ديوان (أناجيل) ظاهرة شعرية تجريبية


                

ديوان (أناجيل) ظاهرة شعرية تجريبية

(قراءة أولى في العتبات والتشكيل)
د.إبراهيم أبو طالب
     هذه مجموعة شعرية مختلفة لأربعة من الشعراء الشباب اتفقوا على أن يقدموا لنا ورشة عمل شعرية، ولعلَّ هذا من البداية هو أول إدهاشاتهم المختلفة في عملهم هذا، حيثُ إن الشعر عبر تاريخه العربي قديماً وحديثا هو لغة الوجدان الذاتي الفردي، وبمعنى مبالغ يمكن القول إنه لغة الأنا الواحدة التي لا تقبل الشراكة في الإعداد، وإن كانت تقبله في الجمعي من الموضوع والهم النوعي المتسع بأساليبه التعبيرية.
   ومن هنا فإننا إزاء عمل جماعي التفكير والاتفاق والانضباط والقراءة، ثم الانطلاق في كل اتجاه نفسي ومهاري لاستعراض ما جاء به وأتقنه كل شاعر على انفراد، وكأننا أمام لوحة سيمفونية غنائية يجمعها هارموني واحد في الإيقاع العام، ولكن كل فرد داخل الفريق يقوم بعزف مقطوعته الخاصة ليدهش، ويمتع، ويجذب الجمهور من خلال آلته المتفردة بأسلوبه الملفت ولكنّه لا يخرج عن طقوس المعزوفة الكبرى واللحن المختار للقطعة الفنية التي ابتكرها ملحنها (الفردي/ الجماعي) الواحد الأربعة معاً.
   سأقف بداية مع انطباعات أولية عن طريق القراءة التي يفرضها العمل؛ حيث يظهر عليه أنه عمل مُحْكَمُ الصِّنْعَة، فلا يُسلّمك مفاتيحه من القراءة الأولى ولا حتى من الثانية، بل يجعلك تسترجعُ المستقرَّ في الذهن والمألوف من التراثي والديني وحتى من فنون التشكيل البنائي والتخطيط العمراني لتجد أنه قد استفاد من كل ذلك واسترجعه في البناء الخاص بالمجموعة الشعرية، ولذلك يحتاج الدخول إلى النص إلى رسم خريطة ذهنية يقوم القارئ بوضع خطوطها الواضحة للولوج إلى هذه الغابة الخضراء المتشابكة الطرقات.
   ومن هنا يبدو أن أول وقفة مع النص لا بد أن تركّز على العتبات من خلال العناوين حتى يتضحَّ شيء من طريقة البناء التشكيلي للنصوص، ونقول البناء لأنه – فيما يبدو- سرّ قوة النص وجديد كينونته في حين أن المضمون إلى حد بعيد قد اعتمد على التناص الديني والتوظيف الدلالي للدين ورموز التصوّف وبعض النظريات الفكرية في قوالب شعرية تنساب إلى مواضيع الذات والمجتمع والحياة وتتشظى في آفاقها، ولكن تلك التناصات بشكل عام تشبه ما يمكن أن أسميه بـ(النقيعة) التي عرفها العرب من الشراب المختلف الألوان والثمار، ولكنها جميعا نقيعة دينية تمزج من الأديان السماوية الأخرى قدر مستطاعها، وتستعير الوعاء من أحد تلك الأديان، ولكنها ذات روح إسلامية وثقافة دينية إسلامية خالصة (نصاً قرآنيا، حديثا نبويا، سيرة إسلامية، مثلا، شعرا، وثقافة عربية الوجه واليد واللسان). اقرأ معي هذه النموذج:

"اتفقتُ أنا وأخوتي الأحد عشر على اغتيال فكرتي
وعاهدنا والدي المسكين ألا يأكلها الذئب
وهناكَ ألقيتها في غيابات الجبّ وظللتُ أرقبُ من بعيد..
