الذكاءات المتعددة



هل الذكاء نوع واحد؟!
د. إبراهيم أبو طالب

في هذا المقال سأتناول مع القارئ الكريم موضوعًا من موضوعات علم النفس والتربية، يتعلق بنظرية الذكاءات المتعددة وهي من أكثر النظريات انتشارا, وهناك اهتمام كبير بها حتى إنه يوجد مدارس في الولايات المتحدة  تسمى مدارس الذكاءات المتعددة  "MI Schools". ونظرية الذكاء المتعدد أو بالإنجليزية "Multiple Intelligence" هي نظرية  العالم الأمريكي "هوارد غاردنر Howard Gardner" أستاذ المعرفة والتربية في جامعة هارفارد، وهو مؤسس نظرية الذكاءات المتعددة على مستوى العالم، وقد ظهرت في عام 1983م، في عدد من أبحاثه وكتبه آخرها كتابه "أطر العقل"، وتعد نظريته من النظريات المفيدة في معرفة أساليب التعلم وأساليب التدريس لأنها تكتشف مواطن القوة والضعف عند المتعلم، وعند أصحاب المواهب والإبداع – ومن نافلة القول الإشارة إلى أن كل شخص يحمل موهبته وإبداعه الخاص-
ويرى "جاردنر" أن الذكاء عبارة عن قدرات تمثل الذكاء العام عند المتعلم، والذكاء عند "جاردنر" مجموعةٌ من المهارات تمكّن الشخص من حل مشكلاته، وهو مجموعة من القدرات التي تمكن الشخص من إنتاج ما يمكن أن يعد ذا قيمة وتقدير في المجتمع، والقدرة على إضافة معرفة جديدة، والذكاء ليس بعدا واحدا فقط، كما يعتقد البعض أو نوعاً واحداً، بل عدة أنواع وله الكثير من الأبعاد، وبذلك يتميز كل شخص عن الآخرين ويتفرد، والذكاء يختلف من شخص إلى آخر.
 وأنواع الذكاءات متعددة، هذا مع العلم أن جاردنر ظل يضيف إلى هذه الأنواع ويراجعها كما يراجع نظريته، ويعتني بها في كل مرة وآخرها إضافته لنوعين مهمين من أنواع الذكاء هما: "ذكاء معرفة سر الوجود"، و"الذكاء الأخلاقي" كما ورد في كتابه الأخير "أطر العقل"، وفيما يلي بيان لتلك الأنواع من الذكاءات، نعرضها فيما يأتي – وبحسب محمد المهدي الذي نشرها في موقع "الطبي"، وهو تلخيص نراه واضحا ومناسبا، وفيه وصف لتلك الأنواع وبعض صفات أصحابها:
1-   الذكاء اللفظي/ اللغوي: وصاحب هذا الذكاء نجد لديه قدرة متميزة على القراءة واستخدام الكلمات ببراعة لتعبر عما يريده، وهذا يعطيه قدرة على الحديث المشوق وعلى المحاورة الذكية وعلى الدعابة والطرفة التي تأتي في موعدها ومحلها، وربما نراه كاتباً مميزاً أو شاعراً موهوباً أو صحفياً أو خطيبا مفوها يأسر عقول وقلوب سامعيه.
2- الذكاء المنطقي/ الحسابي: هذا الشخص يكون لديه قدرة مميزة على التعامل مع الأرقام والرموز وعلى حل المشكلات الحسابية والرياضية، وعلى فهم العلاقات بين الأرقام والرموز، ولديه قدرة واضحة على تصميم المنحنيات والأشكال البيانية وعلى التفكير الاستنباطي وحل المشكلات الرقمية والمعادلات، وربما نراه عالما رياضيا أو فيزيائيا، أو خبيرا اقتصاديا.

3- الذكاء البصري الفراغي: هنا نجد تميزاً في التخيل والرسم والتصميم واستخدام الألوان والظلال، والتقليد والمحاكاة والتصوير، والتخيل الفراغي، وتقدير الأشكال والأحجام، وهذا الذكاء نجده في الرسامين، والنحاتين والفنانين، بشكل عام، ومهندسي التصميمات.

