ موجزٌ واسعُ الدلالةِ، يُشِعُّ بمفردتين عميقتين ومتجانستين، ولكنه الجناس الناقص الذي يفتح على اكتمال ظلال الفلسفة بتاريخها الأزلي، وصراعها بين التكفير المعيق المعطل المقاوم، والتفكير الباعث المجدد المنطلق، ومن هنا على صِغَرِ هذا النص في كلماته الست المعدودة يفتح ثنائيات عدة منها: ثنائية القمع والانطلاق، الجهل والعلم، الصمت والقول...الخ، ويتسع معناه باتساع ثنائيتي (لا)، و(نعم).  
    اشتغل الديوان على آلية التناص الأكثر وضوحاً وهي: الاستدعاء والتحويل، الاستدعاء من خلال النص القرآني بمفرداته الخاصة التي وظفت عن وَعْيٍ من الشاعر وثقافته بموروثه الديني في أعلى تجلياته، وهو النص القرآني المُقَدَّس، ولكن ذلك -وفقاً لناحتة هذا المصطلح البلغارية المتفرنسة "جوليا كرستيفا"- يأتي لإثراء النتاج من خلال استرجاع السابق، واستثماره، وإذابته في اللاحق، نص الشاعر الجديد وفق رؤيته، وذلك ليجسد تفاعلاً بين الماضي والحاضر بين الثابت والمتغير بين المقدس والشعري للخروج بدلالة حيوية، وبنصٍّ متفجِّرٍ في إنتاج دلالته المقصودة.
والغاية من هذا الفعل التناصِّي هو تحويل المدلول الشعري إلى مدلولات خطابية متغايرة بشكلٍ يمكن معه قراءة خطابات عديدة داخل القول الشعري، إنه مجال لتقاطع عدة شفرات تجدُ نفسها في علاقة متبادلة.
الشفرات المرادة في نصوص الشاعر الشاب "أنور داعر" هي تعمل على تجسيد الثورة على الثابت المكرر الديني في المتغير السياسي، اللهاث وراء منافع سياسية تحت غلاف التدين، والعكس في تحويل المدنس السياسي إلى مقدس ديني في علاقة تبادلية نفعية:
"مُذْ جئنا
وأنتَ على الكرسي
تتلو
وأخافُ
أن نغادرَ يا سيدي
وأنتَ مازلتَ
تتلو "آيةَ الكرسي" صـ 19. ويقول:
"أيها المتعثرون خلف الأنبياء
ها أنا الآن
أنفذ من أقطار السماوات والأرض
سلطاني الحرفُ
 صار بإمكاني
أن أعلم الغيب
 غيب
:
:
اللهُ علمني
فاللهُ علامُ الغيوب"  صـ88.
ثمَّ يمدُّ الأفق الثوري بوعي أبعد وأعمق في التوصيف للمشكلةِ المتجددة في الأمة الغارقة في قديمها النازف دون جديد:
"نخلٌ..
بلا طلعٍ نضيد
الأمة الغرقى
بحادثة
"الحسين" مع "يزيد"
ولا جديد.." صـ 21.
    تجسيد الفعل الثوري داخل النص الشعري كان غاية هذه المجموعة الشعرية، وهدفها، ولذلك كان لا بدَّ لهذا الفعل من روافد، لذا بدأت روافد الثورة الثقافية التي تتمثل في تجارب سابقة تأسيسية، لعدد من الشعراء الشباب الألفينيين، أمثال: يحيى الحمادي في "عام الخيام"، و"كتاب الربيع" لمجموعة من الشعراء الشباب، ومن التسعينيين أصحاب التجربة الناضجة ظهر ديوان "حين يهب نسيمها" لكاتب هذه القراءة، وديوان "كتاب مالك الأشتر" للدكتور عبدالسلام الكبسي، وكلها صدرت في العام 2012م، ثم جاء هذا العام 2013م عمار الزريقي بديوانه "صعلكة"، وغيرهم من شعراء الثورة الثقافية والتثقيفية الذين تضج بقصائدهم البديعة الدالة صفحات الفيسبوك، والذين تناولوا الموضوع ذاته بطرق مختلفة، يرفدها جميعاً هذا المولود الجديد ديوان (بلى.. ولكن!) بتوظيف الديني في السياسي غالباً، وقليل جداً من أفق الفلسفة، التي كانت بحاجةٍ وبخاصة الأخيرة – أي الفلسفة – إلى تعميقٍ، وعناية من الشاعر، لأنه يطمح إلى أن يُنظِّر لـ "نحو ثورة ثقافية"، ولكن نحن أمام شعرٍ يستثمر كل تلك الروافد، ويغدو مدار إشعاعه في تكثيف عباراته وإزاحاته التي تعتمد على النص المقدس لإبراز قضايا الواقع السياسي بطريقة جديدة تعتمد رشاقة اللفظ، وجرأة العبارة، وشطحتها أحياناً، في مغامرة التوظيف، ومغايرته، ولكن إلى أي حد كان ذلك ناجحاً؟، هذا هو سؤال القارئ النموذجي، والإجابة متروكة له أيضاً.