جاءتْ فقراتُ الماضي وأدلتْ دلوها وأخرجتُ عبارتي المخبأة
وأعلنتُ مزاداً علنيا لشرائها فاستخرجتُ نفسي من مخبئي
واشتريتها بثمن بخسٍ ولم أعقب" ص22.

   إذن ما قد يثير تساؤلات القارئ المتعجل واندهاشه وربما الصدمة من أول عتبة العنوان الخارجي هو كلمة (أناجيل) وهي التي تعني في اللاتينية التباشير السارة، وهي على وزن أفاعيل أو مفاعيل التي تُعدّ صيغة منتهى الجموع، مفردها إنجيل وهو يحيل مباشرة إلى الكتاب المُقدّس، وهذه ربما تُشَكِّلُ صدمةً للقارئ ولكننا نُطَمْئنُ هذا القارئ بالقول إنه لا يدهشك المبتدأ –المقصود والمتعمّد من قبل الشعراء للمفارقة والاختلاف وربما للصدمة المقصودة –أيضا- الموحية بالمسيحية والحديث عنها- فإن الخبر إسلامي إسلامي، وكأنما لديك كتابٌ يحتوى على أوراق شعرية بثقافتها القرآنية وتناصها الإسلامي، ولكنَّه وُضِعَ في غلاف الكتاب المقدس والغلاف الخارجي فقط، وربما هذا الفعل المقصود هو أول رسالات النص في أنه لا مشكلة لديه في التعامل مع الموروث من أي ثقافة كانت، بل إنه يضعنا من العتبة الأولى في تجاوز ذلك الصراع المزمن الذي يَحدُّ الحدود ويُغلّب الفواصل، فهذا الشكل الخارجي سيمزج فيه الشعراء/ رهبان القصيدة بين الأديان وإن كانت الغلبة واضحة للشكل على المضمون، وللثقافة الإسلامية على غيرها من الثقافات، وهذه التجربة تحمل رسالة إنسانية، ودعوة للتعايش والقراءة والاستقراء بدون إقصاء أو نبذ أو هيمنة، بل لعلها تؤكد على أن الاستفادة القصوى في حياة الحضارات إنما تأتي من توظيف المشترك الروحي السماوي التصوفي في تلك الأديان لتنطلق في آفاق المحبة والتقارب.
   اهتم الشعراء الأربعة أحلام شرف الدين، وأميرة الكولي، وحسن المرتضى، ومحمد عبد القدوس الوزير في مشروعهم بالتشكيل ليؤسسوا لمدرسة (التعميدة) التي يبشرون بها في أناجيل/(هم)، وهي تقوم على الدعوة للقول بالشعر من خلال الاستفادة من جميع الأشكال الشعرية القديمة والحديثة من القصيدة العمودية بأوزانها الخليلية إلى القصيدة الشعبية والتوشيحية الخارجة عن أوزان الخليل إلى التفعيلة إلى القصيدة النثرية كل تلك الأشكال أرادت مجموعة أناجيل أن تعتمدها وتُعَمّدَها لكي تدعو إلى قصيدة الأفق الأوسع المتجاوزة للحدود كما تهدف في ذات الوقت إلى الأفق المتسع في الدعوة الإنسانية إلى عالمية الشعر وإنسانيته، فلا يقف عند فكر واحد أو قافية واحدة، ولكنه مجموع وجود الإنسان بحضوره البعيد في أغوار النفس وبقضاياه الفكرية التي هي غاية ما وصلت إليه معظم الاجتهادات ليس على مستوى الدين وحده، ولكن على مستوى الفكر أيضا والتصوف بمصطلاحاته كالحلول، ووحدة الوجود، والرؤية، والاتحاد، والحال، وغيرها، كما يلاحظ أنهم استثمروا -إضافة إلى كل ما سبق- أنواع الخطوط في كتابة النص وبنطه المختلف وبهذا لم يدخروا وسعاً في التجريب على فضاء الصفحة واستخدام زواياها استخداما يكسر الرتابة والمألوف أيضاً، إذن هذا النص دعوة يمنية من منبع الحضارات وملتقاها إلى كل الحضارات بأنه لا صدام ولكن استلهام ووفاق واستثمار للمشترك الإنساني وآفاقه المتحققة في الشعر باعتباره الفن الإنساني الذي لا يعرف الحدود، وليس له وطن يُؤطِّرُهُ في رقم وطني ثابت معزول، أو هوية محددة، ولكنه مفتوح على الإنسان ومحلق في الزمكانية المنطلقة به ومعه، ولكن هل يُكتبُ لهذه الدعوة الوصول إلى آفاقها المنشودة أم تذهب كغيرها من الريادات التي لا يُلتفتُ إليها وقتَ انطلاقتها وحين يُؤكدها الغير –قريبا كان هذا الغير أو بعيداً- نهرعُ للدفاع عن ريادتنا والتأكيد على أسبقيتنا، وليست ريادة علي أحمد باكثير في الشعر الحر عنا ببعيد.
