بوح الريشة بالشعر
عناق الصورة للكلمة؛ بوح الريشة بالشعر
(قراءة في نصوص "عودة جلجامش المنتظر"
المعرض السادس للفنان الأديب سمير مجيد البياتي)
د/ إبراهيم أبو طالب
29 أغسطس 2012م
جرت العادة أن معارض الفنون التشكيلية تنفرد
باللوحة، وتستأثر باللون والرسم وخطوط التعبير بمدارسه المختلفة، وفلسفاته
المتعددة، وبالتأكيد بطرائق مواده التي منها تتشكل اللوحة أو ترسم بها، وعليها من
قماش وورق والواح وجدران صلبة ومرنة وغيرها ثم بما ترسم به من مواد حبرية أو زيتية
أو سائلة أو صلبة وغيرها، ولعلّ من النادر أن يأتي المعرض بين دفتي كتاب مطبوع تقترن
فيه الكلمة باللوحة والعبارة بأفق التشكيل واللون، وهذا ما طالعنا به بعد صبر وجهد
وعناية وإصرار واضح ظهر في العمل المتميز والإصدار الفني المدهش للفنان التشكيلي
الأديب سمير مجيد البياتي في نصوصه التي عانقت فيها الكلمة الريشة وسافرتا معاً في
فضاء الإبداع فكان عمله المختلف (عودة جلجامش المنتظر)، صنعاء، أغسطس، 2012م.
ومن العنوان
ندرك هذا الأفق التناصّي الواسع الذي يستوقفنا كثيراً لندرك مصدر ثقافة هذا الفنان
القادم من حاضرة الدنيا، وقصبة الحضارات منذُ آشور، وآكاد وبابل مروراً بعاصمة
الخلافة الإسلامية، عاصمة الشعر والأدب والفنون بأنواعها الفياضة إنها بلا شك
العراق وبالتحديد بغداد تلك الملْهَمة، والمُلْهِمة لكل الفنون، الحاضنة لجلّ
الإبداعات التي أدهشتْ المدنيّة في مختلف أصقاعها وعلى امتداد عصورها.
إذن هاهي
العتبة الأولى تستوقفنا لتنفتح على حضارتين متعاقبتين أو إن شئت فقل: على حضارات
متعاقبة حضارة آشورية آكادية يفتح آفاقها (جلجامش) بطل وصانع الأسطورة العظيمة في
دلالاتها وإنسانيتها، ثم حضارة إسلامية يفتح آفاقها (المنتظر) الذي بلا شك ينصرف
فيه الخاطر والقارئ والمدلول إلى المهدي المنتظر بمحمولاته الدلالية في الوجدان
الديني والشعبي في آن، يمزج الأديب الفنان البياتي بينهما لأن المصدر الإنساني
واحد، وإن اختلفت أرضية الفكر باختلاف الزمان والمنبع، ثم إن ما يربط بينهما هو
فكرة (العودة) التي هي طموح كل مغترب عن المكان وعن الذات، وهذه العودة المنتظرة
مبتغى كل فاقد لعزيز لديه وغال عليه، بل إنه يستدعي بعد هذا المدخل فلسفة العودة
ومبررات الاغتراب والغياب، إذن لا شك أن وراء هذه البداية الكثير من الرؤى والأشجان والشؤون
التي ظهرت في عموم هذا العمل المتميز بما يحمله من لوحات بلغ عددها الإحدى
والسبعين (71) لوحةً هي مكوّنُ هذا المعرض السادس مع تعانقها لواحد وأربعين (41)
نصاً يقتربُ كثيراً من لغة الشعر وبالأخص شعر الصورة (قصيدة النثر) بأشجانه
وبلاغاته ورؤاه الجمالية إنه نسيجٌ محكمٌ متناغمٌ بين الحرف والتشكيل لا تملُّ
العينُ من تأمل كلماته كما لا تملّ من التنزه بين لوحاته بألوانها ورسومها التي نُظِّمَتْ
بعناية شديدة بيد فنان متجدد يستثمر كلّ شيء في فضاء الصفحة وخطوط كتابتها التي
تظهر جلية مع كل فصل من فصول الديوان أو مع كل قسم من أقسامه الخمسة الموزعة على
عناوين دالة هي: (زهو العراق – القوة والسلطة – عبق التاريخ – عراق اليوم –
الأيادي القذرة) حتى العناوين وخطوط الكتابة في كل قسم لا يشبه القسم الآخر، ولا
يوجد في عموم عمل (عودة جلجامش المنتظر) أي تناظر أو تكرار في الموضوع أو الشكل أو
اللوحات بل يسعى الفنان فيه إلى وضع بصمته المختلفة والمتميزة على كلّ صفحة، ولم
يكتف بذلك، وهو كثير، بل إن هناك تسعة عشر شكلا هندسياً في نهايات القصائد والفصول
استثمر فيها الفنان إمكانات الكمبيوتر بأشكاله المعبرة وأيقوناته المختلفة ذات
الدلالات الإيحائية.
