أدب الطفل



أدب الطفل العربي في غياب المؤسساتية
د.إبراهيم أبو طالب
دَعُونا نخرج في هذا المقال عن هموم الكبار وقضايا السياسة وعوالمها التي لا تنتهي؛ بل تتداخل وتتشابك ونسينا في غمرتها الاهتمام بأهم الشرائح التي تشاركنا الحياة في هذا الوجود، بل هي أهم ما فيه، وأجمل ما فيه، ومن أجلها نعيش- لو عقل المتخاصمون وأدركوا أهمية بناء الغد من خلالهم- إنهم أطفالنا و"فلذات أكبادنا التي تمشي على الأرض" كما عبر عن ذلك قديما الشاعر حطّان بن المعلى بقوله:
وإنما أطفالنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض
لو مرت الريح على بعضهم لامتنعت عيني عن الغمض


فما الذي فعلناه من أجلهم ومن أجل مستقبلهم غير التناحر والبغضاء وتعكير صفو عالمهم النقي الجميل ببؤسنا وعوالمنا المكدرة والمتكدرة؟!
هناك كثيرة من القيم التي يجب أن نجسدها لهم ونجعلهم يتمثلونها سواء كان ذلك من خلال سلوكنا اليومي أو من خلال ما نقدمه لهم على مستوى التربية والتعليم والأدب،  ولعل من أبرزها قيمة الدين من خلال سير الأنبياء وقصصهم والعِبَر المستفادة من حياتهم وأخلاقهم العالية التي هي أنموذج للإنسان في كل زمان ومكان يسير عليها ويهتدي بها، ثم هناك قيم الأخلاق، وحب الوطن، والتسامح، وحب الوالدين والأسرة، والطبيعة بجمالها ومخلوقاتها من حولنا، ثم قيم السلام والخير التي هي روح الطفولة وحقيقتها.

وكثيرا ما سُئلتُ –كوني واحدا ممن يهتم بالكتابة للأطفال- عن سبب قلة الاهتمام بكتابة الطفل وتقديم الأدب الحقيقي للطفل العربي عموما- واليمني على وجه أخص؟! ولعلي أقف معكم هنا عند بعض العوامل التي من أهمها وأبرزها من وجهة نظري:

-      غياب المؤسسات الكبرى التي تهتم بكاتب أدب الطفل أولاً، وتستثمر جهده وقدرته، ثم تُعنى بصناعة الكتاب، والصورة (المتحركة والثابتة) والشخصية العربية الرمزية والمحببة والمنتزعة من عالمنا العربي بكل خصوصيته وبيئته وقيمه، بمعنى اختراع شخصية أو عدة شخصيات كرتونية وأيقونية للأطفال العرب تمثلهم وتكون قريبة من أنفسهم وبيئتهم وملبسهم وحياتهم، وعلى المجمل الاهتمام  بصناعة الثقافة العربية الإسلامية للطفل على مستوى العالم العربي.

-      العامل الآخر ربما يعود إلى بقايا النظرة الثقافية الضيقة للكتابة للطفل عند البعض حيثُ يعد الكتابة للطفل شيء من سقط الأدب – إن جاز التوصيف- (كأنها كتابة للعيال أو الجهال) كما يطلق عليهم عموم الآباء، والبعض الآخر يكون الهروب من الكتابة للطفل لديهم عجزاً، وذلك في حقيقة الأمر لصعوبة هذا الميدان، ومن الأهمية بمكان أن يكون الكاتب فيه على قدر كبير من المسؤولية التربوية والإبداعية والموهبة، وفوق كل ذلك يجب أن يكون على قدر كافٍ من الإدراك للخصوصية التي تخاطب الطفولة بروحها وقدرتها على الخيال التوليدي الذي يتناسب مع خيال الطفل الجبار، واهتماماته، وتفكيره ومراحله العمرية.

