اجتراح الممنوع، وتأصيل ثقافة الوحدة في «مصحف أحمر»
٩ نيسان (أبريل) ٢٠١٢
(مصحف أحمر) واحدةٌ من أهم الروايات
اليمنية الصادرة في نهاية العقد الأول الألفيني (2010م)، وقد أحدثت الكثير
من الجدل عند مولدها، وارتاب فيها من لا يعتمد القراءة سبيلا للتمييز بين
ما هو أدبي وما هو غير أدبي، ممن يكتفي بالوقوف على العتبات من عناوين،
وصور الغلافات الخارجية، فحيرتهم التسمية في كونه (مصحف)، وأحمر؟!، ورغم أن
العتبات عند النقاد ذات أهمية قصوى في الولوج إلى فهم النصوص إلا أنها لا
تهتم بما يهتم به المستريب ممن نصّب نفسه شرطيا ذهنيا على عقول البشر في
زمن انفتح على كلّ شيء، ولم يعد من عمل للرقيب، سوى فتل الشارب ورثاء الزمن
العتيق الذي كان يحمل فيه قفلا صدئا لا معنى له اليوم في عالم متغير
متسارع لا قيد فيه سوى الانفتاح على كل شيء في عالم الفن والجمال والفكر
والاكتشاف، ومن هنا مرت الرواية بلفحة في البدايات للمنع والتأخير المؤقت
قبل جواز المرور الأخير.
ولكن ترى هل ما يزال مشرط الرقيب قادراً على إيقاف سيلان الضوء، وطوفان الفكر؟!
إذن فما الذي تحمله رواية مصحف أحمر بين دفتيها؟ وهل تُعدّ من
الروايات الممنوعة؟!
ربما قد يكون السؤال صادما ومتناقضا مع البداية، ولكن في واقع الأمر إن
الرواية قد حلَّقتْ على مقربة من الممنوعات الثلاثة: (الدين، والسياسة،
والجنس) في عُرف العادات المجتمعية المتمسكة بكل قديم لمجرد قدمه، ولعلنا
سنسأل السؤال بطريقة أخرى فنقول: كيف حلّق الغربي عمران في مصحفه الأحمر
على مقربة من المحظورات؟، وكيف تعامل معها جميعا في رواية واحدة؟!
لعلّ الأدب في حقيقة جوهره هو إعادة تأثيث للعالم، وهو خلقٌ لعالم
مختلف، وإذا لم يكن كذلك فلا ماهية له، ولا وظيفة، ولا وجود، ومن هنا لا
بدَّ أن نتعامل مع النص المختلف الذي قد يبدو للمألوف أنه خارجٌ، في حين أن
الواقع الأدبي لا يقبل إلا هذا المختلف الخارج، ومن هنا فإن رواية (مصحف
أحمر) ليست مجرد رواية وإن كانت مكتملة الشروط السردية، ولكنها أكبر من
ذلك، فهي دفقة ذهنية وإبداعية لفضح وتشريح واقع التخلف وعوامل الرتابة التي
وضعها المجتمع المتأخر في صندوق أسود مخيف، ومنع العقل البسيط من الاقتراب
منها، لأغراض أقل ما يمكن وصفها بأنها غير شريفة ولا بريئة، ولذلك فإن
الرواية قَطَعتْ على نفسها منذ البداية أن تكون تنويرية تحترم الدين إلى
أقصى حدوده النقية، وتحاور السلطة في إعادتها إلى جادة الصواب حين تشطح بها
الرغبات، والصوت المنفرد، وتتفهم النفس والطبيعة البشرية في إطار البراءة،
وطبيعة الخلق.
ومن هنا نفهم كيف تناولت الرواية الموضوع الأول: (الدين) من خلال
نموذج المصحف الأحمر– وهو الذي يحمل عنوانها، ولعله التيمة التي تشغل الحيز
الأكبر على المستوى التفكيري للرواية، ويمثل العتبة الأولى لمبتدأ خبره
الرواية، وخبره الثاني الموازي هو (السياسة)، ولكن من خلال موضوع حيوي في
حياة اليمني المعاصر وهو (الوحدة).