إذن نحن أمام
معرض شامل بلوحاته المنتقاة المعبرة عن محتوى نصوصه بما لا يفصل بينهما في التناغم
واستكمال الفكرة للنص فمنها ما تعبر عنه الكلمة إن قصّر التشكيل واللون، ومنها ما
يضيفه اللون والتشكيل إن أحس الأديب بقصور في الكلمات، وبكليهما أي بالحرف واللون،
أو بالشكل والقول أكمل الأديب الفنان أو الفنان الأديب تعبيراته وأوصل رسالته
واضحة غير منقوصة.
وإذا ما استوقَفَنَا
المضمون في عموم العمل سنجد أننا نحتاج إلى قراءة نقدية خاصة تتناسب مع هذا النوع
من الإصدارات المختلفة التي تجمع بين أكثر من فن في نسيج واحد، وبين دفتي كتاب،
ومن غير شك فإن ذلك يتطلب جهدا كبيرا غير أن وقفتنا القرائية هذه ستكتفي بالوقوف
على المضمون مع الإشارة ما أمكن إلى بعض تناغماته مع لوحاته، وهو في المجمل متناغم
كسيمفونية عذبة متساوية، تشتاق العين كشوق الروح للتنزه في آفاقه وجنباته الندية
بعوالمه المتداخلة.
لعلّ ما يربط
بين نصوص العمل جميعاً -النصوص المكتوبة، والنصوص المرسومة- هو تلك الثنائيات
الضدية التي لم يخرج عنها العمل في روحه المُعَبَّر عنها بالريشة والحرف إنها
ثنائية: الغياب والحضور، القديم والحاضر، الموت والحياة، الوفاء والخيانة، ثم
أخيرا ثنائية الخير والشر، والقوة والضعف.
وقد وضع
الفنان سمير البياتي عناوينه بذكاء وكتب نصوصه بدم القلب وصدق المشاعر وخبرة
التجربة الحياتية، فحين يبدأ بـ (زهو العراق) فإنه يجعل ذلك الزهو في مفردتي أو
دالتي: الإنسان، والمكان، ويظهر ذلك جلياً في عناوين نصوصه بشخصياته العامة (بدر شاكر
السياب، وعبد الوهاب البياتي...) وبشخصياته البسيطة (العمة شمسية)، إذن فالزهو
يكون بالشاعر المفكر النقي كما يكون بالمرأة الصادقة الإنسانية التي هي رمز لكل
أمٍّ، لكلِّ عراقية نقية معطاء نُحِبُّها لتضحيتها لإنسانيتها التي تغمر الجميع،
ثم إنه يختم هذا الباب بصورتها التي تحمل ملامح امرأة حنونة صارمة طموحة تبدو
بطرحتها العراقية الغائرة في فولكلورها المستقر في الوجدان الشعبي، ثم يأتي الزهو
في طرفه الآخر أو في جزئه المقابل للإنسان وهو الزهو بالمكان من خلال (شارع
المتنبي) بما يحتويه من رمزية وعمق تاريخي وثقافي وإبداعي، وبحديقة (الزوراء)
بانفتاحها على الطبيعة والمحبة والجمال والأمان، و(حديثة) بنواعيرها ومساقيها
وجوها الساحر البديع، وأخيرًا بـ (مدينة الثورة) بأجوائها وبحضورها في وجدان
الشاعر الفنان وذاكرته، وهو لا ينظر إلى الأسماء بقدر اهتمامه بالجوهر والكينونة:
"مدينة الثورة، مدينة صدام، مدينة الصدر، سمّها ما
شئت إنها المدينة الوحيدة في تاريخ المدن التي تغير اسمها كرداء تلبسه لمن تحبُّ،
وتخلعه إذا كرهته، أو تحرقه.." ص53.