4- الذكاء الاجتماعي: يتمتع صاحب هذا الذكاء بالقدرة على فهم الآخرين وتفهم دوافعهم واحتياجاتهم، والقدرة على التواصل والتعامل مع الناس بفاعلية، والقدرة على التعاون والعمل الجماعي، ولديه مهارات قيادية ويستطيع أن يعبر للآخرين عن آرائه ورؤاه ويستقبل ويتفهم آراءهم ورؤاهم، وهو في النهاية في حالة انسجام وتناغم وتعاون مع غيره من الناس. وهذا الذكاء نجده في المهتمين بالعمل الاجتماعي والسياسي والعلاقات العامة والمصلحين والزعماء.

5-  الذكاء التأملي: هذا الشخص يمارس التأمل الداخلي بكفاءة ويقوم بعمليات الاستبطان فيقرأ مشاعره وانفعالاته، ولديه القدرة على التركيز والتفكير المنطقي العميق والمركب والمتعدد المستويات، ولديه قدرة هائلة على التخيل ومعالجة الأفكار والمشاعر والإستراتيجيات ودائماً نجد رأسه مليئة بالأفكار رغم صمته وعزلته. وهذا النوع من الذكاء نجده لدى الفلاسفة، والمفكرين، والمخططين، وعلماء النفس.

6-  الذكاء الجسدي/ الحركي: هنا نجد تميزاً في استخدام لغة الجسد والحركة، أي أن الشخص في هذه الحالة يمتلك موهبة خاصة في التعبير الجسدي (حركة العينين وعضلات الوجه واليدين وسائر الجسد) ولذلك يمكن أن يمارس التمثيل بأنواعه، حيث لديه القدرة على لعب الأدوار المختلفة والتعبير بالإيماءات والإشارات والتعبير الدرامي عموماً، وبعضهم لديه القدرة على الرقص الإبداعي التعبيري، والبعض الآخر نجده مميزاً في التمثيل الصامت (البانتوميم )، ويمتلك أيضاً هذا النوع من الذكاء أصحاب المواهب الرياضية كلاعبي الكرة والجمباز والرياضات المختلفة.

7- الذكاء الموسيقي/ الصوتي: صاحب هذا الذكاء لديه قدرات خاصة في سماع الأصوات والتمييز بينها بدقة فائقة، ولديه قدرة على الإبداع الموسيقي والغنائي، والعمل في المجالات التي تتعلق بالصوتيات عموماً.

8-  الذكاء الحدسي (الحاسة السادسة) أو لعلها ما سماها رسولنا الكريم بالفراسة: هناك بعض الأشخاص لديهم قدرة خاصة على التوقع أو التنبؤ بشكل لا يمكن تفسيره أو إخضاعه للمنطق، وكأن بداخلهم بصيرة خاصة أو شفافية معينة تجعلهم قادرين على قراءة الأحداث بشكل أكثر وضوحاً من بقية الناس. وصاحب هذا الذكاء هو نفسه لا يعرف كيف يتم هذا؟. ويتعلق ذلك أيضاً ببعض الظواهر النادرة مثل التخاطر عن بعد أو الإحساس بأشياء خارج نطاق الحواس. وهذه موضوعات يوجد حولها نقاش وجدل كثير، ومع هذا فهي موجودة وإن كانت نادرة.

9-  الذكاء الوجداني: وهو مفهوم جديد للذكاء وصفه "دانييل جولمان"، وأصبح صيحة جديدة حيث اتضح أنه يكمن وراء نجاح كثير من المشاهير والعظماء في التاريخ، وصاحب هذا الذكاء يتميز بوعي عميق بذاته والقدرة على قراءتها والتعبير عنها، إضافة إلى مشاعر حية وجياشة وإيجابية، مع دافعية عالية للعمل والإنجاز والتفوق، إضافة إلى قدرة ممتازة على تفهم مشاعر واحتياجات الآخرين والتعاطف معهم، وأخيراً نجد هذا الشخص يتمتع بقدر عالٍ من المهارات الاجتماعية تتيح له فرصة متميزة من التوافق مع الناس ومع الحياة وتفتح أمامه الطرق للنجاح والتفوق، وأصحاب الذكاء الوجداني يتمتعون "بكاريزما" خاصة تجعلهم محبوبين من الناس، وربما تبوءوا مكانة الزعماء والنجوم والمشاهير، ومما يدعم هؤلاء الأشخاص ذوي الذكاء الوجداني المرتفع قدرتهم الهائلة على تحمل الإحباطات، وتفاؤلهم الواضح والمميز حتى في أصعب الظروف، وهذا يعطيهم قدرة على اجتياز الصعاب والعقبات والوصول إلى تحقيق أهدافهم، فهم لا يحبطون ولا ييأسون ولا يتوقفون عن الحلم والعمل والرقي.