أما الخبر الثالث: وهو (الجنس) فيأتي مكملاً لنسيج الحكي ليلامس
بمشرطه موضوع المثلية الجنسية، التي تفرد لها الرواية حيزاً بين الشيخ
(مولانا)، و"تبعة" عندما تعرف عليه الأخير، وصحبه في بداية رحلة التيه التي
عاشها، ولكنه بعث فيه معاني الرجولة واكتشاف الذات، وبثَّ فيه الوعي
المبكر بالنضال، ولكنه في تلك الليالي كان يصاب بالحيرة من هذا الشيخ
الجليل المهاب عند الناس، والذي يتحول في الليل إلى ضعيف غريب الأطوار،
فيكتشف تبعة بعد حين نقاط ضعف ذلك الشيخ وسر تلمسه للذة في صبي مراهق تحت
ستار الليل في ركن المسجد مأواهم الوحيد بأن صنيعه ذلك إنما هو ناتج عن سبب
العجز والعَنَانة، حيث يكتشف بنفسه السر فيقول:" رأيته دون عضو"(#). يقابل
ذلك في إطار الموضوع المثلية النسائية في مشهد الحمام عند النساء من خلال
تصوير الرواية لجلسات خاصة، فيها الغناء والرقص وطقوس الحمام، لاكتشاف
طاقات الجسد وأسراره ورغباته المكبوته، وتلعب فيه "شخنما" الدور المتميز
كمعلمة محترفة تفهم تضاريس الجسد وتروض رغباته (#)، وهو من أبرز المشاهد
الدالة على قدرة الكاتب على تصوير المسكوت عنه وتحويله إلى قضية إنسانية في
إطار نفسي وحاجة فيسيولوجية، قد تبدو من الممنوعات ولكنها موجودة ومطلوبة،
لذا كان اجتراحها مكملاً للصورة الفنية والحضور السردي.
وحين نعود إلى ما أسميناه الخبر الأول لعتبة العنوان: ونقصد به
موضوع الدين، فإنه يظهر من خلال ذلك الرمز/ المصحف الأحمر، أي ذي الغلاف
الأحمر اللون، وليس القرآن الأحمر بحسب الترجمة على غلاف الرواية والتي
نتحفظ عليها، لأن الكاتب لم يقصد ما أراده الناشر من هذه الترجمة غير
البريئة أو قُلْ: الترجمة الحرفية ربما لأغراض تسويقية للرواية، فليس في
الرواية من نوازع الإرهاب أو قضاياه ما يحمّل العنوان هذا التأويل، ولكن
القارئ للرواية يعرف أن المراد هو الدعوة للتسامح وأن الدين في مجمله عند
الله واحد والإيمان بالكتب السماوية من أركان الإيمان؛ إذن فلماذا الإقصاء
والتشدد الذي قد يبدو عند بعض المغالين؟!، لأن الرواية من خلال هذا
الرمز-المصحف الأحمر- تجعل الدين في دفتي هذا الكتاب الذي يحتوي نصوصا من
العهد القديم والجديد والقرآن، وكل منها في تركيبة متكاملة في يد حكيم رمزي
هو (العطوي)، إذن فالأمر أقرب إلى الترميز في حياة إنسان اليمن من أقدم
عصوره، فهو قد آمن بكل الأديان، وليس ثمة إقصاء للأديان الأخرى من وجهة نظر
الرواية، يقول عن العطوي: "هو لا ينكر أنه يؤمن باليهودية، والمسيحية،
وديانات لم نسمع بها، ولا ينكر إيمانه بالاشتراكية.. لكنه يدين أيضا
بالإسلام – على الله الركون. تلك زندقة."(#) .
لقد أتى الحكم عليه في نهاية هذا الحوار، فكيف ستفهم المؤسسة الدينية
المرتبطة بالسلطة والمكملة لها هذا الأمر؟، وكلّ منهما يستمد سلطته من
الآخر، وذلك للوصول إلى الغايات، ومن هنا تأتي السلطة القامعة في ثوب الدين
أو العكس لبلوغ الأهداف، ويظهر الأمر في الرواية في تصوير الجانب الدرويشي
من الدين في نموذج الشيخ (مولانا) الذي لا يُعرف سوى بهذا الوصف، فلا أسم
له لكي يظل عامَّا لكل شبيه كنموذج بشري لهذه الفئة، وكذلك المسجد الغريب
الذي يحيط به الكثير من الغموض من خلال سادنه وشخصية الأعرج، وكذا بعض
الممارسات الخاطئة التي لا علاقة للدين بها.