   يبدو أن الشعراء بطموحهم هذا –وهو حقهم المشروع- قد التقوا كثيرا، وفكروا طويلا، بل لعلهم قد عقدوا اتفاقاً واضح البنود عند بدء العمل، ثم انطلقوا وفق أسسه المتفق عليها بأنه عليهم الآتي:
أولا: أن يقترح كلُّ واحدٍ في العنوان ثلاثة عناوين: الأول: يرمز إلى المضمون مع ارتباطه بشخصية عَلَمٍ من أعلام الدين (نبي- راهب- قديسة – صالحة...) وقد التزم به الأربعة وبالذات الشاعرتين، مثلا عند أحلام، يأتي العنوان للقصيدة هكذا: (مرافئ اليقطين- ... ثم، يونس) ص14، والواضح الترابط في القصة بين يونس وشجرة اليقطين حين نُبِذَ بِالْعَرَاءِ بعد خروجه من بطن الحوت، وهكذا تمضي العناوين: (أجنحةٌ من قلق- ... ثم، ابنتا شعيب) ص48 عند أميره، وواضح الترابط بين العنوانين المحيل إلى قلق البنتين )حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ(، ويأتي العنوان الوسطي، أي العنوان الثاني مع كل قصيدة: ليمثل لوحة تنسجم بمسمى(لوحة) واحتياجاتها واضح في العنونة بلوازمها من اللون، والريشة، والضوء ...الخ وهي تربط بين العنوان الأول والثالث وتشكل قنطرة دلالية بينهما أي بين العنوان المرتبط باختيار الموضوع لدى الشاعر، وفيه قدر من الحرية في الاختيار، ثم بين العَلَم الذي هو ضيف الحديث وهو المُقَدّس، ومن هنا تقوم اللوحة – العنوان الوسط- بدور الرابط الدلالي بينهما. الثالث: العَلَم التزم به الثلاثة الشعراء: (أحلام، أميرة، حسن) بالعلم الفرد ذكراً كان أو أنثى في حين أتى محمد بالثنائي الذي اشترط له أن يكون أوله من الديانتين المسيحية أو اليهودية نبيا أو راهبا أو صالحا، وثانيه – إسلامي عربي وعلامة الترقيم –الشرطة- ما بينهما فاصل طباعي لكنها إلى المضاف والمضاف إليه أقرب من حيث الدلالة، وهكذا بدت العناوين كالآتي:
1-   (مرافئ اليقطين – ليلى تزمّ ألوان لوحتها إلى يدها / يونس) ص14، الشاعرة أحلام شرف الدين.
2-   (أجنحة من قلق.. – لوحة تحلق بريشتها إلى الوراء / ابنتا شعيب) ص48، الشاعرة أميرة الكولي.
3-   (توحّد أفلاطون بالحلول في فيلسوف يجيء – لوحة آخر الأشباح في رحم المُثُل / عبد الله بن الزبير) ص 108، الشاعر حسن المرتضى.  
4-   (بيد السقا – لوحة جَسَدُ ألوانِها يسري نحو أرواحها / متّى – ابن سينا) ص127، الشاعر محمد الوزير.