إنها التفاتةٌ
ذكية، وتجسيد لألم حاصل في تغيير الأحوال وتغيّر المسميات بسبب طوارئ السياسة
ومتاهاتها، ولكنه مع ألمه على هذا الصنيع يعرف ما توحيه إليه المدينة من الثبات في
جوهرها، وإن اختلف رداؤها وتغيرت مسمياتُها كحال مفروضة عليها تضطرها إلى ذلك
الصنيع كما اضطرت الكثير من الناس والأحزاب وغيرهما إلى تغيير أسمائهم كما يغيرون
ملابسهم وليس الاسم إلا مؤشراً للتغيير وقبول التلوّن مع كل ميلان للريح، أو هبوب
للأهواء، وهذا يقود إلى رابط آخر يظهره الفصل الذي يليه بأن ما يحدث للعراق هو
بسبب القوة والسلطة، والصراع الدائر بينهما، ولكن الأديب التشكيلي البياتي سيتناول
في هذا الفصل أو القسم من خلال أربعة نصوص هي ( ندقُّ رأسك – من أين وإلى أين –
ملتحق للمعسكر في منصورية الجبل – إطلاقات نارية) يتناول تجربة شخصية عاشها الفنان
في مرحلة عمرية معينة طفت بذكرياتها وبخصوصيتها على ذاكرته وسط كل ذلك الانكسار
ومرارة الواقع فظهرت كلحظة استراحة ومتنفس وسط العمل وكأنها استراحة مقاتل سيعود
لخوض غمار الصراع، ومن هنا بدت هذه النصوص المعبرة عن الشباب والالتحاق بالخدمة
العسكرية مختلفة تعبر عن تجربة الذات في مرحلة عمرية لها خصوصيتها في مقابل تذكر
الماضي الذي كانت فيه براءة الاكتشاف وطزاجة التجربة الأولى في عالم مختلف عن
مألوف الذات في مرحلة عمرية آنية، وهنا يظهر المكان من خلال الذاكرة بجمالياته وشقاوة
أفراده ونكتهم وما لاقوه من مفارقات جعلتهم يضحكون، يسترجعها الفنان ليستمتع
للحظات بلذة الذكرى، قبل أن يستأنف رحلة العمل فيتخذ هذا المدخل للماضي القريب
والذكرى طريقاً للولوج إلى الماضي البعيد حيث (عبق التاريخ) الذي يذهب بنصوصه إلى
حضارة العراق ورموزها بقيادة (السندباد البحري) الذي يخاطبه الفنان ويحاوره بل
ويجعله معادلا موضوعيا للذات فينطلق إلى أمجاد غابرة عظيمة برموزها الأسطورية
والتاريخية المتمثلة في [جلجامش العظيم، وبوابة أوروك، وآثار: بابل، وآشور، وسومر،
وآكاد، وشخصيات: خمبابا (المارد حارس الغابة)، وسيدوري (عاملة الحانة الإلهية)،
وعشتار (آلهة الخصب)] وهو رغم هذا التحليق مع تلك الرموز وبها، وفي تلك الأمجاد
وعنها لكنه يُسْقِطُها جميعا على واقع اليوم الواقع الضعيف الذليل المدَمَّر، وكل
نصوصه في العمل تدلّ على أنه لا يدعو للبكاء على الأطلال بمفاخرها ليشعر بالخدر
اللذيذ المتبلّد الذي ذمّه من قبله شاعر اليمن الكبير عبد الله البردوني: بقوله:
فخرنا بالجدود فخر رمادٍ ... صار يزهو
بأنه كان ناراً
ولكنه دوماً
يستنهض الروح العراقية التي تعيش في أبدان أبناء اليوم، وهو في كل نصوص المجموعة
يشغله نداء العودة، وينادي به، ولكنه كلما نادى ازداد بعداً، لأن عشتار لم تعد
بعدُ، وأشباه الرجال يملؤون المكان يقول:
"عشتار؛ يا رمز النساء في أرض بابل؛
اليوم ينحني الرجال قبل النساء
يا مليكتي عودي إلينا عودي
وافرضي جلالك وسلطانك
عشتار الآن فينا الرجال أشباه الرجال يحكمون
إنه مغرق في
واقعيته هذا البياتي الفنان يقوم بإسقاط دائم على واقع معيش، يتخذ من الماضي سبيلا
واضحا إلى الحاضر، ومن عبق التاريخ طريقاً إلى وصف (عراق اليوم)، وفي عراق اليوم
ماذا سنجد؟!
نتساءلُ معه!،
فيجيب بعنوان (بغداد) التي يجعلها الأديب عنواناً للتوصيف والتعبير عن حاضرها
الصادم، فيخاطبها قائلا:
"كبلوكِ من كل حدبٍ وصوب،
ازدادت طوابير الأموات
ازداد الثكالى والأرامل
وازداد السفاحون الأوغاد..." ص99.
