مشروع ابتسامة سامي الشاطبي




مشروع البحث عن الذات، ومشروعية السؤال
 في (مشروع ابتسامة) لسامي الشاطبي
د/ إبراهيم أبو طالب

     يظل النوع الأدبي هو الذي يحدد طبيعة بناء النص، ويشكل بنيته بحسب ما جرت عليه أعراف ذلك النوع وممارساته عند الكتابة على اختلاف مدارس مبدعيها واتجاهاتهم الفكرية، وأساليبهم الكتابية، في إطارها التقليدي أو التجريبي، وغالباً ما يكون ذلك عن وعي عند الكاتب وقصد منه لامتلاكه لأدواته الفنية، ونوع (النوفيلا) أو ما يطلق عليه بعض النقاد الرواية القصيرة هو نوع له شروطه وخصائصه وطرائق بنائه،
ويمكن العودة إلى مراجع عديدة لمن أراد المزيد، ومنها كتاب أستاذنا الدكتور خيري دومة ( تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة 1960-1990م، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 1998م).
   ولعل خلاصة ما يمكن إيجازه عن النوفيلا أنها ذات طبيعة خاصة يكون الموت حاضرا كتيمة أساسية فيها وتغدو نهاية أبطالها مأساوية.
   وحينَ نُقارِنُ هذه الخصائص ونبحث عنها في (مشروع ابتسامة) لسامي الشاطبي الذي يطالعنا بها غلافها معلنا أنها رواية (تقع في 42 صفحة من القطع الصغير) دون أي إضافة أخرى كصفة لهذه الرواية تدل على الطول أو القصر، ونحن نعرف أن الرواية لها شروطها وحجمها وموضوعاتها المتشعبة بأبطالها وأحداثها وأزمنتها وغير ذلك من عناصر تكوينها، حتى وإن أخذت في أفق التجريب مدى أقل مما كانت عليه الرواية التقليدية لكنها تحتفظ بأقل تلك الملامح، وكذلك النوفيلا (الرواية الصغيرة- أو القصيرة) فإن لها أيضا طبيعتها كما تقدم، إذن فإننا وبحسب القراءة النقدية لابدّ أن نضع توصيفا لهذا الكائن القصصي الذي هو بعد النظر يندرج ضمن عوالم القصة القصيرة، لأنها الأقرب إلى نوعها بما تحتويه من عدد شخصياتها المحدودة التي تتركز في (غريب) بطل القصة، و(أمل) بائعة البطاط، ثم من سيقابلهم غريب من شخصيات ينفتح معها السرد بحسب سير القصة، ولا يقلل ذلك من مستواها، ولا من شأنها حين نصنّفها ضمن نوعها الأدبي القصصي لأن القصة القصيرة لها آفاقها، ومنها ما يطول إلى أكثر من مائة صفحة، وليس كل ما كثر في صفحاته صُنف روايةً، لأن هنالك شروطاً للرواية، لا يجهلها كُتَّابُها، كما لا يجهلها نقاد السرد، ومن خلال (غريب) هذا البطل الذي سيتداخل في أسلوب عرضه للحكاية بين أسلوب الحوار مع من سيعيشون معه أحداث حكايته وبين أسلوب التداعي الحر، أو تيار الوعي، ولكنه لا يكثر منه، ومن هنا سيبدأ غريب في عرض عالمه الخارجي والداخلي بترابط حينا، وبتناقض أحيانا أخرى، وممن سيقابلهم تأتينا أسماء غريبة بعضها تاريخي وبعضها رمزي، منها: مرثد حارس بوابة المؤسسة المرقمة، وكرب، وإيليعم، ويوم، ومجمل، ومعراد، وغيرهم، وانتهاء بأسماء أهل الكهف- الذين ستنتهي بهم القصة- وهم (مكسلمينا، تلميخا، مرطليوس...الخ) ص 45.
   وفي وسط القصة تظهر أسماء لا تبتعد عن الرمزية هي (عدل) وهو اسم يعبر عن قيمة، وهي التي يبحث عنها الجميع في الدولة العادلة، وسيحققها (الخدم) الذين كانوا من الفئات المهمشة في عصور كثيرة، فاستطاعوا "أن يحكموا اليمن قاطبة وطيلة عقود حكمهم نجحوا في نشر قيم العدل الحقة والتآزر الاجتماعي، والتآلف وأشاعوا النظام والقانون بين الناس...) ص41. وهذا من محاولات غريب في البحث عبر التاريخ عن حل، ويأتي الرمز في هذه الجزئية من النص في أن هذه الدولة العادلة تخلصت من التاريخ الذي هو عقدة في حياة بعض شخصيات المؤسسة المرقمة التي اشترطت أن يعرف كل متقدم تاريخه ونسبه حتى سابع جد، وسابع جدة، وهذه الدولة التي حققها الأخدام لا تعترف بفكرة التاريخ، بل إن مجرد ذكر كلمة تاريخ التي ذكرها غريب ليعرف في أي عام هو، عَدُّوْهَا جريمة قضت بخروجه وطرده من دولتهم.
