عباس الديلمي شاعر الحبِّ والأغنية

شهادة في دورة الشاعر «عباس الديلمي»

  د. إبراهيم أبو طالب

٢٠ تشرين الأول (أكتوبر)  ٢٠١٠     

جرت العادة في عالم الشهادة في القضاء أن يرفع الشاهد يده لكي يلقي القسم بأنه سيقول الحق، وهنا في بيت الشعر عادة أخرى يقف من يريد أن يلقي بشهادة أمام قامة إبداعية كبيرة في محكمة الشعر وجلال اللغة وبهاء الحرف ليرفع يده وعقيرة كلماته ليشهد مقسماً بآيات الإبداع وصدقه ومعاني الصفاء وأفقه، أن يشهد بالأثر النفسي، والتأثر الوجداني، والغواية الأدبية لمن بهره بجمال لغته وروعة تراكيبه وأنغام حسّه ووجدانه مؤكداً على ملامح الجمال والألق الذي تبعثه شاعريته المحلقة، وإذا كان شاعرنا قد دخل إلى عالم القصيدة - باعترافه - من بوابة الأغنية فإنه قد دخل إلى القلوب والأذهان من باب الحب ومن ذات الباب شد إلى عالمه عالم القصيدة الكثير من الأدباء والشعراء والمعجبين.

الشاعر عباس الديلمي شاعر الوطن والحب، جمع بين الولاء والوفاء.. الولاء لهذا الوطن العزيز الذي نقعت روحه وأفكاره وحياته في تربته وتراثه وسمائه، فتنفسه حُباً صادقاً وولاءً لا يكدره ضيقٌ في العيش، ولا جهدٌ في المعاش، والوفاء الذي هو رسالة المحبين وشعار العاشقين، وشاهد الإخلاص للقلوب الرقيقة التي تطربُ للكلمة وتذوبُ في العبارة وبها، تفعل في أنفس المحبين فعل السحر، وتقودهم إلى عالم من السمو والحلم واللذة التي لو علمها الأغنياء والملوك لقاتلوهم عليها بالسيوف.

ولأنه القائم من ثقافة عريقة وقراءة واسعة متعمقة في التراث اليمني والعربي والإسلامي فلا غرو أن تنفتح روحه وعبارته على ذلك الفضاء الصوفي والفلسفي والابداعي، فعبّر عما قرأه في دراسته الجامعية وقراءاته الجامعة عن روح متصوفٍ يدرك جمال الكلمة وجلال العبارة التي تتسع معها الرؤية للعالم والحياة، فلا يجد سوى الحرف والقصيدة بكل أشكالها وألوانها الفصيحة، والحميمية، والشعبية فيطلقها في فضاء الوجدان كلوحة رسام ماهر يجيد توظيف أدواته باقتدار وإبهار،

ولا تقف مشكلة الشكل أو النوع الأدبي حائلاً أمامه في التعبير فلا يتبنى قول المحدثين أو ينساق وراء تنظيرات جافة معقدة عن القصيدة ولغتها، لأن ما يشغله عن هذه الضبابية هو وضوح هدفه والاتجاه مباشرة الى الوجدان الذي لا يفهم سوى طريق واحد هو طريق الكلمة الصادقة والصورة الذكية الدافئة المعبأة بظلال المعنى والمغنى، ومن هنا لم يُضع وقتاً أو يفرق جهداً في ما قد أضاعه غيره فأتى القلوب من أقصر أبوابها، وولج إليها من أدق أذواقها ليخلد مع الخالدين في مسيرة الأغنية اليمنية من (محمد بن عبد الله شرف الدين) إلى (عبد الرحمن الآنسي الأب وأحمد بن عبد الرحمن الابن) إلى (علي بن محمد العنسي) و(أحمد بن حسين المفتي) وآخرين فيتحول إلى مجددٍ في الأغنية ولغتها وطرائقها بما يعبّر عن عصره متجاوزاً في بعض أعماله حدود المكان والمحلية إلى العربية باتساع أصقاعها وانتشارها.

الحديث في تجربة عباس الديلمي الشعرية يطول والموقف موقف شهادة فحسب، ولذا فأنا هنا سأشهد بما رأيت لا كقارئ في نصه الشعري ومدونته الإبداعية، فذلك مجاله الدراسة الأكاديمية أو النقدية، ولكن سأشهد بما عرفتُ عنه كتجربة خاصة مع عباس الديلمي الشاعر ومدير البرامج، في العام ١٩٩٧ م تقدمت بمسابقة رمضان للأطفال في الإذاعة، كنت شاباً في بداية الطريق أتلمس خطوات البداية، وكان الشاعر عباس الديلمي صاحب تجربة كبيرة ناضجة في الكتابة للطفل وبخاصة الأغاني فيما يربو على مائة أغنية للأطفال، في الإذاعة والتلفزيون، وقد شجعني في خوض الكتابة للطفل ولا أنسى كلماته المشجعة وحَميميته الصادقة حين كان يراجع معي في مكتبه أولى قصائدي للأطفال،

ولا أنكر أن حسن ظنه بي قد جعلني أخوض هذه التجربة والمغامرة رغم عدم نضجي حينها، حسنُ ظنه بي وهذه شهادة أعترف له بها في هذا المقام ولعله يسمعها أول مرة هو الذي جعلني استمر في الكتابة للأطفال حتى أًصدرت أول ديوان شعري للأطفال نال جائزة مرموقة محكمة هي جائزة السعيد الثقافية في عام ٢٠٠٤ م، وكانت نواة للأناشيد التي نفذت في مصر عبر إحدى الشركات المتخصصة، وحسن ظنه - ايضاً - وتشجيعه في ذلك اللقاء المؤثر الصادق هو الدافع إلى غواية الكتابة واجتراحها في أدب الأطفال أهم شريحة اجتماعية، إذن فعباس الديلمي شاعر كل الأعمار قد دفع بي - من حيث يدري ولا يدري- وبغيري من الجيل التسعيني إلى الاقتداء بتجربته في عالم القصيدة والأغنية، لأننا سهرنا مع (نجوم الليل) حين أحسسنا بأول خفقة قلب، وهتفنا ب(طبيب الهوى) مستنجدين من لوعة الغرام، وزرعنا الأمل (في مزهريات أرواحنا)، كما استيقظنا ذاهبين إلى المدارس والجامعات على (صباح الخير يا وطناً يسير بمجده العالي إلى الأعلى)، وغيرها الكثير من الروائع الإبداعية التي عمقت مفاهيم الحب للوطن والحياة والجمال والمحبة وكلها في قاموس الديلمي تنبع من مشكاة واحدة وتسير إلى غاية واحدة.

شكراً لعباس الديلمي الشاعر الكبير الذي كتب في كل فن باقتدار، وجعل قصيدته أغنيته عالماً من الجمال والأسرار.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

كتاب (الإعلان بنعم الله الواهب الكريم المنان...) كتابٌ يمنيٌّ فريدٌ ومدهشٌ يضمُّ ستة كتب في الصفحة الواحدة

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)