دموع الشراشف تبكي الشرفي













وانطفأت شمعةٌ أخرى
رحمَ الله الأستاذ محمد الشرفي
د.إبراهيم أبو طالب  
       هكذا تنطفئ شموع الشعر شمعةً بعد أخرى، في مرحلة ما أحوجنا فيها إلى الضوء وإلى الروح اليمنية المتوقدة حباً وبهاءً ونقاء وألفة تلك الروح التي كان لها عبر الكلمة حضورٌ فسيحٌ في وجدان الشعب حين مضتْ تنير دروبَ الحياةِ بالوعي، وترسم آفاق التثقيف الحقيقي بجهودها الفكرية والإبداعية، فوجهتها للبناء والإبداع والتنمية البشرية وترميم الروح اليمنية من الداخل.

        تلك الروح العملاقة المتوثبة كانت روح الشاعر الكبير محمد بن حسين الشرفي (1940 – نوفمبر 2013م) الذي غادرنا في صمت ومضى في هدوء بعد أن ملأ بدواوينه الشعرية ومسرحياته الإبداعية فضاء حياتنا جمالا وعطاء، وهو في كل ذلك يريد أن يرتقي بالإنسان اليمني وبفكره وتفكيره، واتخذ موضوعه المرأة وقضاياها في وقت كان ذكرها عيبا والحديث عنها عورة، ومن هنا كانت أولى اهتماماته، فسعى للكتابة عنها وفيها وبها رافعا قضيتها للناس عنوانا عريضا ملفتاً، يدعو إلى تحررها من الجهل أولا ومن التخلف في ذاتها، وثانياً من نظرة الرجل الدونية لها ولكينونتها المستضعفة المهملة، فكان ديوانه الأول "دموع الشراشف -  1981م" صرخةً إبداعية واضحة في وجه التجهيل والدونية والاستلاب الذي عانته المرأة ردحاً من الزمان، -إلا ما رحم ربك- فأراد الشرفي أن يخرج بها عن ذلك المدار الذي سيطر ت فيه عليها ذكورة الرجل الأناني الجاهل تحت وهم من وصايةِ موروثٍ ثابت لا يقبل الجدال، فكانت رميته الشعرية الأولى محسوبة له مما حرّك الماء الراكد، وأزاح ما ران على فكر الكثير من الناس من ضيق الرؤية وتضييق المسار على المرأة كونها – توهماً- عارا وعيبا، بل وحين كانت تُذكر أو تردُ عَرَضَاً في حديثٍ فإنه يتبعه الاعتذار بـ "أعزَّك الله" وكأنها في أقل أحوالها قذارة يُترفع عنها أو أنها من سقط المتاع الذي قد يَخدش حياء المخاطَب والمخاطِب وترفعهما.

       كل ذلك جعل الشرفي المتفتح شاعريةً والمنفتح منهجاً يستشرفُ آفاقاً أبعد ويخوض موضوعاً شائكاً لا شكَّ أنه سيدفع ضريبته الباهضة فكان بين معارض -وهمْ كُثْر- ومؤيدٍ، فالذين عارضوا دعوته وفكره متشبثين بالعرف والعادة شنُّوا عليه ألفاظاً غير محمودة، ولكن المؤيدين وصفوه بالثقافة، وقرأوا ما بين سطور قصائده من روح تنويرية وتثقيفية فأطلق عليه بعضهم لقب "نزار اليمن" ووصفوا دعوته بأنها امتداد متأخر لدعوة قاسم أمين في مصر وغيره، ولكنه بالفعل قد قال كلمته وأطلقَ رسالته عبر قصائده ودواوينه، وجنى ثمارها ريادةً وحضورا ولو أنها كانت أقل مما يجب أن يجنيه، ولكن ها هي المرأة في اليمن قد قطعت شوطاً كبيرا بعد تكريسه– كواحد من العوامل المؤثرة- لشعره في الحث عليها ومعاملتها ككيان له ذاتيته المؤكدة ووجوده القائم بكل احترام وثقة.


       هكذا غادرنا الشاعر الكبير محمد الشرفي بجسمه الذي أبلاه المرض وأثقلته السنون فعانى في آخر أيامه خلال أكثر من نصف عام ما عاناه من المرض العضال واستبدَّ به الألم، لكنه قاومه في صمت وهدوء وثبات، وهو يعاني آلامه الممزوجة بانشغال الناس عنه، وبإهمال الدولة التي اعتادت الاهمال وأدمنته، وبل واحترفته احترافا.