   إذن فالعناوين أخذت تشكيلا ثابتا وخاصا بحيث يبدو توصيفها كالآتي: مطلق – مقيد باللوحة واللون مرتبط دلاليا بما قبله وما بعده- عَلَم (مطلق ومقيد في ذات الوقت؛ مطلق في اختياره ذكرا أو أنثى، ومقيد بالعنوان الأول بالعامل المشترك بينهما)، ويظهر في هذه العناوين فكرة الانزياح في أدوار الأنبياء ووظائفهم ورموز قصصهم بمفرداتها الثابتة والخاصة بقصة كل نبي حيث يغدو القميص – مثلا- في قصة يوسف عليه السلام كتيمة خاصة به وأداة معبرة عن أحداث: الموت: جاؤوا على قميصه بدم كذب، ثم الإغراء: إن كان قميصه قُد من قبل، ثم البشارة: فألقوه على وجهه يرتد بصيرا، هذا القميص نجده في دلالات توظيفية أخرى مع إبراهيم في النار ومع أيوب في مرضه وغيرهما، كما تنتقل خصوصيات كل نبي إلى غيره في قصائد الشعراء.
  أضف إلى ما سبق من قصدٍ في توظيف عناوين القصائد بعناية شديدة ما وضعه الشعراء من العتبة الأولى في عناوين الدواوين حيث نلاحظ أنها جرت بترتيب ثابت ومحدد لتبدو على النحو الآتي:
-     حائط السياج في: (ترنيمة تداعب المساء) لكناري السلام أحلام شرف الدين.
-     رواقُ سليمان في: (مسيّجة بموائد النار) للمجدلية أميرة شايف الكولي.
-     مذود القرابين في: (رواق جُلجلة المجيء) للمصلوب حسن شرف الدين.
-     قبة الهيكل في: (الروضة الخابية) لمريد الفتوح محمد عبد القدوس الوزير.
في العناوين يبدو الدال المكاني واضح في الـ(حائط، رواق، مذود، قُبة) وهو المضاف والمضاف إليه القادم من المقدس الموروث الثابت المختلف الديانات من القرابين، وهي التي تذهب بعيدا في دلالاتها المقدسة حتى ما قبل الأديان الثلاثة الأخيرة، ثم يأتي السياج والهيكل ليعبر كل منهما عن ديانتين مختلفتين، ويأتي سليمان كمصدر أقدم ونبي آتاه الله من الملك ما لا ينبغي لأحد من بعده، ثم تأتي (في) حرف الجر الرابط ليتكرر في الأربعة العناوين، ولكنه في الداخل مع بداية كل ديوان يستبدل بمفردة أخرى هي (مزمور) وهذا تغيير في العنونة لصالح البناء الشكلي ليؤكد الإمعان في تقليد الكتاب المقدس واستخدام مفرداته ورموزه الدينية، كما نلاحظ الترتيب المقصود في العنوان الوسط الموضوع بين القوسين (ترنيمة تداعب المساء، والروضة الخابية) إنهما لصاحبي لقب: كناري السلام، ومريد الفتوح، وهذان اللقبان يحيلان إلى أفق إسلامي، في حين أن العنوانين الآخرين (مُسيجة بموائد النار، ورواق جلجلة المجيء) يُحيلان إلى أفق مسيحي بأحداثهما ودلالاتهما الثابتة في الكتاب المقدس، وبألقاب أصحابها أيضاً: المجدلية، والمصلوب.
