وقائع رحلة ثقافية إلى الشارقة 2 - 6 ديسمبر 2012م



وقائع رحلة ثقافية إلى الشارقة
د.إبراهيم أبو طالب([1])
   وأنا أدخل في فضاء الشارقة بجمالها الحديث ومبانيها الشاهقة ذات الأشكال الهندسية المختلفة التي تتبارى فيها سباقاً نحو السماء، وعلواً نحو التميز والاختلاف، مُختالة في مدنيتها الحديثة ووفرتها السامقة بوسائلها وأدواتها وأناسها من الإماراتيين، ومن الأجناس الأخرى التي تبدو في سباق متواصل نحو العمل والبناء.
كلُّ شيء منظم ومرتب إلى درجة كبيرة، لا مجال للتقصير، يطالع الزائر لمطار الشارقة بداية لوحةً كبيرةً تحمل شعار:(ارفعه عالياً ليبقى شامخًا) مرسوماً بألوان العلم الوطني الأربعة الزاهية في احتفائه بالعيد الـ41 لاتحاد الإمارات، يطرز ذلك الشعار على شاشات العرض الكثيرة والمتناثرة بنظام وتناسق في أرجاء صالة الاستقبال، والوداع ميديا مصورة، وفيديو يظهرُ بأشكال كثيرة تتشكل من ألوان العلم: الأخضر، والأبيض والأسود، والأحمر في حركات تعبِّرُ عن الحياة بمرافقها من: بناءٍ، ورياضة، وطبيعة، ونهضة، وأفاق مختلفة، وثمةَ صور لأمراء الإمارات السبع في انسجامهم، وتماسكهم يبدو كشعارٍ في كل مكان، وفي صورة أيقونية على كل حائط أو ملصق أو صحيفة، تحية للإمارات إذن في عيدها الوطني ومزيداً من هذا التلاحم بين أمرائها المنعكس على جميع أبنائها الذين قدَّموا أنموذجا يُحترم في بناء وطنهم اقتصاديا، وسياسيا، واجتماعيا، وثقافيا، وكلُّ إمارةٍ في الإمارات العربية المتحدة أخذتْ إمارةَ نوعٍ من المهام الإستراتيجية الكبرى، فلدبي إمارة الاقتصاد، ولأبوظبي إمارة السياسة، وكنترول الانطلاق، وللشارقة إمارة الثقافة، وإليها نحطُّ رحالنا أنا وصديقي الشاعر جميل مفرح، مشاركين في ملتقى الإمارات للإبداع الخليجي في دورته الثالثة لهذا العام في الفترة 4-6 ديسمبر 2012م، والذي يشارك فيه قرابة الـ (26) شاعرا، وناقداً من دول مجلس التعاون الخليجي، واليمن، والعراق، وضيف الشرف لهذا العام الجزائر الذي ابتعثت لتمثيلها نقداً: د.طارق ثابت، بورقة حملتْ عنوان: (المشهد الشعري المعاصر في الجزائر؛ القصيدة الحداثية، وبنية التحول)، وشعراً كل من: الشاعر عزوز عقيل، والشاعر مسعود حديبي.

   وكانت هذه الزيارة والدعوة من اتحاد كتاب وأدباء الإمارات سبيلا للتعارف، وفرصة سانحة للاطلاع عن كَثَبٍ على تجارب الشعراء في الإمارات وفي بقية دول الخليج، والعراق، والجزائر، وكان أول يوم للملتقى الذي قُدمت فيه أوراق بحثية وندوات وحوارات جادة في فترة الصباح في قاعة أحمد راشد ثاني بمقر اتحاد كتاب وأدباء الإمارات بالقصباء المكان الجميل في أحد أدوار المبنى الواسع، وفي اليوم التالي ليوم الافتتاح، تستمر الجلسات، وكانت أولاها: حول التحولات والاستجابة في القصيدة الخليجية، شارك فيها الدكتور أحمد الزعبي -الناقد الأردني المقيم في الإمارات-، وورقته بعنوان: (مظاهر الحداثة في الشعر الإماراتي)، وجعفر حسن من البحرين، بورقة حول (القصيدة الحديثة في الخليج، كتابة التحولات، أحمد العجمي نموذجاً) والدكتور سالم خدادة من الكويت، وأدارها محمد المزيني من السعودية، فيما عالجت الجلسة الثانية موضوع (القصيدة الحديثة في الخليج، الانفتاح على الأجناس والفنون الأخرى)، وأدارها الناقد المصري عبد الفتاح صبري –الأديب المعروف ومشرف نادي القصة في الاتحاد-،  وشارك فيها كاتب هذه السطور من اليمن، بورقةٍ حملت عنوان: (مرايا الفراشة ونارها؛ قراءة في القصيدة الخليجية الحديثة، وانفتاحها على الأجناس والفنون، ديوان الفراشة لبروين حبيب أنموذجاً)، والدكتور حسن مجَّاد من العراق بورقة بعنوان: (تجليات القناع بين الأداء الدرامي والنـزوع الذاتي في القصيدة العراقية الحديثة).