-      وثمة عامل آخر أيضا -على قدر من الأهمية- يعود إلى عدم تشجيع كاتب الأطفال، وعدم تسليط الضوء على نتاجه وإبداعاته للطفل وتبني مشروعاته وإخراجها بما يليق بها، لأن الإخراج لأدب الطفل يحتاج إلى إمكانيات خاصة تفوق قدرة كاتب أدب الطفل على إخراج عمله بشكل من التكامل مع الصورة الثابتة أو المتحركة، والسبب يعود إلى طبيعة الفن الإبداعي ذاته للطفل حيث يحتاج إلى مؤسسة سواء كانت حكومية أو خاصة تحمل الرسالة وتدرك أهمية هذه الصناعة الجبارة، فنحن حين نتحدثُ عن مؤسسات الإعلام العالمية التي تنتج الأعمال المتميزة للطفولة –مثل ديزني، وشركة ماتيل التي تصنع دمى باربي وغيرها- نتحدث عن إمكانات عالية وهائلة ومؤسسات متكاملة فيها إلى جوار الكاتب الموهوب والمتخصص يوجد المنتج الغني والطواقم المتعددة للتنفيذ التقني وحتى أصحاب الأفكار- وهم الأطفال أنفسهم – بجوار الكبار ثمة استبيانات خاصة ودراسات تربوية ونفسية لطريقة تفكيرهم واهتماماتهم تقف وراء ما يُكتب وينتج ويقدم لهم، وأدب الطفل نوع من الصناعة العالمية وليس مجرد كتابة قصة أو أنشودة أو لوحة أو مجلة إنه عمل متكامل، وصناعة تنافسية عملاقة أين نحن منها؟! ...

والطفل العربي اليوم أحوج ما يكون إلى الأدب الحقيقي الصادق الذي يحافظ على خصوصيته وهويته النقية، في زمن الاستلاب، يجب التركيز على هوية الفطرة الإسلامية، وهوية القيم العربية البسيطة والأصيلة والعميقة في ذات الوقت كقيم الحب للأسرة والالتفات إليها، والالتقاء حولها وحول الطاعة للوالدين والمحبة للأخوة والجيران والأصدقاء المتميزين بأخلاقهم وصفاء عشرتهم، وحب العلم والمعرفة، وصدق القول والعمل وغيرها من قيمنا النبيلة التي تحافظ على الطفولة وترعاها وتنشئ الناشئة عليها، لأن المحيط قد تلوث بالكثير من المفاهيم الخاطئة وأنواع العنف وأسبابه، وبخاصة ما يراه الأطفال ويرصدونه وهم على قدر من الذكاء والالتقاط وإن ظن البعض أنهم صغار لا يفقهون أو لا يدركون، بالعكس هم أكثر التقاطا وفهما وتقييما للأحداث من الكبار ويؤثر ذلك بلا شك في حياتهم، وقد يظهر في بعض معالم العنف في ألعابهم وفي تصرفاتهم وفي أقوالهم، لذلك يجب رعايتهم والبعد بهم –قدر المستطاع- من متابعة نشرات الأخبار التي يدمن عليها الآباء دون إدراك لحضور ومتابعة الصغار، وهذا يؤزِّمهم، ويترك شروخا نفسية غائرة في وجداناتهم الصغيرة ذات النقاء والصفحة الملساء الناصعة فيكون ذلك سببا من أسباب القمع والخوف والارتباك الذي يصحبهم في نموهم، ويرافقهم في مستقبلهم.

وما يتعلق بتربية الآباء للإبناء، يجب أن يتربى الآباء أولاً قبل أن يربوا الأبناء، لأن الطفل ينشأ مقلدا فحين يكذب الأبوان، وهما أنموذجه وقدوته يكذب هو، وحين ينصحانه بالصلاة وهما لا يصليان أو يقصران فيها فإنه لا يقتنع بنصحهما وإن أظهر الطاعة، ولذا فالتربية مسؤولية وأنموذج وليست ادعاء ومظهرا اجتماعيا فقط، وعليه كان الأجر من الله كبيرا وعظيما لمن أحسن التربية وأجاد التقويم، كما جاء في الحديث الشريف عن أنس ـ رضي الله عنه قال ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين وضم أصابعه" [رواه مسلم]

وقال الشاعر العربي:
مشى الطاوس يوما باعوجاجٍ ..فقلّد شكل مشيته بنوه
فقال علامَ تختالون قالوا: بدأت به ونحنُ مقلدوه
وينشأ ناشئ الفتيان منا ..على ما كان عوَّده أبوه.


نشر في:
صحيفة الوطن 




 وفي موقع

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)