(أبها) مدينةُ الغيم والجمال



 (أبها حاضرة عسير)
د.إبراهيم بن محمد أبو طالب
18 من جمادى الآخرة 1435هـ
الموافق 18 / 4/ 2014م

إن كتابة تاريخ المكان وتوصيفه والحديث عنه بنيةً وإنسانا مما استهوى كبار المؤرخين العرب، ومما وقف لديه عددٌ منهم عبر التاريخ القديم والحديث، وذلك لما للمكان في حياة الإنسان من أهمية ترتبط بكيانه وتلتصق بفكره ووجدانه، فهو الحاضن والمحيط لذاته ولروحه قبل جسده، فيه يتشكل وبه يشكّل رؤاه وخياله واحتياجه، وليس المكان شيئاً جامداً في حياة الإنسان، بل هو أصل الحركة ومدار التحرّك إنه الكينونة في حقيقتها، ومنه اشتق اسمه، (المكان)، ارتباطه الملاصق بالإنسان كوّن أهميته القصوى والضرورية والملحة بالنسبة له ولحياته وحركته، إنه فضاؤه وميدانه، ووجوده وعنوانه، لذلك لا نستغرب كثرة ما ألَّف الإنسانُ عن المكان، وما تحدث عنه سواءً في شعره أو نثره، من سرد ومذكرات وسيرة حياة، ومن هنا نظّر المنظرون لقضايا المكان وآفاقه وعدوه عنصرا حيويا من عناصر السرد – كما هو في الشعر- على قدر من الأهمية بين انفتاحه وانغلاقه، وانعكاساته على نفس الإنسان وحيويته ففيه يحيا وإليه ينتهي، كما كان نافذةً جوهرية – وما يزال- يطلُّ منها الدارس على بيئة الأديب أو الشاعر ليكمل صورة أدبه ويستوضح ملامحه ويصف تأثيره في أدبه وشعره، فالحضري له بسبب مدينته ومدنيته طباعه الظاهرة في اختيار ألفاظه ومعانيه، والبدوي بسبب صحرائه تكون له طباعه اللغوية الخاصة التي فرضتها عليه جغرافية المكان على جغرافية نفسه وكلماته.

ولهذا ولغيره التفتَ مؤرخونا الكبار منذُ فجر التأليف التاريخي الممنهج إلى المكان وخصوصيته وملامحه، وحياته، فأفردوا للحواضر والمدن كتبًا بيّنوا تاريخها ورصدوا جغرافيتها واقتصادها وثقافتها وأفراحها وأتراحها وملامحها الثابتة والمتغيرة أو إن شئت فقل ملامح الإنسان عبر صورتها وانعكاسها في صورته، في جدلية لا تنتهي، هنا يحضرنا عدد من أمهات الكتب الكبيرة مثل: تاريخ الرازي عن صنعاء، وتاريخ ابن عساكر عن دمشق، وتاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام لابن الضياء، وفضائل القدس لابن الجوزي، وأحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم للمقدسي، وحسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة للسيوطي، والبيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب لابن عذاري، والذخيرة في محاسن أهل الجزيرة لابن بسام الشنتريني، ومعجم البلدان لياقوت الحموي وغيرها الكثير من كتب التاريخ ومعاجمه التي تزخر بها المدونة العربية ومكتباتها العامرة.

       ويأتي آخر ما وقفتُ عليه من تواريخ المدن هو دراسة وثائقية عن مدينة "أبها حاضرة عسير" للمؤرخ الأستاذ الدكتور غيثان بن علي بن جريس الجبيري الشهري (ولد عام 1379هـ- 1959م) مؤرخ تهامة والسراة كما لقبه الدارسون –(ينظر: محمد بن أحمد مُعَبِّر: مؤرخ تهامة والسراة غيثان بن علي بن جريس،الرياض، مطابع الحميضي، ط1، 2012م)- وهو أستاذ التاريخ بجامعة الملك خالد، وقد تقلد عددا من المناصب الأكاديمية والعلمية والوظيفية، وقد أهداني مشكورا عددا من كتبه بلغت عشرة مجلدات ضخمة من مجموع كتبه التي يفيد -بحسب رسالته- بأنها قد تجاوزت الخمسة والثلاثين مؤلفاً، وهو ولا شك قدر كبير من التأليف، وجهد مشكور من الاهتمام والاستمرار والمثابرة.

