بناء الذات الشاعرة معرفياً وجمالياً



البناء المعرفي، والذوقي للذات الشاعرة
"مؤهلات الشاعر الكبير"
د.إبراهيم أبو طالب([1])
   حدد الشعراء في ثقافتهم عبر تاريخ الشعرية العربية التي تمتدّ لأكثر من 17 قرنا - منذ بداية تحديد العصر الجاهلي بمائتي سنة قبل الإسلام حتى يوم الناس هذا- حددوا مراتب للشعراء، ووضعوهم في تصنيفاتهم في طبقات، وليس ببعيد عنا كتاب طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي، وكتاب طبقات الشعراء لابن المعتز ... وغيرهما، فذكروا في كتبهم الشاعر الفحل، والشاعر الكبير، والشاعر العظيم، والشاعر مجرداً من أي صفة تتبعه.
وكذلك الشأن في التصغير من الشويعر، والشعرور، والمتشاعر، وهم بكل ذلك يحددون مكانة الذات الشاعرة، وقدرها، ومستواها، وحجمها في القدرة والإضافة، وما تجود به من جديد، وما تنتجه من مدهش غريب، لم يسبقْ إليه خيال، ولم تضئهُ موهبةُ بشر قبله، أو تطأ أرض عوالمه، ولم توظفه لغة في نسيجه الفريد، وإزاحاته اللغوية الجديدة في إنتاج دلالاتها، وذلك بالتأكيد يتحقق وفقاً لقدرة تلك الذات، وموهبتها، وثقافتها، ومن هنا ظهرت على مستوى المدونة الشعرية الكثير من الأشعار التي تسعى إلى تعريف الشاعر كما تحاول تحديد مكانته ، وكذلك تسعى إلى تعريف الشعر ذاته، وطبيعته، وحقيقته، يقولُ حسان بن ثابت:
وإنما الشعر لبُّ المرء يعرضهُ ... على المجالسِ إن كيساً وإن حُمقا
وإنَّ أحسن شعرٍ أنتَ قائلهُ ... بيتٌ يقالُ إذا أنشدتهُ صدقا
ويقولُ علي الجارم:
الشعر عاطفةٌ تقتادُ عاطفةً .. وفكرةٌ تتجلَّى بين أفكارِ
الشعر إن لامسَ الأرواحَ ألهبها .. كما تـقابلَ تيارٌ بتيارِ
الشعر مصباحُ أقوامٍ إذا التمسوا .. نور الحياةِ وزندَ الأمة الواري
الشعر أنشودةُ الفنانِ يُرْسلها .. إلى القلوبِ فتحيا بعدَ إقفار
وكما بينوا الشعر، حدَّدوا أنواع الشعراء، ومراتبهم وفقاً لثقافة العصر، وذائقته، يقولُ قيصرُ الخوري:
تعالتْ ملوكٌ بالعروش وإنما .. رأيتُ ملوكَ الشعرِ أرفعهم قدرا
 وقيل: الشعراء صنفان:
1- شاعر مطبوع: وهو من لا يتكلف في كتابة قصائده، ويسهل عليه الشعر دون استدعاء الأشكال البلاغية التي يستهجن كثرتها.
2- شاعر مصنوع: يجتهد في نصه، ويعمل عليه طويلاً قبل أن يخرجه لجمهور السامعين، ومن ذلك جاءت تسمية "عبيد الشعر"، وهم من يبذلون جهداً أكبر، ويستغرقون وقتاً أطول في مراجعة نصوصهم، والعناية بها.
وقيل الشعراء أربعة:
1- شاعر خِنْذيذ، وهو الذي يجمع إلى جودة شعره رواية الجيد من شعر غيره.
2- وشاعر مُفْلِق، وهو الذي لا رواية له إلا أنه مجوِّد كالخنذيذ في شعره.
3- وشاعر فقط، وهو فوق الرديء بدرجة.
4- وشعرور، وهو لا شيء..