   وكانت الجلسة الثالثة في اليوم التالي، -أدارها الباحث اليمني الدكتور عمر عبد العزيز-، قد قُدمت خلالها ورقة للدكتورة ميساء الخواجا من السعودية بعنوان:(جدلية الثبات والتغير: قراءة في حداثة الشعر السعودي)، وورقة صالح غريب من قطر بعنوان: (خصائص القصيدة المعاصرة وجوانب من ملامحها وتطورها)، ضمن محور (القصيدة الحديثة في الخليج: بحث في الأصول والملامح والتطور التاريخي)، وورقة للباحث العماني الدكتور حمود الدغيشي، ضمن محور (القصيدة الحديثة في الخليج: الآفاق وهواجس التغيير).

 وفي المساء يحلُّ الشعرُ، ويسقط سقوطَ النَّدَى لنستمعَ خلال الليالي الثلاث إلى ثمانية عشر شاعراً وشاعرة بواقع ستة شعراء كل ليلة يحلقون في عوالم الدهشة والإدهاش، قادمون بالجديد مما أنتجته قرائحهم معبراً عن هموم خاصة وعامة من أوطانهم الممتدة من العراق: أحمد عبد الحسين، وطالب عبد العزيز إلى اليمن: جميل مفرح إلى السعودية: هدى الدغفق، وعبد الرحمن الحربي، والبحرين: أحمد العجْمي، وإيمان أسيري، وقطر: د.زكية مال الله، وعلي ميرزا، وعمان: د.سعيدة بنت خاطر، وعبد الله العريمي، والكويت: نشمي مهنا، والإمارات: حمدة خميس، وخلود المعلا، وشيخة المطيري، وسعيد القبيسي، والجزائر: بن عزوز عقيل، ومسعود حديبي، شعراء متفاوتون في الأعمار، ومختلفون في التجارب الشعرية، حيث يحلِّق الشعر بأجنحة تنويعاته عبر قصائدهم ما بين عمودية، وتفعيلة، وقصيدة نثر - يكون لها الحضور الملفت- وتتمايز طرائق أدائهم بحسب قدراتهم على الإلقاء والتمثيل لشعرهم لكنهم في جميع الأحوال كانوا محلقين منسجمين مع جمهورٍ نوعيٍّ جاء ليطرب للسماع، ويغذِّي لحظاته بإدهاشات اللغة، وعذوبة التجربة.
   تمضي بنا أيام الملتقى الثلاثة في تعارف وودٍّ عربي وهموم وأحلام مشتركة شعرياً، وحياتياً يحوينا حسنُ تنظيمِ اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، فلم نشعر بأي تأخير في موعدٍ أو تقصير عن واجب، تستقبلنا الابتسامات الرقيقة من كل فريق العمل المتناغم من: قاسم سعودي، إلى الهنوف، وفاخرة، في الاستقبال والتنسيق، إلى أحمد حسن المصور الذي لا تكاد كاميرته تفوّت صغيرة ولا كبيرة من حركات الوفد والحضور إلا ثبَّتَتْها في إطار توثيق اللحظة، إلى القاص إسلام أبو شكير بِرُقِي عباراته وتنسيقه، أما المبدعة سناء مدحت، فهي مهندسة العلاقات بحضورها الراقي وابتسامتها التي تشعُّ نقاءً وصفاء، وكل شيء في غاية الترتيب، يحرِّكُ هذا الفريق المتناغم، ويشرفُ عليه شخصيتان مبدعتان هما: رئيس الاتحاد: حبيب الصايغ، والأمين العام: أسماء الزرعوني اللذين يفتحا آفاق التواصل مع المؤسسات المختلفة كبيت الشعر الإماراتي، ومؤسسة العويس وغيرها، فتحيةً للجميع على كلّ ذلك البهاء.