   يدعم هذا التصنيف في العنوان الخارجي ما يأتي بعده في التعريف بالشعراء، وسيرتهم الذاتية التي تبدأ بطريقة واضحة الاتفاق والإخراج وتتأكد فيها فكرة التعميد، والتكريز وهي(بمعنى التعميد، كما يعرفها المسرد في الختام: ص145)، حيث يبدأ كل شاعر سيرته الذاتية بما يرتبط مع عنوان مزموره/ ديوانه : "أكرّز بماء حرقتي عن واقعي المسيّج" (المجدلية) وهي صاحبة إنجيل (مسيجة بموائد النار)، أما ارتباط التعريف الشخصي بالحبر، والنسخ، والذات في التعميد الذي سيكون النص بعده تعريفا بصاحبه وتعميداً له كعضو في المدرسة الجديدة (مدرسة التعميدة)، فيظهر لدى بقية الشعراء على التوالي: "تعميدٌ للذات بحبر من الواقع" (كناري السلام)، "التجديف الحلال عن الذات" (المصلوب)، "أنسخ روحي إلى حبر يطوّبها على ورق الحياة" (مريد الفتوح).
 لعل ذلك كان البند الأول في مسيرتهم الشعرية داخل هذه المجموعة /الورشة الشعرية فاتفقوا عليها وطبقوها تماما، ثم يأتي البند الثاني الاتفاقي بأن على كل واحد منهم:
ثانياً:  أن يكتب اثنتي عشرة قصيدة = الحواريين الاثني عشر لدى المسيح (تلاميذه قبل العشاء الأخير).
   ثالثاً: في كل القصائد يجب أن تحتوي على التعميدة في تشكيلهم للقصائد بأن تكون عمودية خليلية، ونثرية (قصيدة نثر)، وعمودية خارجة عن وزن الخليل، مع الاهتمام بتوحيد وتثبيت القافية غالبا وليس دائما، أو باللعب بالقوافي وتشكيلاتها، ويحسب للشعراء الأربعة تمكنهم من العمود والقدرة الفائقة على النظم به، وكذلك على الخروج عليه بمقلوب البحور وتكوينات خاصة بتوليفات جديدة، ثم تأتي قفلة (الختام)، وهذه القفلة النهائية قد اهتموا بها اهتمامهم بالعنونة بحيث يمكن رصدها كالآتي: بأن تكون وفق الأوزان المحددة بما يأتي:
  1. مستفعلن فعولْ: (رُجُوعهُ عَقيمْ)، توليفة غير خليلية مجزوءة، لدى أحلام وتلتزم بها حتى النهاية  أي 12 مرة.
  2. متفاعلن، متفاعلن، متفاعلن – مرتين-:
(يا ضدّ مرّ بجانبي عامٌ أسيرٌ أقلق الأحلامَ والأقمارا)، بحر الكامل التام-بما قد يعتريه من زحاف الإضمار- خليلي، لدى أميرة، وتمضي بها وكأنها قصيدة مفرَّقَة على الختام في اثني عشر بيتاً.
  1. فاعلن فاعلاتن + فاعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلان + فاعلن مستفعلن مستفعلن: (لستِ بنتَ الهروبِ  واجهي ولتقطعي أيديْ لقيطٍ في القماطِ المُستبيحْ   كيْ تنامَ الأرضُ في صَدرِ المسا) توليفة غير خليلية، ولكن فيها نكهة الموروث الحميني الخاص بالشعر اليمني الذي يعطيه تأصيلا وعمقا يفتح به على أفق المكان المنطلقة منه التجربة ومدرسة التعميدة، هذا يميز حسن المرتضي بخروجه المحسوب.
ومن الملاحظ أن هذه التقفيلة مع الشعراء الثلاثة ترتبط بوزن أول قصيدة في إنجيل/ديوان كل واحدٍ منهم، فكأنها نغمة لازمة تربط نهاية كل قصيدة بما يحيل إلى المطلع الأول، وهذا تقليدٌ جديد ترسمه هذه المجموعة، فتخرج عن نهايات القصيدة المدورة أو قصيدة التفعيلة التي كانت تنتهي بقافية واحدة ذات وزن مكرر مثلاً، ولكنها هنا لم تعد كلمةً، بل أصبحت شطراً، أو شطرين، أو ثلاثة وعلى التوالي بهذا الترتيب، لدى أحلام، وأميرة، وحسن، وهذه التقفيلة للتعميدة الواحدة - أي القصيدة كما تعرف من قبل، خارج هذه الأناجيل – تكون في معناها أشبه بالخلاصة لما قبلها مضموناً وموضوعا.