ويقول  البحتري:
الشعراء فاعلمنَّ أربعة... فشاعرٌ يجري ولا يُجْرى معه
وشاعرٌ ينشدُ وسط المعمعةْ ... وشاعرٌ من حقه أن تسمعه
وشاعرٌ من حقه أن تَصْفَعَه
   وهكذا يظهر أن السعي لوضع تراتبية للشعراء هو هاجس قديم، وربما مكرر في كل الثقافات وبحسب العصور المتعاقبة، وليست الثقافة العربية بِدْعَاً بين الثقافات، ومنازل الشعراء إنما تتحدد بحسب قدراتهم في التعامل مع اللغة، والخيال، والموضوع، والتشكيل، ويتنافسون بحجم اجتهاداتهم في تنمية تلك الذوات الشاعرة وبنائها البناء المعرفي والجمالي (الذوقي)، وهو ما سنحاول تسليط الرؤية عليه في هذه الورقة، وما نقصده بالبناء المعرفي هو الإعداد والتهيئة المكتسبة التي يمكن للذات الشاعرة أن تحققها عبر الزمن، وتجنيها بالمثابرة، والتَّمَثُّلِ، والتكريسِ، والعنايةِ.
   وأما المقصود بالبناء الذوقي – لدينا هنا- فهو تعزيز ما تمتلكه تلك الذات من فِطْرة، وموهبة ذوقية (جمالية) من معايشة ومعاشرة للنماذج الجمالية الكبرى في نتاج الإنسان والطبيعة.
أولاً: البناء المعرفي:
يمكن أن يتحقق البناء المعرفي للذات الشاعرة من خلال ثلاث نقاط أو محاور هي:
             1- الثقافة الموسوعية، والتراكم المعرفي:
   ونقصد به ما توصل إليه السابقون من الشعراء تحديداً ومن الأدباء والمثقفين بشكل أوسع من نتاج أدبي إنساني، وما وصل إلينا عبر منافذه الوسائطية قديمها – الكتاب-، وحديثها –الميديا- وبشكل عام، وما بأيدينا من موروث البشرية، ولعل هذه النقطة هي ما تجعل الشاعر يتميز عن غيره من الناس، لأنه مثقف من طراز رفيع يستوعب تراث قومه ولغتهم، ومواقف حضارته وأيامها، ونتاج أعلامها، لأنه بلا شك سيكون الناطق والمعبر الفعلي والمختلف باسم تلك الثقافة، والمعبِّر عنها، وقد يعيبه كثيراً قصور ثقافته، وسيحدد مكانته وأهميته مقدار تلك الثقافة لديه، ومدى معرفته وعمقها، ومطلوب منه أن يأتي بالغريب المدهش والجميل المختلف، الذي يفوق قدرات الآخرين من العاديين، وسبب ذلك إنما هو في اتساع معرفته، وقد أطلقوا على ذلك الشاعر لأنه جاء بما لم يستطعه العادي أوصافاً منها: إن الشاعر لديه رئي من الجن أو صاحب منهم، أو أنَّ له شيطاناً يلهمه الشعر، أو في عرفنا الشعبي لديه (الحليلة)،  أو الهاجس أو الملقن، وغيرها من الأوصاف، المتصلة بوادي عبقر، وعوالم الجن، ولعل الشعراء قد استعذبوا هذا الوصف لقدراتهم فوق العادية، واستعذبوا اللعبة في الإيهام، والغموض، فمضوا يكرِّسُوْنها في أشعارهم: فهذا الشاعر أبو النجم العجلي، وهو من رجَّاز العصر الأموي (ت 130هـ)، يقول:
إني وكل شاعر من البشر ...شيطانه أنثى وشيطاني ذكرْ
فما رآني شاعرٌ إلا استترْ ... فِعلَ نجوم الليلِ عَاينَّ القمرْ
ويقول حسان بن ثابت:
ولي صاحب من بني الشيصبان ...فطورا أقولُ وطوراً هوه
وأما الأعشى "ميمون بن قيس" فإنه يحدد اسم صاحبه من الشياطين، وهو "مِسْحل"، ويذكره في قوله:
وما كنت ذا خوفٍ ولكن حسبتني *** إذا مسحل يسدي لي القول أنطق
شريكان في ما بيننا من هوادة *** صفيان إنسيٌّ، وجني موفق
يقول فلا أعيا بقولٍ يقوله *** كفاني لا عيٌّ، ولا هو أخرق
   وهكذا تنسب هذه القدرة غير العادية للذات الشاعرة إلى عوالم غيبية وما فوق طبيعية من خارجها، بل وإلى عوالم ربما ليست إنسانية مع أنَّ الشعرَ فعلٌ إنساني، ولكن لعجزهم ربما عن توصيفها وفهمها فهماً علمياً وسيكولوجياً سعوا إلى إسنادها إلى عوالم أسطورية وفوق طبيعية، وغيبية، كغيرها من الظواهر الغريبة على فهم العقل لها في مراحل معينة من طفولة ذلك العقل.