   لاحظتُ حضوراً عربياً مؤثراً في صناعة المشهد الثقافي في الإمارات، إلى جوار المبدعين والمبدعات من الأدباء الإماراتيين المتميزين، فليس مُحتكراً، بل هناك مشاركةٌ للأكاديميين، والإعلاميين، والمثقفين من أكثر من بلد عربي من مشرقه إلى مغربه، فمن العراق – مثلاً- د.صالح هويدي، وعبد الإله عبد القادر، وساجدة الموسوي، وغيرهم، ومن سوريا إسلام أبو شكير، ومن الجزائر د.الرشيد بوشعير، ومن الأردن د.أحمد الزعبي، ومن مصر عبد الفتاح صبري، وزكريا أحمد وغيرهم، ومن اليمن د.عمر عبد العزيز، كل ذلك يصنع المشهد الثقافي في الشارقة، والإمارات بشكل عام لذلك صارتْ مركزاً للثقافة لا هامشاً، تُقدم الثقافة العربية بتنوعها بتعاونٍ حقيقي وبتفانٍ واضح، وانسجام كبير لأنَّ الثقافة صناعة عربية خالصة، وحب البيان موهبة متأصلة في العقل العربي – كما يرى الجاحظ- ومن هنا فلا غرابة أن يكون هذا الانسجام، واستقطاب العقول، والخبرات ناجحاً وحصيلته تغدو هذا الكم الواضح من الفاعليات الثقافية، والمجلات المتميزة، والكتب، والمعارض التشكيلية، والإصدارات ذات الرقي في الشكل والتنوع في المضمون، والطباعات الفاخرة، والحراك الثقافي الكبير.

  خذ ما شئتَ من مطبوعات العويس المعروضة على الأرفف، والتي تَدَافعَ عليها جميعُ الحاضرين لاقتنائها، وسيصلُكَ عددٌ كبير من إصدارات اتحاد كتاب وأدباء الإمارات إلى غرفتك في الفندق لتنعمَ بقراءتها عند عودتك، والكتابُ هو أفضل صديق ترسله مع صديقك الجديد الذي تعرفت عليه في لحظاتٍ ليبقى معه طويلا، ويحدثه عنك حين يعود إلى أهله، ويستقر به المقام في وطنه، وقد عدتُ بعددٍ من الدواوين الشعرية والمجموعات القصصية والكتب النقدية، والمجلات المختلفة أمثال مجلة "قاف"، ومجلة السرد الصادرتان عن اتحاد كتاب الإمارات، وغيرهما، وبهذا يحقق الملتقى هدفه في التعرف المباشر والاطلاع على التجربة الخليجية الحديثة في جانبها الإبداعي المتنوع، فحين ذهبتُ بدراستي حول ديوان (الفراشة) لبروين حبيب، لأنه المصدر الوحيد الذي كان لديَّ عبر مجلة دبي الثقافية وكتابها الشهري المفيد، رجعت بعدد من الإصدارات لحمدة خميس في نضج تجربتها وتنوع عطائها، ولخلود المعلا ذات الصوت المتميز في نسقها الإبداعي، ولجيل من الشباب الطموح والمختلف في اجتراح تجربته، ولغته الخاصة أمثال: شيخة المطيري، وسعيد القبيسي، هذا فضلا عن الأعمال الشعرية للشاعر الكبير حبيب الصايغ، ومجموعة "همس الشواطئ الفارغة" للمبدعة أسماء الزرعوني، وغيرهم، وهذا سيشكّل لديَّ رافداً – ولغيري من مشاركي الملتقى- وفرصةً للمقاربات والقراءات لهذه الأعمال ولغيرها من أعمال شعراء الخليج العربي الذين تعرفنا عليهم، لعلَّ لنا معها وقفات، ويكون سبيل النشر هنا على صفحات هذا الملحق الثقافي الأكثر قراءة ومتابعة لدينا في اليمن من قبل المثقفين والقراء المهتمين عموماً.

   نغادر الشارقة وثمة كلمات مضيئة نقرؤها على وجوه الإماراتيين عنوانها الإصرار على التميز في بناء وطنهم الجميل، ويتردد في وجدانهم صدى كلمات قالها -باني الإمارات الحديثة- المرحوم الشيخ زايد بن سلطان في وفاءٍ منقطعِ النظير بينهم، وبين روحه المحلقة في كل مكان، وفي ذكرى اليوم الوطني للاتحاد نقرأ كلماته المضيئة التي تقول -مثلا- :"إنَّ الاتحاد هو السبيل الوحيد لتحقيق الأمن والاستقرار لشعبنا وحماية مقدراتنا وتوفير الحياة الأفضل لمواطنينا بما يكفل مواجهة الأطماع التي تحيطُ بنا من كلِّ القوى المتصارعة".
   تحية لأدباء الإمارات على الفرصة التي جمعتنا بهم، وتحية تقدير وإجلال للإمارات العربية المتحدة في عيدها الوطني.


[1] ) أكاديمي وشاعر من اليمن.


نشرت في ملحق الاتحاد الثقافي  بتاريخ 14 من صفر 1434هـ الموافق 27 ديسمبر 2012م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)