  1. الرابع محمد عبد القدوس الوزير لم يلتزم بذلك المخرج، (القفلة) وإن كان أكثر التزاما من رفاقه في اللعب مع العروض وبه في بناء قصائده (انظر مثلاً: ص118 كيف يبني الأسطر الشعرية بتفعيلة ثم تفعيلتين، فثلاث، ... حتى ست تفعيلات، ثم يعود من جديد حتى تفعيلة واحدة) كما في هذا المثال:
يا جميلهْ
مؤنث اليوم ليلهْ
هل أدركتْ بنتُ الهوى عن (دليلهْ)؟
ريش السما برأسه والنتفُ لا شك غيلهْ
هدّتْ دعاوى قلبها ... فما الذي تجيدُهُ من وسيلهْ
إن لم تحلق في منامات الْمُنى عيونها، ما ثم عينٌ كحيلهْ
إن لم توار سوءة الأحلام في أحداقها ترنو ستار القبيله
أو تخصف الريش المواري عارها أو كفنتها الفضيله
معي (وشاحٌ أخضر) غطّى الثواني الرذيله
فالحبّ محفوظ بأيدٍ نبيله
له دروبٌ أصيله
يا جميله" ص118.
   هذه البنود السابقة وَقَّعَ عليها الشعراء الأربعة قبل الانطلاق في العمل، وربما أنها قد تكونت معهم أثناء اللعب الشعري عالي المستوى أو ربما – وهذا احتمال أقل- بعدَهُ عند التشكيل النهائي لأنه في بعض القصائد يبدو أن ثمة نوع من الصنعة المتكلفة في مثل اجتزاء أبيات من القصيدة ووضع النثرية بينها ومن خلالها وهكذا، ولكن على الجملة قد أتوا مبشرين بمدرسة جديدة، واسْتَحْلَوا مع بعضهم مشروعا ينطلقون به إلى القارئ النوعي، ويخرجون به من المألوف المكرر إلى المختلف الغريب، ومن العادي إلى التجديد والتجريب الذي هو من حقهم كما يقول عنه د. عبد العزيز المقالح في تقديمه بأنهم "يحلموا بإنشاء (سفر تكوين) شعري جديد يقوم على استخدام كل الأشكال الشعرية، من النظام العمودي إلى نظام التفعيلة وحتى قصيدة النثر، فالإبداع الحقيقي أكبر من الشكل" وهذا صحيح ومن حقهم ولكن من حقنا أن نسأل السؤال النقدي هل تجاوز هؤلاء الحالمون الشكل، وهل انطلقوا بالمضمون كما انطلقوا بالشكل؟ لا خلاف أن تأسيس مدرسةٍ –كمشروع كبير- يحتاجُ إلى المثابرة والصبر والاستمرار مع تباشير القدرة وأفقها الذي ظهرت معالِمُه في هذه البداية التي لابد أن تُكَرَّسَ حتى تتضح، وتُخْدَمَ حتى تبقى، وتُثَبَّتَ بالقراءة الدائمة والعمل الإبداعي الجاد.