وليس الإبداع- كما نؤكد وأكده غيرنا من الدارسين وكما هو واقعه - سوى فعل بشري إنساني بامتياز، وهو شغل الذات المبدعة وانشغالها بما تمتلكه من موهبة ومعرفة، وإحساس وجداني.
   ومما يدل على تلك الثقافة الموسوعية لتكوين البناء الذاتي في تراثنا العربي أن كل شاعر كبير يسعى إلى التطوير والتجديد في عمود الشعر العربي، والخروج عليه، والإضافة الحقيقية لمسيرة الشعر وعوالمه، كان يلجأ إلى تلك الثقافة الواسعة في مادته وجمعها – ونقصد بها هنا المادة الشعرية-، ولذلك عرفنا أن أبا تمام (حبيب بن أوس الطائي ت 231هـ ) وهو من أهمِّ المجددين في عمود الشعر في العصر العباسي كانت له اختيارات جمعها في كتابه الشهير الحماسة، وفيها رصدٌ واستيعابٌ لما قاله الشعراء من قبله، وهي في ذات الوقت من أجمل ما رصدته الذائقة الفنية أيضاً في الميدان الشعري، وفيها تتدخل ذائقة الشاعر المعرفية، فاختيار المرء جزء من عقله، وقد قلَّدَهُ بعد ذلك كثير في حماساتهم أي: (اختياراتهم التي تحتوي أغراض الشعر المختلفة، والتي تبدأ بباب في الحماسة، ثم يتبعها باب الفخر، فالغزل، فالمدح، ....الخ) كحماسة ابن الشجري أو الحماسة الشجرية، وغيرها.   
   ثم حين نأتي إلى العصر الحديث وبالتحديد عصر الإحياء نجد أن رائد هذا العصر محمود سامي البارودي (ت 1904م) كانت له اختياراته المعروفة باسم "مختارات البارودي"، وهي مقتطفات لثلاثين شاعراً من الشعراء العباسيين، وكذلك فَعَل الشاعر أدونيس (علي محمد سعيد) شاعر الحداثة نجده يختار عدداً من القصائد في كتابه "ديوان الشعر العربي"، وهذا كله من المؤشرات إلى الثقافة الموسوعية والمعرفة التراثية في ميدان الصنعة والصناعة التي يريد أن يمتهنها الشاعر، ويتخذها ميداناً له، حيث يعدُّ بها الشاعر نفسه كما يوفر السبيل لغيره –فهي ليست حكراً عليه- في إعداد ذاته، وتثقيف الذات الشاعرة بموفور من النماذج التي كادت أن تصبح نماذج عليا في ميدانها، ومن هنا تتحقق للذات الشاعرة صفة الثقافة التي كانت تطلق على مفهوم (الأدب) في زمن ابن خلدون (ت 1406م) "وهي الأخذ من كل علم بطرف" وهو يوازي بها معنى الثقافة اليوم، لأنَّ ذلك الأخذ والتثقيف يُغذِّي الذات الشاعرة، ويُعَزِّز أداءها، ويكبر من شأنها وكيانها ووجودها، ويصدق في ذلك مقولة الفنان الإيطالي الكبير "ليوناردو دافينشي (ت 1516م)" بأنَّ كل وجدانٍ كبير هو ابن لمعرفة كبيرة".
