أ.د/عبدالعزيز المقالح يكتب عن ديوان (حين يهب نسيمها)


                          أ. د. عبدالعزيز المقالح

 قراءة في ديوان (حين يهبُّ نسيمها) 
للشاعر الدكتور إبراهيم أبو طالب


ليست هذه القراءة القصيرة التي أقدمها اليوم بين يدي توقيع ديوان “حين يهب نسيمها” للشاعر الدكتور إبراهيم أبو طالب، سوى تحية أو مقدمة لقراءة موسعة أرجو أن أنجزها في وقت قريب. وما أستطيع قوله الآن أنني تابعت تجربة شاعرنا منذ حروفه الأولى التي لم تكن تبعده كثيراً عن مناخ الجو العلمي الذي شغل الحيز الأكبر في قراءاته وكتاباته وما كان يفرضه من ضرورة متابعة الدارسات النقدية التي تعمق صلته بالبحث الأكاديمي الذي يؤهله للتدريس في الجامعة، ويفتح أمامه الطريق إلى الأستاذية بمعناها الجليل.
ومهما قيل عن تلك البدايات فإنها تضع الدارس إزاء شاعر يؤسس لتجربة مفتوحة على رؤية دائمة التجاوز والتغيير لا في الشكل بل في المعنى واللغة، تجربة تصوغ بنيتها ورؤيتها في منأى عن الشطح والمغامرة غير المحسوبة، وكأنه بذلك كان ينتظر حدثاً كبيراً يلهمه ويفجّر طاقاته ويضع موهبته في مكانها الصحيح. وقد جاء ذلك الحدث ممثلاً في الثورة الشبابية التي اندمج الدكتور إبراهيم فيها ومعها بوصفه شاباً وشاعراً. وقد نجحت بدورها في أن تضع حداً فاصلاً بين قصائده الشعرية السابقة وهذا المنجز الذي تحقق خلال الثورة، وفي لهب حريقها الساطع بعد الثورة. ومن الواضح أن الثورة قد أثّرت سريعاً في تجربته وأمدته بانطلاقة ما كان لها أن تحدث خارج مثل هذا الحدث العظيم:
“قد زحفنا
وبلغنا كل غايهْ
من هنا
من ساحة التغيير والحرية
قد صنعنا البدء
ننتظر النهاية.”     (ص29)   
هذا صوت مغاير لما كان الشاعر يكتبه قبل الثورة، وفي المقدمة الاتجاه إلى القصيدة القصيرة، وأحياناً القصيدة الومضة التي تجسد موضوعها في كلمات قليلة تتجاوز بدلالاتها ما تقوله المطولات:
“عندما يَسْقطُ النظامُ صباحاً
ويعودُ النظامُ
وقتَ المساء.
فسألِ اللهَ للبلادِ خَلاصاً
من حروبٍ
أهليةٍ
شنعاءْ.”              (ص109)
ليس المهم عندي، ولا عند كثير من محبي الشعر أن يتحرر الشاعر من البنية البيتية، أو يتخلص من الوزن أو من القافية أو منهما معاً، المهم عندي وعند كثير من محبي الشعر أن يكون الشاعر أصيلاً في موهبته صادقاً في مواقفه فكما أن الشعر ليس وزناً فهو لا يمكن أن يكون كلاماً بلا إبداع ولا فن. وكما يكون الشعر أفقاً واسعاً للخيال فهو كذلك أفق للتفكير الباعث على التأمل واستخلاص ما يسمى بالمعاني الأولى والثواني:
“تبدو حكمتنا والإيمان
هَذِي الأَيَّام
كعجوزٍ وضعتْ ماءً في صُرّه
وادّخرته لوقتِ الْحَاجَةْ.”                  (ص75)
هذه الصورة البديعة الساخرة ليست من صنع الفكر وحده فقد ساعد الخيالُ على رسمها في هذه السطور الأربعة. وهي بدلالتها الواضحة القريبة إلى الفهم العام تتعالق مع كثير من الكائنات والأشياء وتدعونا بإلحاح إلى أن نعيد صياغة علاقتنا الأخلاقية والسياسية والاجتماعية في ضوء ما ورثناه وليس تحت ضغط ما نراه ونخضع له من انكسارات وتقلبات، وثوراتنا الدائمة ليست في مواجهة العقل والحكمة والإيمان وإنما هي جزء من  مشروع حضاري للبناء ولاستحضار القيم في حياتنا والتمسك بموروثنا الأصيل والنبيل الذي يساعدنا على التعايش والبقاء والتحلل منها يضاعف من مصادر الخوف والقلق:
“لا فرقَ عندنا
بين دمٍ وَدَمْ
كلّ الجهاتِ في البلادِ
وحّدَهَا الألم
وكلّ قطرةٍ
سالتْ مِن الدِّماءْ
ستصنعُ الحياةَ
مِنْ رَحِمِ العَدَمْ.”                 (69)
وإذا كان الألم قد وحّد بلادنَا أو بالأصح وحّد مواقف أبنائها كما تشير إليه القصيدة فإن الأمل ينبغي أن يظل معقوداً بمحبة الوطن، وأن يكون العامل الأساس في توحيد المشاعر والخلاص من الإرث البغيض الذي جعلنا ننسى أننا أخوة “لا فرق بين دم ودم” وأن الطغاة والجلادين الذين قامت أنظمتهم على إفساد العلاقة الأخوية والوطنية بين أبناء الوطن الواحد والأمة الواحدة اعتقاداً منهم أن الخلافات التي تمزق صفوف المواطنين وتدّمر وحدتهم هي التي تطيل من بقاء تلك الأنظمة الفاسدة، وذلك زعم باطل فقد أثبتت الأيام فساد معطيات هذه النظرة القاصرة إذ لا يحمي الأنظمة سوى العدل أولاً ووحدة مشاعر المواطنين ثانياً:
“أين يمضون بنا
فرّقونا بالمذاهب
شطّرونا بالجهات
مزّقونا بالطوائف
ملؤونا نعرات
أفسدونا بالمصالح
في سبيل الترهات
جعلونا نتخاصم
نتجادل ، نتشاتم
واختلفنا:
في الشوارع
في المساجد
في النوادي
في المصانع
وانقسمنا في البيوت.”                    (ص60)
إن ديوان الدكتور إبراهيم أبو طالب ليس انعكاساً للثورة فحسب، وإنما هو ثورة في الثورة. ثورة على الفساد والمذهبية والطائفية والعنصرية والمناطقية، وهذا النص البديع شاهد على هذه الثورة وتأكيد لها، وهو خلاصة ما ترتجيه ثورة الشباب في بعدها الوطني المبشر بالتكاتف والتعاضد والوئام.
وفي ختام هذه الملاحظات العابرة لا مناص من الإشارة إلى لوحتي الغلافين واللوحات الداخلية التي رافقت قصائد الديوان بريشة الفنان الجميل الأستاذ سمير مجيد البياتي، فقد أعادتنا إلى مناخ الستينيات والسبعينيات المزدهرة حين كانت الموسيقى البصرية تتعانق مع موسيقى الكلمة في علاقة حميمة تثبت أن الفنون القولية والبصرية تنطلقان من وجدان إنساني واحد.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

كتاب (الإعلان بنعم الله الواهب الكريم المنان...) كتابٌ يمنيٌّ فريدٌ ومدهشٌ يضمُّ ستة كتب في الصفحة الواحدة

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)