   لا شك أن هناك تجارب عربية سابقة قد رجع إليها شعراء أناجيل وأفادوا منها وهي كثيرة ولعل منها ديوان "مواكب" لجبران خليل جبران، وكذلك شعر الدكتور عبد العزيز المقالح كما في قصيدة "هوامش يمانية على تغريبة ابن زريق البغدادي" وكثيرة هي تجارب الشعراء المعاصرين من الرواد الكبار أمثال: صلاح عبد الصبور، والسياب، والبياتي، ودرويش، وأدونيس، وغيرهم، ومما هو واضح في دواوين الشعراء العرب، وفيها جميعا هاجسُ التجديد ونداءُ كَسْرِ رتابة الوزن والمزاوجة بين العمود والتفعيلة والتخلص من قيد الإيقاع والقافية الواحدة وخلافها من القيود البنائية، وكذلك التجريب على الشكل واستخدام فضاء الورقة، ولكنَّ شعراءنا الأربعة قد استفادوا من كل ذلك، وأضافوا إليه قصيدة النثر كوليد معاصر مراوغ جميل، وكذا لم ينسوا الاستفادة من الشكل الشعري الشعبي (الحُمَيْنِيّ)، ولعلّهم قد وَقَعُوا فيما حاولوا الهروب منه حيث أصبحت قصائدهم –إلى حدٍّ ما - أكثر قيدا وتَقَيُّدَا بالشكل وبالتشكيلات الهندسية، ومن أمثلتها: "نبوءة ساعة الرمل لوحة نشرتها ويكليكس عن شوذب ومريانة   صاحب الزنج" ص 90 لحسن المرتضي، التي بناها على شكل الساعة الرملية تماما،

 
متى يرفعُ الضوء كفّ الرمال لتعصرَ نهدَ السماءْ
وكيف يجولُ الضياءُ على حَلَمات المساءْ
وأينَ ستمضي به الريحُ؟ هل للوراءْ؟
إلى وجهةٍ ضاجعتْ في الخفاءْ
بقلبِ فتاها الشتاءْ
ولا من رِداءْ
فَضَاءْ
تمل نوافذها الليل .. كبت الستائر.. قمع الحياء
ضفائرها تثقب الغيم .. أرجلها في أواني الدماء
يداها تعلق فوق شتات وكل الجهـــــــات خواء
أمصلوبة من مسيح أصُلابها كلــــــــــهم أنبياء
أتوراتها آية لا تنادي سوى غائب في حـــــراء
بمنديلها اليأس فوق المدامع من كربات تضم البلاء
وإنجيلها آهةٌ تنـــــــــحت الصخر قلباً فكيف النداء:
نِداءْ
إليهِ النداءْ
وقد جفّ حلقُ الدعاء
فمِنْ راضعٍ أُمنياتِ الهباءْ
لمنتظرٍ أن يجيءَ على الكبرياءْ
وإنّي انتظرتُ وما ذَكَرٌ بالنبوءةِ جاءْ؟
فهلْ يرسلُ الغيبُ انثى لترضعنا لحظةً من رخاء!!

وقد التزم الشعراء العدد (7) في بعض الأبيات – وله بُعدٌ دلالي ديني: كالسبع المثاني، السبع السموات، والأرضين السبع، وأبواب الجنة والنار السبعة...الخ؛ و للرقم ذاته سرٌّ خاص في الموروث الشعبي- ومن هنا يأتي توظيفه كما في قصيدة (موعد شبه غرامي مع..) للمرتضى، ص 99، وكذا ظهور عدد من الحوارات بين هو وهي تلتزم قافية واحدة مثل: (نعسانا – مولانا ...الخ) ص 102 وما عداها، القافية موحدة الروي والتغيير يلزم الوزن في عدد تفعيلاته واختلاف أشطرها ويظل بناؤها الهرمي لا يتجاوز الـسبعة أبيات، وهي كذلك لدى محمد عبد القدوس في قصيدة "فيض الأماني..." ص119، وقصيدة "مشتهى زهرة..." ص 124 وما بعدها، وغير ذلك من القصائد الملتزمة عددا معينا من الأبيات عند الشعراء الأربعة، كما يمكننا أن نقرأ قصيدة (غرام نقبشندي) لمحمد عبد القدوس ص 134، بشكلها المرسوم بأشطرها الثلاثة أفقيا، ولن يتعذر علينا أن نقرأ كل عمود منفصلا عن غيره ومستقلا عنه، وهذا فيه قدر واضح من الصنعة المدهشة التي قد تجعلنا نشكر صاحبها ونحمد له أن داخل بين الفنون وجعلنا نرى المعمار الصنعاني –مثلا- في القصيدة بأدوارها وطوابقها المرتفعة وصولا إلى أعلى غرفة فيها وهي المنظرة (الطيرمانة) كما في قصيدة (جلجلة مغايرة ليحيى بن زكريا) لحسن المرتضى، ص 106، حيث نلاحظ أن الأبيات بثنائيتها الأفقية الأسطر، والأخرى الأُحادية؛ إنما هي لَبِناتٌ تشكّلُ قوالب البناء المعماري، ومثلها الزخرفة بالآجور في بناء قصيدة "أويس يستفتي أبا موسى الأشعري..." وواضح من العنوان خصوصية المكان وروحه وتعالقه الدلالي بتشكيل القصيدة، ثم العنوان الثاني "لوحة تزحف الألوان بعضها فوق بعض... مَن آمن من سحرة موسى" ص 87، ولا شك أنه من السحر الحلال، وهذه واحدة من إدهاشات التشكيل في مجموعة أناجيل، ولكن ربما أن هذه القيود قد تعيق التجربة الأناجيلية وتعيدنا إلى عصور الزخرفة البنائية واللعب مع اللغة وبها لبيان التمكن من اللسان العربي مع فارق أننا لا نقرؤها من الأمام إلى الخلف والعكس، ولعل شعراءنا في إصدارهم القادم يتجاوزون هذه القيود الشكلية لينطلقوا في تجربتهم الشعرية المتميزة بلغتها وأفكارها وثقافتها التجديدية.
   الحديث قد يطول ونحن في مقام الترحيب بهذه المجموعة وشعرائها، ولكننا نصل إلى استخلاص أوحت به القراءة الأولى في عمل الشعراء الأربعة وهو أن التشكيل بحرفيته المنضبطة فيما قد افترضناه اتفاقا بين الشعراء قد توازن فيه الشكل مع المضمون إلى حدٍّ بعيد لدى الشاعرتين: أحلام شرف الدين، وأميرة الكولي، في حين يزداد حضور المضمون وغلبة التمرد على الاتفاقات في صالح الشعرية مع الحركة الحرة داخل الشكل -لكنها لا تعيق- لدى حسن المرتضى، كما سيطر الاهتمام بالشكل وقوالب العروض على حساب المضمون عند محمد عبد القدوس، ولكنهم جميعاً بعملهم هذا قد جعلونا نقف على ظاهرة شعرية جديدة قديمة، مدهشة صادمة محيرة تحتاج إلى الكثير من التأني في الحكم عليها، وإعطائها الفرصة الأكبر للنضج كمدرسة تتطلب جهدا أعمق، واستمرارية أطول حتى تشبَّ عن الطوق وتُعَبِّر عن وجودها وتَعْبُر لتقول: أنا جيلٌ شعري مختلف أُقدِّمُ نفسي في هذه الـ أناجيل التي تحتوي على (تلاقح ذهني) ندر وجوده في زمن الأنا والأنانية، و(تنافس إبداعي) مشروع متاح داخل الفريق، و(حضور شعري شخصي) واضح عند كل شاعر يميزه ويتميز به، لذا يظهر التفرد في التنوع، وتعدد الأدوار واختلافها داخل المشروع الواحد، ولعلَّ ذلك سِرٌّ من أسرار كينونته المتماسكة والتي لا شك أنها أفادت التجربة وأثرتها.
  

     شكرا للشعراء الأربعة رهبان الحرف القادم ومتصوفة الشعر الحالم الصادم في معبد الإبداع الإنساني نقدم لهم صلوات أمانينا وتبتلات قراءاتنا.   



نشرت القراءة  في مجلة غيمان، (مجلة فصلية تعنى بالكتابة الجديدة)، العدد 14، شتاء 2012م، توصيف المجلة: الإشراف العام:  أ.د/ عبدالعزيز المقالح، رئيس التحرير: د.همدان زيد دماج، مدير التحرير: علي المقري، هيئة التحرير: د.حاتم الصكر، د.علي الحضرمي، محمد عبد السلام منصور، جمال جبران)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

كتاب (الإعلان بنعم الله الواهب الكريم المنان...) كتابٌ يمنيٌّ فريدٌ ومدهشٌ يضمُّ ستة كتب في الصفحة الواحدة

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)