كل ذلك لأنهم
أبطال مِنْ وَهْمٍ تظهر دعاواهم الكاذبة فيما تبينه النصوص المتلاحقة في هذا الفصل
من العمل/المعرض، في نصوص: (العرش – هكذا قالوا – اللعبة – الحجاج ... وغيرها)
لكنهم مهما تمادوا لن يفلتوا من وعد الشعب الذي إذا غضب "يكسر، يسحق، يمحو، يزلزل العروش..."، ويضرب لذلك أمثلة معاصرة معاشة في اللحظة الراهنة
قائلاً: "فاسألوا بن
علي، واسألوا مباركاً، وشاهدوا معمّرا..." ص108. ولكي يوضح ذلك أكثر يستدعي كلَّ رموز اللعبة السياسية،
باستحضار الحجاج الذي "تزوّج آلاف النساء، وأنجب آلاف الحجاجين.." إنه
استنساخٌ واضحٌ وأزلي للظلم والطغيان في كل عصر وحال، ويمضي الأديب في صراعه مع
السؤال عن الطريق، عن العودة مستنهضا الوطن مخاطباً إياه بمرارة (متى تستيقظ؟!1 )
ثم يردفه بنص/ سؤال (متى تستيقظ؟! 2)، ويمضي (يقرع الأبواب) بتكرار السؤال،
والحديث عن (الطيور المهاجرة) التي لم تجد لها موطناً في وطنها، ولا مقراً في
دارها، فهاجرت ولكن ما أفظع ما ستلاقيه من صورة مأساوية حين لا تَسْلَمُ، وهي في
هجرتها الاضطرارية وفي الفضاء الواسع يلاحقها الموت ويطاردها الدمار:
"تبادُ كلُّ الطيورِ المهاجرة، ويتطاير ريشها في
السماء، وتتبعثر إلى أشلاء
رأسٌ هنا، وجناحٌ هناك، منقارٌ يحمل غصن الزيتون، وآخر
حبةِ قمح..."ص 136.
يا لها من
صورة مؤلمة ويا له من وصّافٍ رسام، ثم يأتي آخر فصول المعرض/الديوان،
واللوحة/الكلمة في (الأيادي القذرة)، وتشير الأصابع فيما تشير إلى الأخ الشقيق
وإلى القريب قبل الغريب في عناوين نصوص الفصل المليئة بالـ (قتل – حاورت خنجرا –
كل الموازين مقلوبة – بطولات إسلامية معاصرة – وصندوق النفايات...) ولا يخفى ما تحمله من رموز واضحة حين يغدو الوطن صندوقاً
يجمع كل نفايات البؤس والألم والقتل والشر والظلم في هذا الوطن الذي فيه (قيدوا الشارع بـ"فيزة" مرور،
حجزوا الأرض عن الأرض
جعلوا الحارة تقتلُ الأخرى، أخلوا التفرقة بيننا...) ص
160.
إنه توصيف
دقيق ومؤلم لعراق اليوم، ثم يأتي العتاب الموجه إلى الأخوة الأعزاء جدا، حين
يخاطبهم بهذه اللغة المتهدجة الحزينة فيقول:
"كم تمنينا
أن تكونوا عوناً لنا في محنتنا أن تكونوا سنداً لنا في مصيبتنا، أن تمسحوا دموع
أطفالنا ونسائنا، أن تطعموا أفواهنا التي جاعت، أن توقفوا نزيف الدم الذي سال بيد
أعدائنا، وللأسف كنتم أنتم من جعلتموه شلالاً.. بل وقفتم كقاتل يذبح المقتول،
وزدتم بطعنة فوق طعنة.."ص164.
وهو عتاب يقطر
ألماً ويدمي القلب جِراحاً، ولكنه كان سيجدي لو كان من يناديه الأديب حيّاً، ولكن
لا حياة لمن ينادي، فالكل لا إرادة له، ولكنه عتاب مكلوم وخطاب مقهور لا نملكُ إلا
احترامه وضم أصواتنا إلى صوته لعلّ ثمة سامع يجيب ولو بعد حين.
ثم يختم
المعرض الأدبي الفني بنهاية صادمة مأساوية في آخر نصوص العمل، ويأتي بعنوان مفارق
هو (مبروك) يتضمن حلماً قديماً متجدداً كان يريد – كما يريد غيره- تحقيقه على أرض
الوطن مع حبيبته، وها هو يمسك بلحظةٍ معينة في الذاكرة وفي الزمن في آن واحد، وهو
في ذات اللحظة لا يملك إلا أن يجاهر هذا الحلم بواقع مرير يأتي كصوت القنبلة التي
تفجره "فينزف الدم من شفتيه، وسأل وهو يريد
أن يقول لها جملته الأخيرة ذلك الفستـ......"ص170.
إنها لحظة
مريعة وختام ليس لمعرض فني أو ديوان شعر فحسب بل يتجاوزه للحظة فنية تصويرية
سينمائية لواقع رهيب في لحظة فارقة بين الموت والحياة بين الحلم واليأس، بينه
وبينها، ثم بين الوطن والمهجر، بين الذات والآخر، إنها لحظة فنية بامتياز تقف بنا
على أفق غائم واقعي فيه الكثير من نداءات التأمل، ووقفة ختام لا يمتلك إيقاف الزمن
عندها وعليها سوى فنان متمكن يؤطِّرُ بعمله الزمن، ويعبر عن واقعٍ نَقَلَهُ من
فضاء اللانهاية إلى تجميد اللحظة وتصوير النهاية.
تعليقات
إرسال تعليق