        2- الحفظ واستيعاب النماذج الممتازة:
تحتاج الذات الشاعرة في بنائها المعرفي إلى حفظ نماذج من غُرَرِ الشعرية العربية، وإلى تَمَثُّلها واستيعابها وإتقانها بمستوياتها ولغتها، وأوزانها، وموضوعاتها المختلفة، ومن هنا سنشير إلى قصة مفيدة ومعبرة، وهي صالحة لكل تجربة جديدة تريد أن تتمثلها لأنها نابعة عن خبرة، وقد أثبتت نجاحاً فعلياً، تلك القصة هي ما يروى عن أبي نواس (الشاعر الحسن بن هانئ) الشاعر العباسي الكبير (ت 199هـ)، وعن الراوية الكبير خلف الأحمر "أبو محرز خلف بن حيان" (ت 180هـ)، وهو من هو حفظاً للتراث الشعري والأدبي حتى عصره، وكان راوية ثقة علامة، حيث تقول الرواية أن أبا نواس أتى خلف الأحمر قائلا له: أريد أن أكون شاعراً، فقال له خلف: اذهب، فاحفظْ ألفَ مقطوعة من شعر العرب؛ قصيدهم ورجزهم ومقطوعاتهم، ثم عُد إليَّ، فذهب التلميذ/ أبو نواس، فحفظ دون اعتراض أو كسل أو عناد متبعاً نصيحة أستاذه، وغاص في تراثه الثقافي، وبعد حين من الدهر عاد، فقال له خلف سائلاً: حفظتَ؟ قال: نعم حفظتُ، قال له خلف: اذهب الآن فانسَها كلها حتى لا تذكر منها شيئاً، ثم عُدْ إليَّ، فغاب عنه أبو نؤاس حينا ثم عاد، فقال نسيتُها، فقال خَلَف: أما الآن فاذهب فانظر في أي أمر تريد أن تقولَ فقلْ فقد أصبحتَ شاعراً".
   وسواءٌ كانت القصة حقيقية أو خيالية أو رمزية - كما قد يرى البعض أو تروى بصيغ مختلفة- إلا أنها تحقق المراد والفائدة من هذه الحكاية إنه طلب منه الحفظ ليستوعب بذلك الحفظِ القاموسَ اللغوي الشعري، والبلاغي، والأوزان، والأغراض، والصور، والخيال، والموضوعات المختلفة، وجماليات الروح الإنسانية داخل تلك النصوص بموضوعاتها ووجدانها وأحداثها ومعارفها من آفاق وفنٍ، وبذلك تغدو الذات الشاعرة نفسها مثقفةً مستوعبة، وتمتلك أدوات صنعتها وبناءها في مرحلة الإعداد، لأنَّ أبا نواس جاءه راغبا ووراءه دافعية (أريد أن أكون شاعرا)، وهو في بداية الطريق، ومرحلة البناء المعرفي، وقد ألزمه ألف مقطوعة –كبرت أو صغرت- لأن الألف غاية، ومنتهى للعدد في زمنه، وأكبر مبالغ العرب الألف، ثم إنه حين طلب منه نسيانها بعد ذلك لحكمة وخبرة وهو أنه أراد له ألا يتحول إلى تابع لإبداعات الآخرين ممن سبقه، ولا إلى سارق لمعانيهم، وربما أبياتهم، لأنه -بكونه حافظاً فقط- سيظل يأخذ من الذاكرة، ويعيد إنتاج السابقين، وقوله له: "اذهب، وانظر في أي أمرِ شئتَ فقل، فقد أصبحتَ شاعراً"، هنا تأتي التجربة الذاتية بصدقها ومحيطها الخارجي، وتأثرها بواقعها هي، وليس بواقع غيرها، ويصبحُ قوله خاصاً، وحسه متحققاً، ووجدانه صادقاً حيال ما يرى، ويقول، وتنفِّذُهُ الذاتُ الشاعرة.
   والغاية هنا ألا يكسل شعراؤنا الشباب وشواعرنا الشابات من المبتدئين والمبتدئات عن الحفظ، وهم في طريق الشعر الذي وصفه الحطيئة بقوله:
الشعرُ صعب وطويل سلمه ..إذا ارتقــى فيه الذي لا يعله
هوت به إلى الحضيض قدمه.. والشعرُ لا يطيعه من يظلمه
يريدُ أن يعربه فيعجمه .. ولم يزلْ من حيثُ يأتي يخرمه
من يسمُ الأعداء يبقى ميسمُهْ
  وإن عليهم، وعليهنَّ حفظ غرر الشعر العربي، وأن يجتهدوا في بدايات مراحل إعدادهم، لأنه لن تكون ذواتهم قادرة على الإتيان بالعظيم والجديد وهي خاوية فارغة.