أما الخبر الآخر وهو السياسة فإن الرواية تعالج - في عمومها وعلى
امتدادها- موضوعاً مهما ومعاصرا إنه حلم اليمني ومسعاه في تحقيق وحدته،
ولعلها الثيمة الرئيسة في الرواية، حيث بدأتها بحياة أبطالها الذين عاصروا
أحداثا كبيرة ومهمة منذ حروب المناطق الوسطى بين الشمال والجنوب، ولذلك
عالجت الرواية موضوع الوحدة بطريقة تأصيلية مبينة فيها – وباهتمام ورصدٍ
دقيقين- صراع القوى السياسية بين شمال اليمن وجنوبه، ورسمت أطلسا جغرافيا
للمناطق المتاخمة للأحداث بروح المعايش وعين الكاميرا، أو كما يحلو للنقاد
تسميته بـ (عين الطائر)، فهو يرسم خارطة المكان بتفاصيلها وأحداثها، وكذا
سياساتها وتقلباتها مؤرخاً كل ذلك بدقة الأحداث ورصد مجرياتها، وتأتي بعضها
بتواريخها الحقيقية، مثل: حديثه عن أحداث 13 يناير 1986م الدامية، وما
قبلها وما تبعها من وقائع التاريخ السياسي للمرحلة، وكل ذلك يأتي من الداخل
عن طريق أبطال الرواية، وبالأخص "تُبّعة" الشمالي الهارب من سلطة الشيخ
وتسلط القبيلة، والذي تحول إلى بطل شعبي وقيادي في الجنوب، يحمل أفكار
الاشتراكية، ويمثل قيمها وبطولتها في عصرها المزدهر، وهو بالتالي يذكرنا
بنماذج واقعية كثيرة لعل أقربها هو نموذج "عبد الفتاح إسماعيل" الحاضر بقوة
في وعي الكاتب، ولعله الحاضر الغائب في بناء شخصية "تبعة"، ومن هنا تظهر
الرواية محمّلة برصد تتبعي لأحداث ما قبل الوحدة، وهي كثيرة ننتقي منها هذا
النص:" في آيار مايو 1988م، أذاعت إذاعة عدن خبر تسهيل انتقال المواطنين
بين الشطرين بالبطاقة الشخصية ..كان ذلك على خلفية لقاء البيض وصالح..
تخيلتُ الطريق ستحمل إلينا من عدن إلى صنعاء تبعة عائداً إلينا دون
عوائق."(#).
وإن لم تعد الطريق بـ (تبعة) في الرواية حتى الآن لكنها قد فتحت
الطريق وأعادت الكثير سواه، هكذا ترسم الرواية بسردها وأبطالها مسيرة
الوحدة وحياتها المرتبطة بحياة أبطالها والمندمجة معها وفيها.
وتظهر الروح الحقيقية/الأنثى النموذج للمرأة اليمنية كبطل رئيس لصانع
الوحدة لأنها تمثل روح الأرض اليمنية وقوتها وهي البطلة (سمبرية) بمحمولها
الرمزي، فهي الأم المكلومة بالابن البعيد المغترب، المنتظرة لعودته، وهي
المرابطة في صومعة عشقها كتلك البطلة الأسطورية (بينلوب) المترقبة لعودة
الحبيب الذي لم تهنأ معه بلقاء طويل آمن، حتى حين عاد إليها ليودّع ابنه في
لحظة فارقة بين شفتي ألم الوداع ولذة اللقاء، فإنها لم تظفر منه سوى
بلحظات قلقة مليئة بالعجز، والإرهاق، وبقايا فحولة مندثرة، وهي في رحلة
البحث والتنقيب تمضي حياتها من بحث إلى بحث هاهي ذي تبحث عن العم /جد حنظلة
(العطوي) تتلمسه في سجون التسلط المشيخي، وسراديب التخلف، وتعرجات السيطرة
والصلف في أروقة القمع الفكري، ثم إنها لا تخرج من انتظار ومعاناة إلا إلى
مثلها،-تماما كما تعيش اليمن- وطوال الرواية تعيش عناءً يسببه الرجل/الذكر
سواء أكان ابناً(حنظلة)، أو زوجا وحبيبا(تبعة)، أو أصلا وعماً (العطوي).
