ويبقى الوطن



واوطناااه
د.إبراهيم أبو طالب 
ما تزل تلك الصرخة التي هتفت بها يوماً امرأةٌ مسلمة فقالت: وا إسلاماه، وا معتصماه، ترنُّ ملء الأسماع الحساسة، فهبَّ لنجدتها جيش جرار لم يكتفِ بإنقاذها من جهل الجهالة وظلمها، واعتداء عِلج بيزنطي عليها بالضرب والإهانة، بل فتح الله بذلك الجيش المسلم أرض عمورية ومرابعها إنها إرادة المسلمين لنصرة الإسلام، وحينها كان الجيش العباسي يُقاد من قبل الخليفة العباسي المعتصم بالله شخصيًا الذي حكم فيما بين ( 218  - 227 هـ(  وفتحَ المعتصمُ أرض الروم في رمضان من عام 223هـ، وكان السبب الرئيس للفتح هو رد كرامة امرأة مسلمة استغاثتْ، وقد جَسَّدَها الشاعر العباسي أبو تمام بقصيدته الشهيرة والتي فيها يقول:
فتح الفتوح تعالى أن يحيط به
نظمٌ من الشعر أو نثرٌ من الخطب
فتح تفتح أبواب السماء له
وتبرز الأرض في أثوابها القشب
يا يوم وقعة (عمورية) انصرفت
عنك المنى حُفَّلاً معسولة الحلب
أبقيت جد بني الإسلام في صعدٍ
والمشركين ودار الشرك في صبب...
      و تجسدت صرخة أخرى في عمل الأديب الروائي اليمني الكبير علي أحمد با كثير في روايته التاريخية البديعة (وا إسلاماه) والتي كنا ندرسها في الصف الثالث الإعدادي من التعليم الأساسي– ولا أدري ماذا أصاب التعليم حتى حذفها من المناهج؟، كما حذف كل نصٍّ إبداعي كبير يُنمِّي الذائقة والإبداع من خلال نماذجه الرصينة لكبار الأدباء والكتاب العرب عبر العصور، وصار يكتفي بنماذج ضعيفة هزيلة يكتبها أدعياء الأدب من الموجهين وبعض التربويين ليحصلوا على مكافأة مالية مرصودة، ويخربوا ذائقة أجيال وأجيال- على كل حال أقول: إن تلك الصرخة التي أطلقها سيف الدين قُطز وحرر بها بيت المقدس كانت استجابة أخرى لمعنى الاستغاثة بالإسلام وبأهله.
واليوم نطلقها من جديد، ولكن لشأن وطني، حبًّا في بلدنا الجريح المُدمى بما تقوم به فئات لا تعرف معناه، ولا تقدِّر جُرْحَه، ولا تريدُ أن تفيق من جهالة جهلاء، وعماية عمياء لن يكون وقودها سوى مزيد من الدمار والدماء الغالية والأنفس التي كرَّمها اللهُ، وأهانها الإنسان.
أيها اليمني الغيور قفْ مع بلدك الذي لا وجود لكيانك خارجهُ مهما اعتقدتَ، وقد جَرَّبتَ المنافي والمدن والغربة بكل مستوياتها ومتاهاتها، ولم تجد لنفسك موطناً سوى بلدك اليمن، بما فيه من مقومات الخير والطبيعة والجمال الساحر الذي يشهد به الناس أجمعون، والغريب قبل القريب، ولهذا فعليك أن تعتزَّ بذاتك وتنهض بنفسك من هذا الضياع القادم وهذه الأعمال المنافية لكل القيم، فالإرهاب داء وبيل، والخلافات المذهبية شرٌ مستطير سيحرق الحرث والنسل، والدعوة إلى الشتات والفرقة وتمزيق الوطن نار ستلتهم كل مقومات النهوض، العالم يسعى إلى التوحد والتكتل ليقوى؛ ونحن ندعو إلى التشرذم والتشتت لنضعف، وما لهذا خلقنا، ولا عليه جُبِلنا، اليمني بطبعه ودودٌ خَيِّرٌ محب يألف ويؤلف، وليس أدل عليه من اجتماعاتنا اليومية وقت المقيل ولا من لقاءاتنا الاجتماعية في الأفراح والأتراح.