       غادرنا الشرفي إلى حيث الهدوء الأبدي والراحة والدِّعة عند مليك مقتدر، فليرحمه مولاه الرحيم بعباده الشفيق الودود.

       غادرنا وقد أثرى المكتبة اليمنية والعربية بعدد من الأعمال فمن دواوينه الشعرية: دموع الشراشف 1981- أغنيات على الطريق الطويل 1981 - ولها أغني 1981 - من أجلها 1981 - منها وإليها 1981 - الحب مهنتي 1981 - وهكذا أحبها 1983 - صاحبتي وأناشيد الرياح 1983 - من مجامر الاحزان 1983 - الحب دموع, والحب ثورة 1985 - السفر في وجع الكتابة وأشواق النار 1985 - ساعة الذهول 1988 - قصائد للوحدة 1993 - من مملكة الإماء 1993, وعدد من المسرحيات الشعرية بعنوان: في أرض الجنتين 1982 - حريق في صنعاء 1982 - الانتظار لن يطول, الغائب يعود 1985 - من مواسم الهجرة والجنون, العشاق يموتون كل يوم 1985 - دعونا نمر 1993 - من مملكة الإماء 1994 - حبي 1994 - أنا أعلن خوفي 1994.

       أما أعماله الابداعية الأخرى فهي عدد من المسرحيات منها: الطريق إلى مأرب, موتى بلا أكفان 1982 - حارس الليالي المتعبة, الكراهية بالمجان 1988 ـ ولليمن حكاية أخرى 1988 - المرحوم لم يمت, المعلم 1988م.. وغيرها من النتاج الغزير والمتميز.