  وثمة تجاربُ أخرى كثيرة تدعم تجربة أبي نواس في حياتنا المحيطة، ومنها أننا لو نظرنا في تجارب وتكوين الشعراء الكبار والشواعر الكبيرات سنجد أنهم، وأنهنَّ حفظوا، وحفظنَ دواوين كبار الشعراء في حياتهم التحصيلية، ووراء كل واحد منهم شاعر كبير وتجربة تآلف، وتماثل، وإعجاب انتهى بتمثُّل، ثم تجاوز، فهذا الشاعر الكبير سليمان العيسى يحفظ ديوان المتنبي عن ظهر قلب، وغيره الكثير من شعراء الأمة العربية واليمن، وشاعر اليمن الكبير محمد محمود الزبيري حفظ ديوان المتنبي، وهو في سجن حجة لمدة عام هو ورفيقه في نضال الكلمة الخطيب الشهير محمد بن قاسم أبو طالب وهو أحد الأحرار الذين قاوموا الظلم والاستبداد، وكان كلما خطب خطبةً في يوم جمعة جَهَّزَ عتاد السجن لمعرفته أنه لن يعود إلى بيته، وحين سُجِنا معاً – الخطيب أبو طالب، والشاعر الزبيري- استغلا وقتهما، وبعد عام مَثُلا بين يدي الإمام، فسألهما بعد إطلاقه لهما: "ماذا فعلتما في السجن؟"، فقال الزبيري: "حفظتُ ديوان المتنبي، وقال الخطيب أبو طالب: حفظتُ كتاب نهج البلاغة للإمام علي".
   وهما بذلك قد استثمرا وقتهما أيّما استثمار، وأعدا نفسيهما وذواتهما المبدعة لما خُلِقَا له، كلُّ فيما يسر الله له، بحسب اختصاصه، وميدان نضاله، والأمثلة كثيرة، فهذا المتنبي - مثلاً- كان يضع ديواني أبي تمام، والبحتري أمامه، وبين يديه، ويحملهما معه في حله وترحاله، ويقول عنهما: إنهما بالنسبة له كاللات والعزى لدى العرب قديماً، وهذا دليل تبجيل، وحضور.
           3- إتقانُ اللغة وقواعدها:
   لا شك أن أداة الشاعر هي اللغة، وتَمَكُّنه منها تمكناً كاملا باستيعاب قاموسها أو بعضه -على الأقلِّ-، وقواعدها النحوية والإملائية هو شرطٌ مهمٌ لاكتمال الذات الشاعرة في بنائها المعرفي، ولا يغتفرُ للشاعر جهله بأدوات صنعته مهما ادَّعَى المدّعون، وَكَابَرَ المكابرون حول هامشية هذه النقطة أو ثانويتها، أو مهما تعَلَّلُوا بالعلل الواهية، فكما لا يغتفر، بل وليس مقبولا من المهندس –مثلا- جهله بأدوات عمله، وكذا الطبيب وغيرهما من أصحاب المهن والصناعات، فكذلك الشأن بالنسبة للشاعر والأديب ليس معقولا ولا مقبولا أن يجهل أدواته أو يقصر في مهاراته فيها، ولم نسمعْ بشاعرٍ كبيرٍ أنه يجهل لغته سواء في حضارتنا أو في الحضارات الأخرى شرقاً وغرباً، بل إنه يكونُ أكبرَ من تلك اللغة، بمعنى أنه سيجدِّدُ فيها، ويضيف، ويطور في دلالاتها عن فهم ومعرفة، وكيف بِمَنْ لا يعرفُ أن يضيف، وبمن يجهلُ أن يجوِّدَ ويتقن، وفاقد الشيء لا يعطيه؟!، ومن هذه النقطة سنستشهد بموقف في كتب التراث عن المتنبي –شاعر العربية الأكبر- " يُحكى عن سعة اطلاعه على لغة العرب ما رُويَ عن أبي علي الفارسي علامة اللغة في زمانه أنه سأله : كم لنا من الجموع على وزن فِعْلَى؟، فقال المتنبي: على الأثر : حِجْلَى، وظربى، -(والحجلى: هو طائر الحجل المعروف، والظربى: دويبة صغيرة)، قال أبو علي : فقلبتُ كُتُبَ اللغة ثلاث ليال على أن أجد لهذين الجمعين ثالثاً، فلم أجد" !
   هذه قصة تدلُّ على أن الشاعرَ مثقفٌ كبيرٌ، ومهتمٌ، ولغوي، ونَحْوي أيضاً لأنه بذلك يكمل بناءه المعرفي، ويُحْتَرمُ من قِبلَ الناسِ لعلمه، وفهمه، ولا يتحجج بالحجج الواهية الدالة على تكاسله، وضعف همته في استيعاب لغته نحواً وصرفاً وإملاءً.