ولكنها رغم كل ذلك لا تفقد الأمل، ولا تهدأ عن الحلم، والكتابة، والرسائل،
لتشعّ بروح المرأة الأصيلة الباحثة عن الحياة بمعناها الكريم والعظيم.
وتظل برغم مرور الزمن وملاقاة المحن العاشقةَ المحبة التي لا تقبل
التراجع ولا تغير صورة محبوبها مهما حدث لأنها لا تريد أن تغير صورته
الناصعة في روحها وذهنها، "لم استوعب يوما أن يكون قد ارتبط بامرأة أخرى
.. أخالها شائعة لا تعنيني..استحضر دوما ابتسامته.. كلماته ..تلك الرائحة
التي لا تفارق أنفي.. نظراته.. أحلم به قادما من بَرَارٍ بعيدة ..أحتضنه
بعيدا عن أعين الناس.. أوشوشه بكلمات تعلمتها منه.. أراني معه عند
المنحدرات.. في شعاب الوديان.. المغارات..منابع المياه.. تحت أشجار
السواقي.. لقد أثّث تبعة عاطفتي كما يريد ..وسكب بقلبي دماً غير تلك الدماء
التي تجري في عروق النساء.. رسم لعلاقتنا مساراً لا تحلم به أية امرأة..
لقد تركني في حلم متواصل .. خليط من الشقاء واللذة.. ولهذا كنتُ أنتظره كل
يوم فاتحا لصنعاء باسم الوحدة"(#).
لعلّ هذا المقطع من الرواية هو بيت القصيد أو بيت السرد فيها –إن
جازت التسمية- لأن سمبرية –(سبتمبرية/ الثورة /اليمن)- ليست مجرد امرأة، بل
هي أكبر من ذلك، وليس (تبعة) - أيضا- مجرد عاشق مغامر، بل هو أكثر من ذلك
إنه مُخلّص بروح فاتح كبير، يحمل شفرات الأرض ورائحتها، ووشوشاتها، إذن فهو
المخلص والفاتح الأسطوري الأكبر، ومن هنا تنحو الرواية إلى الترميز وتتحول
بكل مكوناتها من شخصيات وأحداث وزمان ومكان إلى أسطورة ملحمية للوحدة
اليمنية.
في حين يتحول العطوي - صاحب المصحف الأحمر- إلى قَدَرٍ يحمل القيمة
السامية من رفض الذل والخضوع للسلطة الظالمة متمثلة بالشيخ، وبكل سلطة
متحجرة تأتي بأي شكل من الأشكال، فهو بروحه محلقٌ لا يخشى شيئاً لأنّه صاحب
الحق والأرض والدين، ولكن بطريقته الخاصة وفهمه المنفتح، وليس كما يريد
الآخرون أمثال شيخ القرية، أو زبانية التعذيب والاختطاف وتحجر الأفكار،
وقولبة الرؤى، والمعتقدات في قوالب جبسية صماء، ولكنه فِكرٌ محلق بصير وروح
متحررة نقية تتفوق في قدراتها على كل المخاطر وتغالب الصعاب وتنتصر على
القهر، إذن فهي روح أخرى تتعانق في سربها مع روح "تبعة" المخلص، ولكنها
تمتاز عنها بالخبرة والجَلَد لأنها هادئةٌ في ثقة، ومصممة في عزة، إنها روح
اليمن وتاريخه، أو ربما هي إكسير اليمن الذي حاولت الرواية أن تضعه في
إطار من الخيال أو برواز من التخييل ربما عَجَزَ عن فعله كثير ممن اقترب من
موضوع الوحدة بأدوات مختلفة.