ومما يثير الانتباه ويشكّل ظاهرةً قد تبدو ملحة في الحديث عن المؤلِّفِ (بتشديد اللام وكسرها) قبل الحديث عن المؤلَّفِ، وأخص به هنا كتاب "أبها حاضرة عسير" هو تلك الهمّة التي تميز الدكتور غيثان، فهو لا يفتر عن الكتابة والتأليف والرصد والمتابعة والجمع، - وبعد ذلك وأهم منه- النشر والطباعة ورعاية هذه المؤلفات ومتابعة طباعتها في أكثر من طبعة، وإدارة مشروعه الخاص في التاريخ إنه دؤوب يعرف ماذا يريد؟ وكيف يدير جهده ويستثمر كتاباته؟، -وكتابات الآخرين-، التي تتصف - فيما يبدو- بالشمولية والتلقائية في التدوين وفي جمع النصوص والوثائق الخاصة والعامة، وتضمينها في كُتبه، وهو يسعى إلى أن تُطبع تلك المؤلفات أكثر من طبعة، وقد يلاحظ القارئ أريحية المؤلف ومقصديته في أن يضمِّن في طبعاته اللاحقة ملاحظات القراء وانطباعاتهم وتصويباتهم وحتى انتقاداتهم – سواء أكانوا من أهل الاختصاص أم من غيرهم- فيرصدها كما جاءت عن كتّابها، ولعلّه يسعى في كل مرة إليها، ويلحُّ على ما يتركه مؤلَّفُهُ /كتابه في القراء من تلك الانطباعات، فيكمل بها ما يعتري كتبه من نقص أو ما يميزها من قوّة، هذا الملمح واضحٌ في مؤلفاته التي اطلعتُ على طرفٍ منها، ولعلّها تحتاج من أهل الاختصاص في التاريخ إلى الدراسة والتقييم عن طبيعة منهجيتها، وما فيها من ملامح وأساليب هم أقدرُ على بيانها وتوصيفها، ولعلَّ اللافتَ في كتابات الدكتور غيثان -أيضاً- هو طبيعة اللغة البسيطة والمباشرة السهلة، بما قد يقترب من لغة الحياة اليومية المفصَّحة، وما تمتلكه من قدرة على تحويل السمعي والمرئي إلى المكتوب كأنها عدسة لاقطة، وهو ما عبَّر عنه – ربما عن قصد- في سلسلة من كتبه الوثائقية بالقول المكتوب عن تاريخ الجنوب لم يكن السجع مقصده بقدر ما كان الانتقالُ من الشفاهي إلى الكتابي غايةً من غاياته، ذلك القول المكتوب يتنوع فيه المحتوى من جغرافيا وتاريخ، وقليلٍ من أدب وثقافة، وكثيرٍ من وثائق وشهادات للمعاصرين وكتاباتهم عن تجاربهم الشخصية والوظيفية كلٌّ في مجال اختصاصه العلمي والوظيفي.

إن كتابتَه في تدفقها وكثرتها أشبهُ ما تكون بسيل كبير في طياته ألوانٌ من الحياة والأحياء له جغرافيته التي تفرضها تضاريسه الخاصة في سيره عبر المكان والزمان بين جبال السروات ووهادها وانحداراتها حتى تصل إلى تهامة وتغطي وديانها وجبالها وإنسانها، فتنفعه بتلقائيتها وترصد ملامح حياته عبر الزمان الممتد والمكان المتسع، إن تلك الكتابة ذات خصوصية تحتاج كما أسلفتُ إلى تتبعها من خلال دارسٍ حصيف يرسم منهجها ويبين منطلقها ومستقرها.

