لبناء اليمن الحبيب نتبع ما يلي

الكلياتُ الخمس لبناء اليمن

د.إبراهيم أبو طالب

   ليس هذا العنوان دليلا على كليات تعليمية أو دراسية كما قد يتبادر للوهلة الأولى إلى ذهن القارئ الكريم، وإن كانت تلك الكليات التي قد يختلف الناس حول تحديدها من حيث التقديم والتأخير والأهمية في البناء، وهي ولا شك جميعها مطلوبة ومهمة وتندرج ضمن إطار أعمّ نقصده في مقالنا هذا وهو التعليم بشكل منظم وممنهج، كما أنه ليس المقصود أيضاً بالكليات الخمس ما جاءت به الشريعة – وإن كان منبثقاً عنها.
وهي محط تقدير وطلب- والمتمثل في أن الديانات جميعها ومنها إسلامنا الحنيف خاتم الرسالات وأعظمها جاء لحفظ  خمس كليات تدور حولها الشريعة السمحاء وهي حفظ النفس، والدين، والمال، والعقل، والعرض كما يعرفها الجميع، وإنما المقصود بالكليات الخمس في مقالنا هذا لبناء الوطن هي ما يجب علينا مواطنين ومؤسسات، وأفراد وجهات سواء كانت حكومية أو مختلطة أو خاصة أو منظمات مجتمع مدني في بلد ديمقراطي ناشئ كبلدنا متطلع إلى الحياة الكريمة، وهي
 أولاً: حفظ الأمن، والأمنُ مقدمٌ على كلِّ شيء، فبه يكون الاستقرار وتتم التنمية، ولعلَّ الأمن هو ما يريده المواطن، وما يتطلع إليه، حتى قبل الأكل والشرب، فلا تنتهك حقوقه ابتداءً من حياته والخوف عليها، وانتهاءً بتفاصيل يومه الكثيرة التي يقلقه فيها غياب الأمن ومن مظاهره: أن لا يأمن على منزله من السرقة، أو سيارته من أن تؤخذ من الشارع فيضطر لشرائها من العصابة من جديد هذا إن أدركها قبل تشليحها، أو على قطعة أرض دفع فيها دم قلبه وصداق زوجته وقوت أولاده ليجد "متهبشا" باسطاً قوَّته قد بسط عليها أو أراد أن يدفع له إتاوة لأنها كانت من أملاك جده أو جدته، أو يؤخذ بتشابه في الجسم أو بطلقة طائشة من مسدس كاتم للصوت ممن لا يعرف للحياة معنى ولا يردعه ضمير ولا دين، ولن يصده ويوقفه سوى القانون وقوته المتمثلة في قوة الدولة وهيبتها لأن الله يزع بالسلطان/القانون ما لا يزع بالقرآن، ثم ينسحب الأمر في الأمن وغيابه من المواطن إلى مجالات الاستثمار والتنمية والبناء النوعي كالمشاريع الكبرى لأن الثقافة التي سادت -للأسف – نفَّرت المستثمرين لأنهم وقعوا تحت الابتزاز لغياب الأمن فكانت تقدم لهم عروض المقاسمة والمحاصصة بلا حق سوى دعوى توفير الأمن والحماية، فخسر الوطن الكثير من مشاريع التطوير والبناء التي كانت وما زالت ستساعد على توفير فرص العمل وزيادة الدخل القومي والتطور الملموس، وهكذا هلمَّ جرا.
الكلية الثانية: التعليم، فهو مفتاح المستقبل وأفق الحاضر وبه تزدهر الشعوب وتتحول من حال إلى حال، ونهضتها ورقيها به (لا يرتقي شعبٌ إلى أوج العلا ..ما لم يكن بانوه من أبنائه) وفاقد التعليم والعلم الصحيح القوي لن ينتج سوى الضعف والتخلف، فالاهتمام بالتعليم ووضع مناهجه القوية وتطوير ما هو حاصل أمر وطني مطلوب ليواكب العصر، ويحتاج من الجميع الوعي بتعديل كثير من المفاهيم الخاطئة التي شاعت ومنها أن الغش لم يعد معيباً ولا مخزياً، بل قد يتطاول فيه الطالب على أساتذته، ويكون على رأي المثل الشعبي "سارق ومبهرر" لأن المحيطين به من الكبار لم يردعوه ولم يوبخوه وأحياناً قد نجد في بعض المراكز الامتحانية إشرافاً من الكبار على "التغشيش"، وكأنهم يقومون بعمل وطني لكي يحصل أبناء محافظتهم على منح دراسية وفرص أكبر ولو بالغش، هذا أمر معيبٌ جدا شارك فيه الكبار قبل الطلاب، وعليهم أن يدركوا خطأهم ويقلعوا عنه ليستقيم حال الأجيال ويصلح مستقبلهم بعلم صحيح لا غش فيه.