يظهر تميز هذا النص الروائي في أن هذا الرجل الكبير (العطوي)– ولعل
معناه كثير العطاء- يُتابع الحياة، وينظر إلى الأحداث غير منفصلة عن روحه
وعن قناعاته، وعن مصحفه الذي لم يعد مجرد مصحف بل تحول إلى سجلٍّ رمزي
للدين والتاريخ والكتاب الذي في طِرْسِه الكونُ وسجلُّه، ولعلّ الدليل على
ذلك من النص نفسه - حتى لا يعتقد البعض أننا نقوّل الرواية ما لم تقل، فنحن
لم نشهدْ إلا بما قرأنا وفهمنا- ففي واحدة من صفحاته الكثيرة، وعند حدوث
حدث فارق عظيم وجلل، نجد أن العطوي يهرع إلى مصحفه الأحمر ويقرأ فيه، وكأنه
يستعرض الكون بأحداثه وأشيائه في ذلك المصحف، تقول الرواية:" كان مساء يوم
الثلاثاء الثاني والعشرين من آيار /مايو 1990م مليئاً بالصمت. نهض جدك صعد
الغرفة العلوية..لم ينم ليلتها..انكفأ فوق مصحفه الأحمر.. كان صوت صلواته
مزيجاً من النحيب والإنشاد الشجي"(#).
إن الرواية تشبع الموضوع بمتابعة الوحدة وكأنها سجل توثيقي فني لها،
ولكنها لا تخفي تخوّف العطوي الشيخ الجليل/التاريخ الذي لا يُغْفلُ شيئاً
في متابعة ما سيجري حين يقول: "قد تتعدد منابر التشطير تحت رداء
الديمقراطية"(#).
ثم يستعرض حرب مايو 1994م، وما يتبعها من أحداث وفتاوى تبيح ما في
عدن من نساء وممتلكات كغنائم للمجاهدين من حاملي كلمة "لا إله إلا الله
محمد رسول الله" (ص 323). فهل ما يزال هذا التخوّف قائماً تحت رداء
الديمقراطية؟
نلاحظ اقتران السياسة بالدين من جديد كما ظهر في المقطع السابق، وكما
يظهر في النهاية المأساوية للرفيقة "خمينة" الاشتراكية التي لا تختفي
دلالتها في النص، ووظيفة حضورها؛ حيث تكون نهايتها على يد النساء في
المسجد، وغطاء التبرير الجاهز لمقتلها في قول أحدهم منتشياً :"هذا جزاء
العاهرات، وآخر قال: على المجتمع أن يُطهر أوساطه من أمثالها"(#).
إن الرواية في مجملها سفرٌ أدبي يؤرخ للوحدة اليمنية ويرصد مراحلها
منذ البدايات، ويلفها بغطاءٍ ترميزي وفني مدهش لم يسبق لأحدٍ من كتاب
الرواية أن تناوله من هذه الزاوية– فيما أعلم- يعتمد على مزج السياسي
بالديني بحيث يبدو الحدث الجوهري والمهم في اليمن المعاصر ممثلاً في قالب
روائي فني محكم البناء والرؤية السردية، وبذلك تحقق أي رواية في العالم
الخلود على قدر ما تتفوح بروائح تربتها "لأنها تقدم زمناً وأرضاً ومجتمعا،
ولذلك فإن الصدق ينفجر من أكثر الكتابات التصاقاً بتفاصيل المحلية، وليس
ثمة سبيل أقرب إلى العالمية من محلية الأفكار والتعابير"(#).
يبدو أن الرواية ليست مجرد قصة حكائية سردية لأنها تحمل من الصنعة
الفنية الترميزية أكثر مما يحتاجه الحكي عادة، ومن هنا فإنها في تاريخها
الحكائي لمولد الوحدة وبيئتها وأطلسها الجغرافي والإنساني اتخذت من أسطرة
الواقع وترميزه من خلال عدد من شخصياتها ومسيرة أحداثها ما يجعل الرواية
تتفلت من الوقوع في شرك التأريخ المقيد أو الحكي المحض لأن ما تحتويه من
الفن والتخييل يفوق بكثير ما فيها من واقع وأحداث أو بعبارة أخرى إن
الاهتمام بفنيتها ومهارة صياغتها وأسطرة أسمائها: مثل: تبعة، سمبرية،
حنظلة، العطوي، خمينة، فطمينا، شخنما، حصن عرفطة...قد جعلها أكثر عمقاً،
فهذه الأسماء موضوعة بحرفية عالية وعموم؛ بحيث تومئ ولا تصرح وتشير ولا
توضح، وكذا إطلاق بعض أحداثها في عالم التخييل المفارق للواقع، كل ذلك
جعلها تغدو رواية غير مباشرة أو غير عادية.