يقول أمير الشعراء أحمد شوقي:
والشعرُ في حيثُ النفوسُ تلذُّهُ .. لا في الجديد، ولا القديمِ العادي
إنَّ الذي ملأ اللغاتِ محاسناً .. جعلَ الجمالَ وسرَّه في الضادِ
ثانياً: البناء الذوقي (الجمالي):
   الذوق له معان عدة ومفاهيم مختلفة، وما نعنيه هنا تحديداً هو تنمية الذات الشاعرة بما تمتلكه من إحساس مرهف، وموهبةٍ تمَيّزها عن غيرها من الذوات، وهذا البناء فطريٌّ، ومنحة سماوية لهذه الذات، ولكن يمكن أن تُغذَّى، وهذا هو الذي لنا أن نفتح آفاقه في بناء الذوات الشاعرة لتعزيز تلك الموهبة الكامنة والمستقرة كهبة ومنحة يختصَّ اللهُ بها بعض خلقه، ويكرمهم فيما يزيده في الخلق، حيث يقول تعالى: ﴿ يَزِيْدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ، إنَّ اللهَ على كلِّ شيءٍ قَدِيْر﴾، (سورة فاطر، آية 1)، ومن معانيها الزيادة في مواهب بعض خلقه بما يزيدهم من قدرات خاصة، ومن هنا نسألُ كيف تُنمّى تلك المواهب؟ ربما تُحدد الإجابة في النقاط الآتية: 

     1- اكتشاف الموهبة، وتنميتها:
   هذه القضية يشترك فيها أكثر من طرف لعلَّ التعليم أول تلك الأطراف وأهمها، وكذلك تأتي الأطراف الأخرى كالمحيط الاجتماعي باتساعه وأدواره ابتداء بالأسرة وانتهاءَ بالدولة، وما بينهما من مرافق التنمية الاجتماعية كالمؤسسات ذات الصلة بالإنسان –وما أكثرها- واكتشاف قدراته، ورعايتها، وبحسب المحيط الاجتماعي والبيئي الذي تعيش فيه تلك الموهبة الإنسانية التي قد تَذْهَبُ أدراجَ الرياح، ولا تُكْتَشف، ولا يؤبه لها، ومن هنا كم نفقد من ذوات شاعرة؟، كان يمكن أن تكون ذات شأنٍ، ولكن هل تتلاشى، وتنتهي تلك الذوات؟! ربما، ولكن الأقوى فيها والأصدق لا تنتهي، ولا تفقد قدراتها وجوهرها لأنها قد تذوب في الوجدان الجمعي الشعبي، وما أكثر النماذج التي تظهر في الأدب الشعبي الشفاهي مجهول القائل، ولكن في الحقيقة وراءها ذات شاعرة بسيطة، ولكنها حقيقية، ومقاومة للفناء والتلاشي سواء كانت لرجالٍ أو نساء، لم تختفِ قدرات مواهبهم بحسب طبيعتها، وقد ظهرت في تجليات الأدب الشعبي حين تقتنص الفكرة، وتُعبِّرُ بالقول عن موضوعها، وشجنها، وكينونتها، وسيطول بنا المقام لو فصلنا الحديث هنا، ولكن تكفي اللبيب الإشارة، بأن هذه الموهبة، وتلك الذات رغم ظروفها، ومحيطها قد بَيَّنَتْ كرامةً، ودلتْ على حضورٍ، ورفضت التلاشي والموات، على الرغم من التجاهل، وعدم الاكتشاف، فإنها قد عَبَّرَتْ عن نفسها، وظهرتْ دون معين، ولكنها ظهرت كنبتة بريةٍ فوّاحة العَرْفِ، في صحراءَ قاحلةٍ، ومن هنا نُراهنُ - كما يراهن الإبداع دائما- على تلك الذات الشاعرة المقاومة، والصادقة، والحقيقية، وعليها ألا تكتمَ حضورها، ونُموِّها، وألا تقهرَهُ، فتكون عوناً لخارجها عليها، ولكن عليها البروز، وإظهار نعمة الله في تميزها واختلافها.