الكلية الثالثة: المال، شريان البناء، ومعظم مشكلاتنا في مجالات مختلفة مشكلات مالية بالدرجة الأولى، حيث تلقى الشكوى من قلته في كلِّ مكان، ورغم تحديد هذه المشكلة ومعرفتها لم يتم توفير الحلول الناجعة والناجحة لتوفيره بشكل نهائي من خلال مقدرات الوطن وإمكاناته والوصول إلى الاكتفاء الذاتي -وعدم مدِّ اليد لأيٍّ كان- بمواردنا الطبيعية في البرِّ – معادن، ونفط، وآثار، وسياحة- وفي البحر بشواطئ تمتد لألفي كيلومتر، وبحر يحتوي الكثير من أنواع الحياة البحرية المفيدة، والمنخفض البحري الذي يوفر بيئة دافئة لا توجد سوى في موضعين أو ثلاثة في العالم اليمن أحدها تتواجد فيه الأسماك وتعيش، وستدر دخلا مهولا لليمن ولكن -ويا للأسف وواحرَّقلباه-  يستفيد منها الآخرون بمعداتهم الحديثة وعدم اهتمامنا سوى بفتات الضرائب والأجور، و لا يكتفون بالاستفادة، بل يصل بهم الأمر إلى التجريف أحيانا والإضرار بالبيئة البحرية والحياة الطبيعية للأسماك وبيئتها وهو ضرر بالحق الوطني لليمنيين جميعاً، ومن هنا يبرز دور المواطن وتوعيته ودور الدولة قبله، وهو الأهم والمعول عليه في توفير فرص العمل وفق خطط ممنهجة وإدارة سياسية عليا لتوفير المال وأسبابه من خلال استثمار المتاح من المقدرات والبيئة.
الكلية الرابعة: الإدارة، حيث يعيش العالم تطورا واضحا في مجالات الحياة سببه حسن الإدارة ومبدأ التنسيق والعلاقات الجيدة المنظمة والتي هي روح الإدارة وجوهرها المتميز، ولعلَّ أبرز مشكلاتنا أنتجتها الإدارة السيئة، وواقعنا في العقود الأخيرة تفاقم بسبب الفشل الإداري في مرافق المؤسسة الحكومية تحديداً، وفيها تداعى الفساد وتفشى، وكثر الإهمال وتوغل، وقلت الإنتاجية إلى حدٍ كبير، فلا رقيب ولا حسيب، وللحلِّ لا بد من إعادة البناء في المجال الإداري وأوله تصويب المفاهيم الإدارية فالسارق للمال العام لا يسمى "أحمر عين " بل يدعى لص، والناهب لا يسمى قادر "رجّال" بل ناهب حرامي، يزدريه الجميع وينبذونه، وهكذا لكي ننهض بالإدارة يجب إعادة تفعيل مبدأ الثواب والعقاب والحسبة، لإعادة الاعتبار للإدارة السليمة المخلصة التي من شأنها أن تنهض بنا وببناء الوطن.
الكلية الخامسة: التكنولوجيا، وهي بلا شك حصيلة توفر الكليات السابقة وتفاعلها ونتيجة تآزرها لمواكبة الحياة العصرية والنهوض بها فالثورة الرقمية والاتصالية والتكنولوجية عارمة وعلى الجميع المشاركة فيها وعدم الوقوف عند الاستهلاك فقط والقشور لأننا سنظل قابعين في نهاية القائمة وآخر سلّم الحياة والجميع يمضون قدماً، والمعيار العالمي أضحى أن من لا يضيف إلى الحياة فهو زائد عليها ولا حاجة للعالم فيه، فلو توافرت لدينا هذه الكليات سنستطيع أن نبني الحياة المدنية الحقيقية بكل طموحاتها الثورية، وبإراداتنا الشابة الفاعلة، وسنخرج للعالم بإضافة حقيقية – على الأقل- كما فعل أجدادنا -الذين تجري فينا جيناتهم- منذ مئات السنين وقد أدركوا تلك الكليات وحققوها وفق فلسفة عصرهم فكانت حضارتهم، وتحققت مكانتهم، فهل عجزنا اليوم أن نضيف إلى الحياة ما أضافوا، وأن نبنيها كما بنوها؟!
 
نُشر في مجلة الجيش العدد( 383)فبراير 2013م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)