يضاف إلى ذلك التقنيات السردية التجديدية المستخدمة في الرواية وهي
كثيرة – لعلها تحتاج إلى وقفة أطول في مقام آخر- ونشير هنا إلى بعضها،
فالرواية تعتمد في السرد على أسلوب الرسائل على امتداد متنها، ويأتي الزمن
السردي في مستويين اثنين: ماض يعتمد على تقنية (الفلاش باك) وحاضر، تسير
أحداثه بالرواية في ضفيرة متلازمة محكمة لم تفقدها الرواية حتى النهاية،
ومن هنا استطاعتْ أن تكسر الزمن في رتابته من خلال ترتيب فصولها العشرين
بحيث وفّقَ الكاتب وبمهارة كبيرة- في التعامل مع الفصول وزمنها – في أن
يصوغها على شكل مشاهد متكاملة يقوم كل فصل منها وبتقنية المونتاج
السينمائي- الذي قد يُذكرنا بمدرسة يوسف شاهين السينمائية في تفتيت الزمن
وتشظيه- بحيث لا تجد الزمن يمضي في خطه المستقيم، بل يرتبه الروائي بطريقة
تجعل التشويق حاضرا على امتداد المشاهد/الفصول الروائية في جديلة متضافرة
لا خلل فيها، تبدأ الرواية من لحظة وداع الابن حنظلة المسافر للدراسة في
العراق ثم تتوالى الفصول بترتيب غير رتيب يجعل القارئ مشدودا يبذل جهدا في
ترتيب صور الرواية ومشاهدها بمساعدة واضحة من الراوي الذي يقدم ويؤخر بحسب
مقتضى السرد، وتلعب البطلة (سمبرية) دوراً مركبا، فهي إلى جوار البطولة
راوية تكتب الأحداث عن طريق الرسائل، وتسردها بضمير المتكلم باعتباره ضمير
السرد الأحدث.
ثم تأتي نهاية الرواية وهي من النهايات المفتوحة، فعلى الرغم من
انتهاء الأحداث بعودة الابن الذي ودعناه مشفوعا بأحلام الأم لدراسة الطب في
العراق في البداية، يعود إلى أمه شخصاً آخر متزمتا يعُدُّها مذنبةً ويحرّم
عليها الخروج من البيت، ويعمل في فريق سري ليتحول إلى شخص يُعلن عن اسمه
ضمن قائمة المطلوبين من إحدى الدول.
ولكن تأتي النهاية المختلفة في أن ما نعدّه نهاية للحكاية ليس سوى
بداية للرمزية في الرواية فحين انتهت الرواية بما تضمنته من قضايا وأحداث
مرتبطة بالأم والابن والزوج والجد وغيرهم إلا أنها لم تنتهِ في الحلم
بالعودة الجديدة للابن الذي تحلم به الأم، فلا يزال ذلك الابن مرجو العودة
مأمول اللقاء؛ حيث تخاطبه الأم من جديد بصيغة لم يسبق استخدامها في
النداءات المتعددة التي استخدمتها الأم من قبل، وهو قولها: (طفلي العزيز)،
ها نحن إذن تعاودنا الرمزية من جديد، وبطبيعة التوالد؛ حيث يبدو أنه لم
يكبر، وسيظل يتجدد ويعيد حضوره - سواء على الحقيقة أو عند الأم- كطائر
الفينيق الأسطوري، فهو في حياة تلكم الأم سيعود من جديد، ولن تفقد الأملَ
في عودته كما تريد أن يكون وأن يعود، لأنه لا وجود لها إلا بوجوده: " لم
يعد لوجودي معنى إلا بوجودك.. سأظل أبحث عنك بعد مغيب كل شمس عند فراش
أمي.. وسأواصل الكتابة إليك.. سأكتب كل التفاصيل الصغيرة دون تنميق..ولا
خوف..كل مشاعري.. وسأتخيل طرقات كفك على الباب"(#).
إنها نقطة التوقف التي لا حاجب لها ولا نهاية فيها فهي مفتوحة، وإن
كانت واقفة على باب ينتظر الطرقات، وهي مختلفة لأنها مفتوحة على الأمل
الواسع في ثقة أُمٍّ بابنها الذي لا شكّ سيعود لينقذ وجودها، ويجعل له
معنى، ومن هنا تبدو رمزية الرواية في الختام كما كانت في البداية والبناء.
تعليقات
إرسال تعليق