    2-  التمثُّل الجمالي:
عرَّف أرسطو الجمال ببساطة الفيلسوف، وعمقه بأنه "التناسب، والتماثلُ، والترتيب، والتناسق في الأشياء ذاتها"، وداخل كلِّ نفس فطرة حُبِّ الجمال، وتأمُّله، وتأثيره على تلك النفس، والنفوس المحيطة بها، ولكن الذات الشاعرة تظل هي الأكثر حساسية للجمالِ، وبه، وأكثر استيعابا لتفاصيله التأملية، ومن هنا يمكن تمرين تلك الذات على الغوص عميقاً في الإحساس الجمالي، وقد تتمكن تلك الذات الشاعرة من الوصول إلى العمق أكثر من الوقوف على السطح الذي تقف عليه غيرها من الذوات باعتبار غاياته النفعية السطحية الآنية، وتختلف رؤية الذات الشاعرة بلا شك للجمال، ومفهومه، وحقيقته لأنها دائمة السعي إلى جوهره، وذلك يحتاج منها مرَاناً  كبيراً، واستمراراً، ومجالدة، ومغالبة للوصول إلى أعماق الجماليات، ولعلها قد تتبع في البداية طريق التَّشَبُّهِ، والتقليد تمثلا لقول الشاعر:
فتشبَّهوا إن لم تكونوا مثلهم ..إنَّ التشبه بالكرام فلاح
   ثم يصبح ذلك التشبهُ تمثلاً وعدوى، وإشعاعاً من الداخل، فيغدو كلَّ موضوع لدى الذات الشاعرة –قلَّ أو جلَّ- ميداناً للقول وللإبداع وللتجديد المختلف المُعَزِّز للفهم الجمالي، والذوق بطريقةٍ دينامكية منتجة.
    3-  الاستمرارية:
   في ممارسة النوع الأدبي الذي اختارته الذات الشاعرة والإخلاص له سواء كان سرداً أو شعراً أو أي نوع أدبي آخر، وما دمنا بصدد الشعر، فيجب الإخلاص له والاستمرارية فيه ومعه كتابةً وقراءة والتدرج فيه بمختلف مدارسه واستيعابها وباختلاف أنوعه، مصحوبٌ ذلك الأمر في الاستمرارية والمعايشة الطويلة بالتشويق، والحبّ، والإخلاص لما يُقْدمُ عليه من قراءة الشعر وكتابته، وذلك للربط بين الهدف -(وهو تمكّن الذات الشاعرة)- والسلوك، والمزج بين النظرية والتطبيق أو بين الرؤية والأداء العملي، وتكوين الاتجاهات الإيجابية بالتشويق والتعزيز وتحقيق الذات بالكتابة، وكلها تحتاج أيضاً إلى عدم التعجل، وإلى "صحبة أستاذٍ وطول زمانِ"، ولكن هذا الأستاذ هو الذات الشاعرة الكبرى التي تصاحبها، وتتماهى معها الذات الجديدة الشابة حتى تكوِّنَ صوتها الخاص، وتمتلك تجاوزها، ومن ثمَّ تنتقلُ إلى ذواتٍ أخرى، ولن تعيش أيُّ ذات شاعرة منفردةً، ولا مستقلة تماماً، ولكنها تتدرج في نموها الطبيعي من الاستماع إلى المحاورة، ومن الإتباع إلى الابتداع، ومن التماثل إلى التفرد.
ومن كلِّ ذلك تصفو ذائقة الشاعر وتزداد رهافةً، وإحساساً بالمنافسة، والاستمرارية، والتحفيزية، كما تزدادُ خبرةً وقدرةً، وتَمَكُّناً من الإبداع، وتغدو الذاتُ الشاعرة أكثرَ استعداداً على تمثل الذوق والجمال، والتعبير عنه، وإنتاج النصِّ الواقعي والوجداني البديع والمختلف، الممتزج بكلِّ مقومات النجاح، والتأثير، وصدق التجربة، ونبضها.

*** ( ألقيت كمحاضرة في الدورة التطبيقية الثانية في (فن الشعر والإلقاء) لشاعرات يمنيات شابات، التي نظمها مركز وجوه للإعلام والتنمية، بالتعاون مع صندوق التراث، يوم الإثنين 4 مارس 2013م.)


[1]) أستاذ الأدب والنقد الحديث المساعد، رئيس قسم اللغة العربية، كلية التربية- أرحب، ورئيس قسم رعاية المبدعين بمركز الإرشاد التربوي والنفسي، جامعة صنعاء.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)