10-   الذكاء العملي (الميكانيكي أو اليدوي): نجد هذا الشخص متميزاً في التعامل مع الأجهزة والآلات والمعدات، ويمكن أن نكتشف هذا النوع مبكراً في مرحلة الطفولة حيث نجد الطفل قليل الكلام ولكنه مهتم بفك وتركيب الأجهزة المنزلية والأدوات الكهربية كالراديو والمسجل والتلفزيون وإذا أحضر له أبواه لعبة فإنه سرعان ما يقوم بتفكيكها ومحاولة إعادة تركيبها. وهو يفضل التعامل مع الأشياء على التعامل مع الناس.

11-  الذكاء الروحي: ربما تكون قد قابلت في حياتك أشخاصاً ترى في وجوههم صفاء وروحانية من نوع خاص وتشعر بالارتياح للنظر إليهم والقرب منهم لأن القرب منهم يجعلك تشعر بأن الدنيا ما زالت بخير وأنهم يحلقون بك في عالم الصفاء والنقاء والسلام. وإذا قابلنا في حياتنا شخصاً من هؤلاء، فإننا لا ننساه أبداً لأنه يترك في نفوسنا حالة من الطمأنينة والارتياح والسلام، وهذا النوع من الذكاء ينتشر بشكل خاص في القادة والزعماء الروحيين والدينيين والمتصوفين، ويكون له تأثير هائل في الأتباع، وهذا التأثير ليس بسبب بلاغة في الحديث أو قدرة على الحوار والإقناع، وإنما هو بسبب ما يشع من وجه هذا الشخص من نور، وما يصل إلينا منه من معاني السمو والطمأنينة والصدق والسماح والرحمة والحب.
وبهذا ندرك أن الذكاء ليس كما كنا نعتقده نوعا واحدا يتمثل في الحفظ للأشياء واستظهار المعلومات والحصول على أعلى الدرجات في امتحانات المواد، إن الذكاء أنواع متعددة كما أن الموهبة طرق شتى ومجالات مرتبطة بهذه الذكاءات، ومن هنا لعلنا نعيد اكتشاف أنفسنا واكتشاف مَنْ حولنا، وبخاصة أبناءنا الذين لا يجب التعامل معهم بذلك الأفق الضيق في معرفة معنى الذكاء، ولكن من خلال مساعدتهم على تنمية ذكاءاتهم الخاصة التي تشبه شخصياتهم المختلفة، ولهذا الأمر ندرك جيدا سنة رسولنا الكريم -صلوات الله عليه وعلى آله وسلم- كيف كان يعطي صحابته توصيفاتهم الخاصة، وكيف كان ينميها فيهم تنمية إبداعية لم يسبق لها مثيل لذا أصبح ببنائه للإنسان أعظم شخصية عرفها التاريخ بشهادة غير المسلمين فها هو "مايكل هارث" المؤرخ الشهير صاحب كتاب "الخالدون المائة" يضع النبي محمد في المركز الأول من عظماء العالم وممن غيَّر فيه، ويضع المسيح – وهو يدين بالمسيحية – في المركز الثالث، بعد إسحاق نيوتن، والسبب هو ما تميز به نبينا من عظمة رعاية المواهب وبناء الإنسان، لذا خرج بهذا الإنسان إلى العالمية وغيره خلال فترة بسيطة لم تتجاوز الثلاثة والعشرين عاما، كان يعطي صحابته ألقابا محفزة، وهي خلاصات شخصياتهم، كالصديق، والفاروق، والكرار، وذو النورين وسيف الله وأمين الأمة، وغيرها من المحفزات الروحية والنفسية مما جعلهم جميعا رجالا لا يعصون الله ولا يشركون به شيئا، ويحبون رسولهم ويبنون الدنيا والآخرة.

ولا أنس في ختام مقالي هذا التأكيد على الآباء والمعلمين إلى أهمية أن نكتشف مواهب أبنائنا وطلابنا، ومن نتعامل معهم لكي نعطيها حقها من التقدير والرعاية والبناء السليم.
لينتج لنا مجتمعا متماسكا سليما ناجحا بأهم عنصر فيه وهو البشر، وتنميته التي هي أفضل استثمار وأعز منتج.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)