هذا عن المؤلِّف أما عن كتابه "أبها حاضرة عسير" دراسة وثائقية، (صدرت طبعته الأولى عام 1417هـ -1997م، الرياض، مطابع الفرزدق التجارية) فقد جاء في (584) صفحة من القطع الكبير، مقسما في سبعة فصول وملاحق، عالج الفصلُ الأول منها الأصول الجغرافية والسياسية التي حددت شخصية أبها، والفصل الثاني رصد التعليم والثقافة في أبها من خلال البدايات الأولى حتى منتصف القرن الماضي، ثم بيّنَ تطور التعليم الحديث للبنين والبنات والتعليم الجامعي، ورصد فيه الكليات والمعاهد والتعليم الأهلي والحكومي والمؤسسات التعليمية والفكرية كالمكتبات، والنوادي، وجمعية الثقافة والفنون، والملتقى الثقافي، وجائزة أبها، ولم يغفلْ عن رصد رموز الثقافة والتعليم من قضاة وشعراء وأدباء وحملة الدكتوراه والزمالة في الطب، ثم جاء الفصل الثالث ليرصد الحياة الاقتصادية من زراعة وتربية مواشي وتجارة وصناعة حرفية قديمة وحديثة، وقوى بشرية وأيدي عاملة وطنية وأجنبية، وأوقف الفصل الرابع للحياة الاجتماعية والدينية بعاداتها وتقاليدها ودور الدولة في تطوير النشاط الاجتماعي لمدينة أبها من خلال الأندية والجمعيات والهيئات ومراكز الدعوة والإرشاد في منطقة عسير وغيرها من الوسائل الأخرى.

في حين كان الفصل الخامس خاصاً بالعمران في مدينة أبها وتطوره والمقارنة بين المساكن القديمة والحديثة، وبناء المساجد وحفر الآبار وبناء السدود والمنشآت العسكرية.

ثم رصد الفصل السادس جهد الدولة في خدمة المواطنين من خدمات عامة صحية وتعليمية ومواصلات وكهرباء وغيرها عبرَ المؤسسات الإدارية الحكومية المختلفة التي تقوم على خدمة المواطنين.

ولم ينسَ المؤرخ أن يستشرفَ المستقبل - مستقبل أبها- فأفرد لذلك الفصل السابع والأخير الذي تحدث فيه عن مستقبلها السياحي من خلال الأماكن السياحية والأثرية والمتاحف، موضحا إيجابياتها  وإمكاناتها الخاصة من حيث المناخ والطبيعة الساحرة، ووضعَ التوصيات حول السياحة الداخلية والتنمية السياحية في أبها.

إنها رحلة طويلةٌ عبر المكان والزمان موضوعها أبها وغايتها تلك المدينة الجميلة الساحرة التي تركتْ من المحبين في عشقها صفوفاً طويلة، وهي تمضي في طريق انتعاشها وسيرها الواثق كمليكة فاتنة، لم يكن ابن جريس سوى واحد ممن أدهشتهم وأخذت بمجامع قلوبهم المتفرقة في عشقها، فمضى يرصد غوايته فيها بقلم مختلف، وإذا كان الشعراء قد أطلقوا لخيالهم ووجدانهم ولغتهم العنان لتناجي أبها وتغازلها في آفاق جمالياتها وبهائها وتفرّدها، فإن ابن جريس قد أطلق لقلمه الموثِّق الراصد العنان ليرسم صورة تسجيلية توثيقية لأبها عبر مسيرتها من خلال أبنائها وكتاباتهم عنها كشهادات توثيقية كلٌّ في مجاله ومن زاوية رؤيته.






نشر على موقع النماص اليوم:







تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)