   وفي المقابل هناك اسم آخر موغل في التاريخية هو (هرطقلي) جعلوه يتخلى عن الحكم وأصبح في متحف لمن أراد زيارته.
   وبالنظر في عناصر القصة نجد الأحداث تتوالى لدعم الفكرة الرئيسة في النص وهي البحث عن الذات، والهروب عبر وسيلة التنقل الفانتاستيكية خلال الزمن باتخاذ عام 2022م -(المستقبل)- مرتكزا للزمن ثم إن هذا الزمن القصصي يذهب في اتجاهين: إلى الحاضر وإلى الماضي، وفي الحاضر سنقف على واقع عاشه المؤلف وعاشته البلاد في 2011م – المؤسسة المرقمة- وهو الخلفية الآنية للقصة، ويتضح بالأحداث والمكان الذي يُضْربُ بدبابات الدولة، ودبابات القبائل وجنابيهم وحشودهم، وتغدو هذه المؤسسة التي يحرسها مرثد ويدافع عنها تتلقى الضرب من كل اتجاه، وهي رمز واضح لأي مؤسسة هدمت وتلقت الخراب ، وفي مجملها هي رمز لعموم البلد. ثم إن ذلك الزمن يُحَمَّل بالغرائبي الذي ينسجم مع بطل القصة (غريب) بكل ما فيه من الغرابة في خياله وفي بقية عناصر الزمكانية، وهو في هروب دائم عبر تلك العناصر، ولكي يقترب من الترميز يجعل لها وسيلة عبور من واقع اليمن، وهي ما أطلق عليه مصطلح (العطارة القاتية) حيث يستسلم كل مرة لعبور الزمن، ويعبر به من خلال القات، وفي مجمل القصة كأننا أمام زمن يبدأ من أول فترة التخزينة- وقت تناول القات- إلى نهايتها وبه تنتهي القصة بأحداثها وتنقلاتها الزمانية ماضيا ومستقبلا وحاضرا. (وهو يعلم أنه لن يموت اللحظة ما دامت ورقة القات التي نقلته إلى المستقبل ... ويعيد فتح كيس العلاقية يتناول عددا كبيرا من وريقات القات وينتقل إلى زمن آخر) ص 39. وهو بهذا يضع معادلا للتخلف والتأخر وسببا لأشياء تدخل في فلسفة القصة وخلفيتها الذهنية، ولكن دون تصريح واضح، ويظل (غريب) يبحث ويتنقل في الزمان وعند الناس ليتفحص أشكالهم وأفكارهم، ويتعرف على نقائصهم من المشعوذ إلى الحارس إلى صاحب القرارات العلوية إلى أمل –بائعة البطاط – إلى المولدين إلى الخدم ومع كل صنف يقف الراوي ليتحدث عن المسكوت عنه غالبا كمؤخرة امرأة، أو ضرطة رجل، أو قيء أو طراش عفن وغيرها من الكلمات التي تصدم القارئ بهذا القاموس الذي يبعث على التقزز، ولكنه موجود في واقع الناس ولكن تحويله في نص إلى سياق توصيفي كقوله: (صحن مخاط)،...(ملامح الحارس الأشعث الذي يشبه كومة طرش لذيذ الطعم) إنها صورة تبعث على الغثيان، فأي لذة في ذلك؟!، ولعلّ القاص كان قادرا على تجاوزها ولن تؤثر على العمل، في حين أنه استخدم في مكان آخر شتيمة (ابن الشريفة) بديلا للشتيمة الشعبية المتداولة بكثرة في حياة الناس، فَلِمَ الترفع هاهنا والوقوع هنالك؟! أم أنها من باب السخرية، وتسمية الأشياء بضدها؟!
   ثم إن هناك أفكارا غريبة في عموم القصة تتمثل في الشروط التي يشترطها طالب الوظيفة – وهي تبدو كأنَّها من يوميات الراوي وروتينه الوظيفي- ومن هذه الشروط الابتسامة، والسعادة، وعدم الحزن، بل (القضاء على الأحزان) ص13. وهو طلب غريب من أشخاص مسحوقين بأسباب الفقر والتعاسة، ومنها أيضا فكرة حكم الأخدام ونشرهم للعدل، ومنها التنقل عبر الزمن، ولأن القصة تتحدث عن مؤسسة مرقمة تظهر الحسابات في النص بالأرقام كقول "أمل" (1800 يوم من الفراق و(5) أشهر على وفاة مجمل زوجي الأول، و(528) ساعة على اختفاء زوجي الثاني...) ص15. وهكذا يمضي في اعتماد الأرقام التي تبدو كأنها دقيقة في أعدادها لأن الحساب حاضر لديه حتى حين يستشهد بآيات قرآنية يلتقط مفردة الحساب: "الشمس والقمر بحسبان"، وحين يتحدث عن لقاء (غريب) بأهل الكهف "لبثنا يوما أو بعض يوم"، وتظهر الأرقام في اهتمام الراوي من جديد في الحديث عن مستقبل اليمن (أظهرت المؤشرات السكانية أن عدد سكان اليمن بلغ هذا العام 100 مليون نسمة 70% منهم يتخذون الشارع ملجأً لهم وفقاً للتقرير..) ص33.