 فلماذا نلبسُ غير زينا ونتحلى بغير صفاتنا وندعو إلى الفرقة والتناحر، السني والشيعي الحوثي والإصلاحي كلهم يعبدون الله ويشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، الشمالي والجنوبي كلهم أبناء اليمن الكبير، فليتعايش الجميع، وليبنوا الوطن كلٌّ بطريقته وأسلوبه دون أن يحاول كلٌّ منهم أن يمحو الآخر أو أن يجبره على فكره، أو على طريقته أو حزبه أو جهته، فالله ما خلقنا لذلك، بل قال للكافرين: "لكم دينكم ولي دين" وأول عمل فعله النبي -صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين- في دار الهجرة هو المؤاخاة، أو نحن أحرص على الناس من خالقهم؟!، أو نحن أرأف بهم من الرؤوف الودود الرحيم؟!، فَلِمَ يَدَّعِي كلٌّ أنه على الحق وحدَه.
 الاختلاف سنة كونية جعلها الله دليلا على قدرته وعلى سعة ما أتاحه لعباده من سبل العيش، والخلاف سنة تدميرية مرفوضة؛ لأنه يقود إلى الشر والتناحر والبؤس.
لا أريد أن أدخل بك أيها القارئ الكريم في متاهات تُذكي جراحَكَ؛ وأنت وأنا وكل يمني غيور أصبح يحسها ويعيشها في كل دقائق يومه وتفاصيل حياته، ولذا سأضعُ في ختام مقالي سؤالاً أو تساؤلا على شكلٍّ شعري لعله يجيش بصدري كما يجيش بصدرك، ولعلنا نقف جميعا صفا واحدا في حب يمننا الغالي وفي سبيل النهوض به كلٌّ بحسب ما خُلق له، وما يُسِّر له، والله يحفظ اليمن وأهله...
وطني أفقْ كي أسْأَلَكْ
مَنْ في الجهالةِ أدخلَكْ؟!
ما لي أراكَ مهرولاً
في الشرِّ من ذا هرولَكْ؟
ما لي أراكَ مبهذلاً
مَنْ بالتعاسة بهذلَك؟
ما لي أراكَ مشرداً
في كلِّ دربٍ قدْ سَلَكْ؟!
والسَّيْرُ يَمْضِي ضَائعاً
والضوءُ حَوْلَكَ كالحَلَكْ
وطني، أَلَسْتَ مُمَجَّداً
تاريخُ عِزِّكَ قدْ مَلَكْ؟
منذُ الطفولةِ قلتَ لي:
بأنَّ عنديَ مَعْقلَك.
كُنا نُردِّدُ فــتيةً
وطنَ الفدا، ما أجملَكْ!
يا وحدتي؛ يا وحدتي
ويا سُهَيْلاً، هلَّ لك!
يا موطناً وصفَ الغفورُ
 جمالَ طِيْبٍ أَصَّلَكْ.
أوليسَ قولُ نبيِّنَا
كالتاجِ قد أعْطَاهُ لَكْ؟
أولستَ مَنْ صنعَ النَّدى؟
والحبُّ عِطْرٌ كلَّلَكْ
أولستَ من نقشَ الجِبَالَ
وحِكْمَةَ القولِ امتلَكْ؟
أوليسَ سدُّكَ شاهداً
      كانَ التحضُّرُ موئلَكْ؟
ماذا جرى؟ حتى نرى
حالَ الشقاوةِ حوَّلَكْ؟
ماذا تريدُ؟ أترتضي
منْ جاهلٍ أن يجْهَلَكْ؟
ماذا يفيدُ؟ أتبتغي
من عَاجِزٍ أنْ يَقْبَلَكْ؟!
وعِصَابَةٌ قَدْ أمْعَنَتْ
في كلِّ وقتٍ مَقْتَلَك
عملاءُ قد باعوا الولاء
وخيَّبوا مَنْ أمَّلَكْ
رَفَعُوا شِعَارَاً زَائِفَاً
تَبَّاً لِمَنْ قَدْ ضلَّلَكْ
كُلُّ الْجِهَاتِ قَنَابِلٌ
وَتَخَلُّفٌ قَدْ أثْقَلَكْ
شيعي وَسُنِّي شعبنا
أوليسَ قَتْلِي مَقْتَلَكْ؟!
ودعاءُ: "باعِدْ بَيْنَنَا"
      ما زال يُهْلِكُ مَنْ هَلَكْ
لِمَ تَسْتَجِيْبُ لِفُرْقَةٍ
مَنْ في التفرُّقِ أَوْغَلَكْ؟!
مَنْ للتناحرِ يَبْتَغِي
مَنْ للتشتُّتِ أعجلَكْ؟
مُزِّقْتَ كُلَّ مُمَزَّقٍ
      قُبْحُ السِّيَاسَةِ بلَّلَكْ
وطني، وجرحكَ في دمي
      دَامٍ يطوفُ به الفَلَكْ
وطني، سمعتَ تَسَاؤلي:
فأجِبْ، فإنِّي أسْألَكْ...


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)