ديوان تواطؤ الورد



(تواطؤ الورد) تواطؤ الشجن مع رحيق الحزن 

د/ إبراهيم أبو طالب

     يمتاز شعر نبيلة محمد الشيخ في ديوانها (تواطؤ الورد)، [ط1، 2013م، د.ناشر] بالكثير من الخصائص ليس أقلها جمال اختيار العبارات وتناسقها الموحي بجديدٍ في انزياح المعنى، والدهشة في تراكيب خاصة تجعل القارئ يحس بأنه أمام موهبة شعرية حقيقية تستحوذ على مشاعره وتحاصره بعزفها الشجي العميق، وبوحها الحزين في ذات اللحظة وكأنها تردد معزوفة متنوعة على طول الديوان المتعدد الأغراض من:  تأمل، وفلسفة في الحياة، وحزن عميق على فقيد عزيز تلوح ذكراه الغائرة في مفاصل النص وتفاصيل بعض صوره التي تتسرب بين حين وآخر حتى في نصوص يفترض بها أن تكون مبتهجة وسعيدة لكنها لا تستطيع السعادة الكاملة لأنها ربما تتذكر في غمرة تلك السعادة حزناً يرافقها وألماً لا تستطيع منه فكاكاً، ومن هنا يغلّفُ النصَّ غشاءٌ رقيق شفاف من الشجن والألم.