   ويكفي أن نقول: إنَّ الشِّعرَ في جوهره إدهاشٌ، وثورةٌ، وإتيان بالمفارقة الصادمة، وإلا كان قولاً لا يُحرِّكُ وجداناً، ولا يؤثر في مُطَّلعِ، وما يمكن أن أوضحهُ كقارئ تفاعلي أن هذه النصوص في "بلى.. ولكن!" قد تركتْ لديَّ الكثير من متعة التحليق الذهني، والاستثارة، وابتسامة الإعجاب التي يتركها النص في تحويل المألوف المستقر في التناص إلى معنى مُزاح آخر في عالم السياسة في أفق التأمل المكثف القابل لتعدد الدلالات في إعادة فهم الرؤية، وكيفية توظيفها بأفق مختلف فلسفي حيناً:
"متى تنجب الأرحامُ طفلاً ضاحكاً؟!
إنَّا سئمنا من مواليد البكاء.."صـ 24.
ديني حيناً آخر:
" خسفَ القمر
يا رب ما ذنبي أنا
 في كعبة العشاق
لا أحد سواه
حج المحبة والهوى
 وطاف بالبيت الغرام
 وسعى بشوق
بين نهد صفا ومروة
شرب الزلال الشهد
من أحضان زمزم، ثم فاض على مُنى " صـ56
   إنه توظيف المشبع بالمألوف الديني الثابت، ولن كيف يفجر داخله التجديد، يذكرني "أنور" في تجربته هذه بالشاعر المصري أحمد الشهاوي الشاعر الإشكالي الذي وظَّفَ الديني في العاطفي، في أحاديث العشق، ووصاياه في عشق النساء، فأثار كثيراً من حفائظ المدَّعِين لأحقية الحديث باسم الدين، وباسم الله. ولكن تجربة أنور تأخذ منحاً سياسياً أكثر منه عاطفي، وربما أكثر إشكالية بما سيثيره، وهو يجدد مواطن غزواته الفكرية والثورية نحو هدفٍ واضح تدور حوله معظم نصوص الديوان إنه يخاطب الذين:
" يتألهون
وهم عبيد
وعلى العباد الآلهين
وكأنهم بالصالحات أتوا
 ونحن السيئات
أستغفر الله العظيم
من الذين
 أتوا بلا نصرٍ
 ولا فتح مُبين
وغدَوا
على طول البلاد وعرضها
الناعق الرسمي باسم المسلمين " صـ52
   وهنا إزاحة المألوف اللغوي في الخطاب السياسي المتمثل في مصطلح "الناطق الرسمي"، يأتي محملا بشحنة من السخرية "للناعق البومي الغرابي"، ولكن باسم المسلمين، فمن خوَّلَهُ ذلك؟، إنه استسهال الحديث باسم الدين، وادعائه لكل واحدٍ، لكن الرؤية الشعرية تشير بأصابع الفضح الساخر إلى3: "إنهم قطاع الطريق على الله" كما يصفهم الشاعر، وهم أيضاً:
"الماعون، وهم يمنعون ويمنعون ويمنعون، ويركعون، ويركعون، ويسجدون" صـ51
   هكذا يشنُّها ثورةً حقيقية لفهم الدين، والتدين السياسي، ويقع على مَواطن واضحة من الخلل في سرِّ العلاقة الحقيقية مع الله ليس أدلَّ - على هذه القضية، وعلى الروح الساخرة لدى الشاعر، وهي السخرية المفعمة بالتأمل الفاضح- من هذا النص الذي نختمُ به ترحيبنا بهذا الديوان المكتنز حين يقول فاضحاً وواضحاً في رؤيته:
"الله أكبر.. الله أكبر
الله أكبر
الحرارةُ مفصولةٌ
 أيها المصلُّونَ
والذين هُمْ عنها..
صلواتكم
لا تصلُ للسماء
عليكم صيانةَ قلوبكم
ومعاودة الاتصالِ لاحقاً" (صـ48)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)