   ونرى من هذه النماذج وغيرها ولع المؤلف بغرائبية ما يطرح من أرقام، وأسماء، وأحداث، ومن جانب آخر فإنَّ معظم العمل فيه الكثير من الخلاصات الفكرية والوقفات التأملية التي تأتي في جُمَلٍ تمثّل نوعاً من الحكمة:
- لا يوجد فرق بين الهروب بوسيلة والهروب بدونها، كلنا نفر ابتداءً من بطون أمهاتنا وحتى قبورنا.. ص9.
- أصعب ما يمكن للعقل البشري تقبله أن تطبيق النظام يتم بفوضى، وخلق الفوضى يتم بنظام كيف ..سؤال محير؟! ص12.
- إن الشيطان لا يؤذي بل يغوي..ص23.
   هذه وغيرها موجودة كعلامات في عموم النص، وتظل فكرة الهروب هي العنصر المهيمن على النص وبإلحاح، الهروب من الواقع، والهروب من الذات الفردية والجمعية، ثم جلدها أيضا إن اقتضى الأمر لأن واقعاً مأزوماً يعيشه الغريب في وطن تتقاذفه الأزمة، ولا يعرف السائر فيه نهاية النفق، ولا بداية الطريق هو السبب وراء هذه الخلفية المحيرة التي جعلت اللحظة منطلقاً وخلفية لحركة البطل، ثم إنها بعد ذلك كانت سبيلا لجلد الذات والهروب عنها، أي عن هذه الذات في كل اتجاه والبحث عن سبب للسعادة خارج التاريخ الذي هو المتهم الأول في القصة لأنه يقودنا إلى أن نعرف الجد السابع والجدة السابعة في وطن أنهكه الاغتراب، فمن أين له بنقاء هذه النسبة، وضمان صفاء العرق، وتظل فكرة الهروب هي المحور بما فيها الاسم الخاص بالبطل (غريب) الذي يتخذ اللاشيء في حياته سبيلا للمعرفة والبحث، وبالقات – الذي لا تختفي دلالته في النص- يسافر عبر الزمن في كل مرة إلى زاوية مختلفة من الواقع الحقيقي والمتخيل إلى أن ينتهي به مع نهاية اليوم، أي مع نهاية (موعد التخزينة) إلى أهل الكهف الذين سيلتقي بهم ويتعرف عليهم بأسمائهم ويحاورونه مرحبين به كنهاية لعودة الزمن للماضي السحيق البدائي والذي سيستقر فيه غريب في نومتهم (نومة أهل الكهف)، وهو يدل على أن العمل ينتهي نهاية مفتوحة ليس فيها أي مؤشر للابتسامة، ولا لفك شفرة الأحزان، ولا لانفتاح نهاية هذا الطريق المظلم الذي تسير فيه المؤسسة/البلد بمن فيها من موظفين، وحراس، وأصحاب قرارات علوية، ومنفذين سفليين، وحتى من يعمل خارج تلك المؤسسة ممن يقف على الرصيف من الذين أكل عليهم الزمن آدميتهم وشرب من مآسيهم قبل أن يجفف دماءهم، أمثال (أمل) بائعة البطاط، وكذلك الأخدام وغيرهم، فالمصير ما يزال مجهولا والرؤية غائمةً غريبة، تبحث عن خلاص كما يبحث غريب عن خلاص وعن ذات، لا يجدهما سوى في علاقية القات التي بها ومنها ينطلق إلى عوالمه المتنوعة عبر الزمن إلى الأمام مرةً وإلى الخلف مرات، ويبقى السؤال مفتوحا كما القصة، وكما هو مصير (غريب) ومصير مؤسسته المرقمة في عالم رقمي انتهت فيه قيم الإنسان وسادت فيه القيمة الرقمية، ليظل يدوى هذا السؤال الكبير والمحزن، فماذا نشكل نحن في هذا العالم الرقمي؟!، ونحن لا نملك سوى الانغماس في العطارة القاتية، ونهرب من خلال حشو أفواهنا بوريقات القات السحرية، ويظلُّ السؤال والمشروع مفتوحين.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

كتاب (الإعلان بنعم الله الواهب الكريم المنان...) كتابٌ يمنيٌّ فريدٌ ومدهشٌ يضمُّ ستة كتب في الصفحة الواحدة

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)