 ولكنه الشجن المنتج المقاوم وليس الشجن أو الحزن المستسلم اليائس البائس، ومن هنا يبدو أن من أهم الثيمات التي تميز هذه المجموعة الشعرية هو ثنائية الجرح والبكاء التي تُعدُّ مهمة في تجربة "نبيلة الشيخ" كما توحي بها المجموعة فهما – أي الجرح، والبكاء- في عناق دائم تعبِّر عنه هذه النبضة الشعرية أو الومضة الصغيرة التي تعدُّ ملمحاً مركزاً ومكثفاً جداً في كتابة القصيدة الأحدث في تجربة الألفينيين (جيل العقد الأول وبداية الثاني من القرن الحادي والعشرين) كميزة خاصة بهم وملمحٍ مؤثر، يدخل في نسيج تجربتهم التي تسعى لتشكيل ملامحها الخاصة وشخصيتها المنفردة والمتفردة في متن المسيرة الشعرية اليمنية.
تقول: (ومضة/قصيدة) (عناق):
"بداخلي جرحٌ يبكي
مثل طفلٍ يتيمٍ في العراء
 لو أستطيعُ أن أصل إليه لأعانقه"
   يا لهذا النصّ الموجز كم يقول من معاني وكم بداخله من نصوص وفنون ليس السرد سوى واحد منها، وليس الحنان، والقدر، والطفولة اليتيمة في جدب العراء سوى بعض من تجليها.
   بهذا التكثيف تُعبِّر نبيلة الشيخ عن موضوعاتها، وبهذه اللغة المتمكنة المليئة بالشعر والشاعرية تطرز وردَها في تواطؤ يبدو أنه ليس مع الورد وحده الذي هو المعادل الموضوعي للأنثى والحياة من حولها في معناها الهادئ الجميل، لأن الورد يستطيع أن يتواطأ، وأن يكون سبباً في تغيير مسارات الحياة، ويتدخل في رسم حضورها، وفي كثير من تلك المسارات الوجدانية.
   وتكون عميقة هذه الشاعرة حين تُعبِّرُ عن فلسفة وجودية، وتتأمل مخرجاً من نوع جديد يدخل معها في رسم دور في الحياة (التي تبدو مع كل واحد منا مسرحيته الخاصة في هذا الوجود)، فهذا الْمُخْرِج هو القدر الذي سيبدأ ويضعنا أمام خيار واحد ولكنه في كل مرةٍ يوهمنا بأن الخيار لنا، أنظروا كيف تصوغه لغة الشعر المدهشة التي لا نملك أمامها على صغر نصها وانفتاح تجربتها سوى الإعجاب.
 "أنا والقدر أحياناً
نتشارك إخراج مسرحيتي
يُعد شيئاً واحداً
ثم يقول لي: اختاري"    صـ81
   نصوص (تواطؤ الورد) تحتوي على الكثير من الخبرة، وعلى الكثير من الثقافة والإطلاع على الموروث الأدبي والديني والفكري لذا تتسرب تلك الثقافة بهدوء الهامس المنساب في نسيج النص بشكل جميل وفي ذات الوقت تدخل في إبراز صوت خاص، فمن التناصّ الذي يأتي بمعنى جديد وبطريقة إنسانية وبتجربة شعرية نص (صَلْبٌ) حين يغدو هذا التماهي بين قصة نبيٍّ معروفة، وبين إرادة إنسان، ومعنى لا يمكن أن ينتهي من حياتنا وهو الحب مهما كانت الظروف، ومهما صعبت الأسباب أو تنوعتْ، ولكن هذه الأيقونة الشعرية (الومضة) تُعبِّر عنه بأدق التفاصيل وفي أقصر طرق اللغة حيث لا حشو ولا زيادات لكنها مُتْقَنَة جداً، ومنتجةٌ للدلالة جداً.
"صلبوا الحب كثيراً
وضعوا المسامير في يديه وقدميه
ليقتلوه في قلبي
لكني ازددت به إيماناً
 ورفعته إليَّ
 تماماً كالمسيح"   صـ92
   انظروا إلى دلالة "رفعته إليَّ" ذات سمو وعلو في الرفع وكونية وإرادة عليا هي الإنسان حين يكون في أعلى تجليات الإرادة والفعل، بل ربما في أعلى تجليات التجريدية والتصوِّفية.
   لغة صافية في شعريتها، وبناءٌ متماسكٌ في موضوعه لا يزيد ولا ينقص، لذا تبدو نصوص مجموعة (تواطؤ الورد) الـ98 نصاً كلوحاتٍ منحوتة ببراعة شديدة كل لوحةٍ تقود إلى الأخرى، وأحياناً تتمرد عليها، ولكنه تمرد اللون داخل أنواع الورد الذي يخالف جارَه ليظهرَ جمالَه أو ليكون ضداً ونقيضاً ليبيِّن حُسنه كما تقول ثقافتنا الشعرية: (والضدُّ يظهرُ حسْنَه الضدُّ، أو بضدها تتبينُ الأشياءُ...)، إذن هي ضدية التنوّع، ومن هنا نجد الحزن العميق الغائر -ليس في تجربة الشاعرة فحسب- ولكن في تجربة الإنسانية جميعاً واضحاً في صراعها المزْمِن المتكرر، ففي قصيدة (آدم) - مثلاً – نجد الكون، وكل مشكلات الأنا والآخر، وحضور الـ (هي وهو)، وغيرها من علاقات الحياة التي لم تُفْهم على وجه التحديد في صراع أزلي لا ينتهي إلا ليبدأ، ولا تستطيع سوى هذه الكلمات أن تصفه التوصيف الدقيق.
"آدم الذي أُحِبُّ
الكائن الجميل
وهبتك الحياة
 اللبنَ
 وقلبي
 سحابةُ الروحِ أنتَ
 وفرحُ المطر
ولكنَّ شاربَك الذي فُتِنْتُ به
أهداني قيداً
وابتلعَ صوتي
أعتذرُ منكَ يا آدمُ
إنه خطأي
حين كُنْتُ أُغَنِّـي لك في المهد
نسيتُ أن أؤكدَ لك
أن صوتي ليس عورة"   صـ45
   أرأيتم إن هذه الشاعرةَ حكَّاءَةٌ ماهرة تروي لنا حكاية الكون وأسطورة آدم وهي أسطورتها في ذات الوقت لأنها مَنْ تصنعه، وتغني له، وترتكب الأخطاء في تنشئته وبنائه، رؤية عميقة في فلسفة المجتمع وبناء الحياة وعلاقة الرجل بالمرأة.
   إن هذه النبيلة شاعرة متفلسفة لا تقل عن صاحب الْمَعَرَّةِ –أبو العلاء- في تأملها للكون، ولكن من زاويتها الخاصة، ثم تعبر عن ذلك في حال النـزق أو في حال الهدوء بلغةٍ شعرية لا تخطئ الهدف:
  "تباً للغرام يموت مصلوباً
 على غَزَلٍ جميل..."  صـ44 أليس هذا منتهى الجمال؟!
   (تواطؤ الورد) تحتوي على ست قصائد عمودية مُتَمكِّنة وزناً عروضياً وقافيةً تدلُّ على تَمكُّن الشاعرة من فهم تراثها واستيعابه، ومن بنائها المعرفي لا كما قد يتصور البعض بأن الوزنَ عقبةٌ أمامَهم، فيهربون منه تماماً، بمبرر الحداثة، بينما يمكن التجديد من خلال الوزن وهكذا فعلت الشاعرة، فهي سليلة قرون من الشعر الموزون المقفى لم تتنصل عنه، ولم تخلعه لأنها ببساطة تجيدُ فهمَهُ وقراءته والغوص في أعماق جمالياته وتجريبه أيضاً، ولكن بلغتها وبعصرها وبتجربة صوتها الخاص، ومن هنا يأتي التميز والنضج وروح التجديد الذي يولد مع كل تجربة وليدة ومع كل شاعرية موهوبة جديدة.
يأتي من الشعر العمودي قصائد: (يراعي، وإلى السماء، وحياكةُ فجرٍ، وزوبعة، وسلوا قلبي، وفلنتينو) لتؤكد تمكن شاعرتنا من تراثها -كما قلنا- وهي تختار مضامين ذات صدى عميق تحتاج هذا القالب الرصين لتأمل الكتابة وفلسفة الخلود في الأولى (قصيدة يراعي)، والرثاء في الثانية، والثورةُ –التونسية- وصوتها في الثالثة، ويستأثر الحبُّ العفيفُ وتأملُ عمقِه بالثلاث القصائد المطولة - نسبياً – الأخرى، ولذا يظهر صفاء هذا الشعر في عمق ما يكسبه الوزن من جلال، وفي تجديده في ذات اللحظة بما لا يشبه غيره من تجارب الآخرين:

مَرَّ الْحَمَامُ عليكِ يَا أَحْزَانِي
فَصَحا بِها الأمواتُ من خِلاني
فوحقِّها هذى الحمام وحقِّ مَنْ
بَسَطَ الزمانَ دقائقاً وثواني
ما زاغَ قلبي عن صراط محبتي
فسقطتُ عنه إلى لظى النكرانِ
أو نلتُ من قدسيةِ الحبِّ الذي
في خاطري يرقى به إنساني
ثم تعود إلى النـزعة الإنسانية، وتكرِّرُ قصةَ آدم مع كل حواء، أو قصة الآدميين المراوغين ذوي الوجوه مع حوَّاءاتهم:
أنا ليس لي ذنب إذا هم أدمنوا
كل الحسانِ العابرات مكاني

وهل الملامةُ لي إذا هم أطلقوا
في كل يوم للهوى قمرانِ

وتفيقهوا، وتشيطنوا، أو تفلتنوا
وبألفِ وجهٍ ضللوا أحزاني
وهكذا ما بين "فلنتينو" و "دون جوان" تستمر حكايةٌ وحكاية بين تزيينٍ ليس حقيقياً  ونرجسية مرضية تُعاني منها أرواحٌ شفافةٌ ونفوسٌ نقية تتوق إلى الخلاص وتبتغي الحقيقة، والجمال، والصدق، إن نصوصَ (تواطؤ الورد) لنبيلة الشيخ على قدرٍ كبير من العمق ومن التجربة الإنسانية النقية ذات الصوت الصافي، الهادئ العميق، واللغة المدهشة المتميزة منذ البداية بروحٍ عالية، وهَمٍّ إنساني عميق لا يعرض تجربة الذات بعيداً عن سياقها الإنساني والوجودي، ولا يغرق في الخصوصية بقدرِ ما ينطلق في أفق الروح السامية والتجربة الإنسانية العميقة.
  
    
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=468918366536113&set=a.396125973815353.93768.100002538612338&type=1&theater

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)