       وتأكيدا على قضيته الأثيرة ومعانيها المتوقدة المليئة بالبحث عن سبب المشكلة والحفر في أعماقها الدلالية والاجتماعية والنفسية، دعونا نقف عند إحدى قصائده التي يتحدث فيها عن قصة أختين كان الانحراف سبيلا لهما دون عمد منهما لكنهما تتحولان إلى ضحية مجتمع لا يرحم وأنانية لا تَرِقُّ، وهما يعرضان حكايتهما بأسلوب حواري ومنطق قصصي، يمتاز بلغة الشاعر وتمكنه وجماليات خياله وعمق حجته وتجربته، فلنقرأ  تلك القصيدة دون تدخلٍ أو قطعٍ حتى نعيش لحظاتها ونعيش أسلوب الشاعر وجمال حرفه وتحليقه، في قصيدته التي بعنوان "المهاجرة اليمنية" ويقول فيها:
من تكونين ؟ وابتدتْ تتملَّى في محيَّايَ أو تُكابرُ خجلى
وارتختْ قصَّةٌ على كلِّ هُدْبٍ   وعذابٌ من ناظريها أطلا
لاح لي خلفَ وجهِها حاضرٌ دامٍ  وماضٍ من المآسي تجلّى
رعشاتُ اليدين تكتبُ فصلاً وانكسارُ الجفون يُسردُ فصلا
وبكتْ واستهلَّ دمعٌ حزينٌ    لم يكن قبلَ لحظةٍ مستهلا
والسؤالُ الغريبُ ينبُشُ في القلبِ زمانًا وطعنةً منه نجلا
واستفاقتْ شجونُها ترسُمُ الأمسَ ضياعًا وتنشُرُ اليومَ ذُلا
كان لي هاهنا أبٌ ماتَ بالخمرِ، وأمٌّ ماتت كما قيل حُبلى!
وأبي كان فاضلا غير أني    لم أجد بعدَهُ نعيمًا وفضلا
كان في أرضِهِ وقد كان فحلاً  وامتطى البحرَ والكوارثَ فحلا
في مراياه يعكسُ الحبُّ صنعاءَ ، وفي وجهِهِ مرايا المُكَلا
وبقايا شجاعةٍ في ذراعيه، وأنفٌ يأبى النجومَ محلا
ورآها ولم تكن ذاتَ بعلٍ  ورأته فكان بَعْلا وخِلا!
وتمُرُّ السنون والقدرُ الحاسمُ يجري ويكتبُ الموتَ حلا
خلَّفاني أنا وأختي بلا أهلٍ سوى اليُتْمِ كان بيتًا وأهلا
فنشأنا كما تشاءُ الليالي  وكبرنا والعمرُ مازال طفلا !
واستدار الجمالُ في الجسدِ الناعمِ خَصْرًا حلْوًا وعينينِ أحلى !
واستوى كالربيعِ صدْرٌ وغنَّى   فيه نهدٌ غَضٌ وبدْرٌ أهَلا !
وأدرنا الأشواقَ في أعيُنِ الفجرِ صِبًا واثبًا وكرْمًا تدلَّى
وارتمتْ حولَنا الصباباتُ تتلو  من كتابِ الغرامِ ما ليس يُتلى
وبخِلْنا حينًا ولكن لماذا؟   كيف نُجزي الكرامَ شُحًا وبُخلا ؟!
وبدأنا نعطي الكثيرَ ونُبقي    من صبانا لنا القليلَ الأقلا
يتلوَّى بنا نهارٌ كسولٌ وليالٍ من الرغائبِ كسلى
مِن سريرٍ يرمي بنا لسريرٍ   وفِرَاشٍ بالٍ لما ليس يَبلى
تحتسينا أزقَّةُ الجوعِ كأسًا    من شبابٍ غالٍ وجسمينِ أغلى
ساعدٌ كالجحيمِ يحرقُ نهدًا   وفمٌ يُستباحُ علاًّ ونهلا !
ومضينا على الطريق طويلا لم نقل لا لمن دعانا وكلا !
لم نكن أول المصلين للحبِ ولا آخر المصلين صَلّى
فأنا مثلُ من تراهن في السوقِ وقد لا ترى كنهديَّ شكلا !
قصص الأخرياتِ مثلي ولكن   قد يخبئنها لترضى وتسلى !
جسدٌ كالثلوج من أشعلَ النارَ اصطلى بالهوى ومن ملَّ ملا
لا تسلني فالأمنياتُ تولّتْ     والهوى مثلُ أمنياتي تولّى
وبلادي ليست بلادي وأرضي   جفَّ فيها الترابُ كرْمًا ونخلا
وحقولي هذي الشوارعُ والدورُ، وبارٌ وألفُ عبدٍ ومولى !
لا تقلي مسكينةٌ أنتِ رفْقًا     ببقايا هذا الشبابِ ومهلا !
قد طواني الضلالُ في أول العُمْرِ، ومن ضل أول العمر ضلا !
كلُّ همي كأسٌ رَوِيٌّ وليلٌ     أنطوي فيه عالَمًا مستقلا !
مشكلاتي؟ دفنتها من زمانٍ ليس لي مشكلاتُ قيسٍ وليلى !
لم تعد لي الحياةُ إلا بقايا      من حطام الرؤى وحُلْمًا مُمِلا
فارسي كان فارسًا من أمانٍ فارتخى فارسُ المنى وتخلى
هذه قصتي وقصةُ أختي   وهي جزءٌ من دفترِ الأرضِ يُجلى !
       ولا يخفى ما تحمله القصيدة في حكايتها من ألم الإنسان وعوالمه، ممثلا في هاتين الأختين كما يتجلى فيها الرمز والمعادل الموضوعي للأرض والعِرض والكيان بأفقه الواسع والمتشظي على كل جرح وفوق كلِّ حُرقة عبر أزمنة طويلة، وحكايات متكررة.
       وفي ختام هذه التحية لشاعرنا الكبير نرثيه بما كتبَه هو ذات حياةٍ عن عودة متخيلة/ متحققة إلى محبوبته الأثيرة وأنثاهُ الأجمل والأرق؛ إلى صنعاء حين يناجيها، وكأنما كتبَ هذه القصيدة للتوٍ مودعاً ومعانقاً أرضَها وترابَها الذي عشقه وهام فيه حباً وصدقاً، وها هو يُدفن فيها وأغنيته لصنعاء يتردد صداها في جنبات المكان حين يُسمعها آخرَ تنهداته مودعاً وراحلاً في رجوعه:
"ورجعتُ يا صنعاءُ .. عدتُ إليكِ
كالعصفورِ
مرتعشَ الجناحْ
هذي همومي كلُّها
أودعتُها في جانحيكِ
وهذهِ كلُّ الجراحْ
ضُمي بقايا الريشِ مِني
فالعواصفُ لا تُبالي
والرّياحْ
ظمأي طويلٌ فاتركي ظمأي قليلاً
في جداولكِ القِراحْ
ضاقتْ بي الآفاقُ
لكن الهوى
في عُشِّكِ المحبوب آفاقٌ فساحْ...".
مع الشاعر الكبير محمد الشرفي -رحمه الله- 
ومع لجنة تحكيم برنامج صدى القوافي، الموسم الرابع، عام 2012م

تعليقات

  1. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  2. رحم الله الشاعر المبدع محمد الشرفي الذي لم ينل حقه من التكريم

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)