د.طه وادي والرحيل في هدوء


الأستاذ الدكتور طه وادي والرحيل في هدوء
د. إبراهيم أبو طالب

   قليلون هم الذين يحافظون على التوازن الإبداعي والنقدي في مسيرة عطائهم، ويحافظون أو يوفقون في ثبات بين حضورهم الأدبي كمبدعين لفن من الفنون – شعرًا أو روايةً أو قصةً وغيرها- وبين رؤاهم التنظيرية ومقارباتهم النقدية، ومن هؤلاء الراحل العظيم الأستاذ الدكتور طه وادي الذي رحل عن دنيانا في هدوء بعد عمر حافل بالإبداع والنقد والتدريس في قسم اللغة العربية بآداب القاهرة، وكما كان في حياته يحاور طلابه، ويعلمهم، ويشرف عليهم بتوجيهاته في هدوء العالم العارف، وحنوّ الأب الحنون، رحل عنّا كطيف حلمٍ ولّى وانقضى، كنت كلما أراه في قسم اللغة العربية ومن حوله طلابه وطالباته في الدراسات العليا (ماجستير ودكتوراه) يبادرني بالسؤال " كيف حالك، وكيف القصة والرواية اليمنية؟
" فأجيبه مطمئنًا بأن حالي بخير، وحال القصة في سير حسن، أذكر أنني حين وصلتُ إلى قسم اللغة العربية ذلك الصرح العملاق، وبعد مقابلتي الأولى لأستاذي الدكتور عبد المنعم تليمة والاتفاق معه على تسجيل أطروحة الماجستير عن "الموروثات الشعبية القصصية في الرواية اليمنية" وذلك عام 2001م، كان الدكتور طه وادي يسألني عن أحوال بعض طلابه الذين صاروا أساتذة مرموقين للأدب والنقد في جامعة صنعاء وغيرها من الجامعات اليمنية، ثم غمرني بودٍّ أحسسته من أول لقاء بعد أن قام بواجب الضيافة العربية أعطاني ضيافة فكرية فأهداني روايته "الأفق البعيد"، ونصحني بقراءة عدد من المؤلفات حين عرف عزمي على دراسة الرواية، ومنها مؤلفاته القيمة (مدخل إلى تاريخ الرواية المصرية، ودراسات في نقد الرواية، والرواية السياسية، وصورة المرأة في الرواية المعاصرة)
 فعدت إليها فوجدتها تحمل رؤى نقدية عميقة لا غنى لأي باحثٍ عن الإفادة منها، توطدت أواصر الحب والمعرفة بالأستاذ القدير طه وادي، والتقيته مرارًا في مجلس الدكتور عبد المنعم تليمة وصالونه الثقافي العريق كل خميس، ومن الدكتور طه استمعنا إلى آراء نقدية عميقة، واستمتعنا منه بقصصه القصيرة الحديثة، التي خرجت في توها من معمله الإبداعي طرية ندية يرويها بصوته الوقور الهادئ المحمل بفرحة الميلاد، وتلك فرحة المبدع بكل جديد يتشكل في وجدانه فيخرجه صائغًا لذة للقراء والسامعين، وهو يحتفي به بفرح يشرق في وجدانه ويتجدد حبًا وإبداعًا.
   كتب الدكتور طه وادي أربعة عشر عملاً إبداعيًا – قصصًا ورواية – وأكثر من أربعة عشر كتابًا – دراسةً ونقدًا – وهذا ما يحقق التوازن الإبداعي والنقدي الذي بدأت به حديثي، وقد كان الراحل الكبير مشغولاً بالتجديد في مسار الرواية والقصة العربية المعاصرة، وموظفًا رؤاه النقدية ونظرته الأكاديمية في التطبيق الإبداعي، فجاءت رواياته الخمس (الأفق البعيد، والممكن والمستحيل، والكهف السحري، وعصر الليمون، وأشجان مدريد) أعمالاً إبداعية متجاوزة يحمل كل عمل منها رؤية تجريبية مغايرة، وقد ترجمت " أشجان مدريد " إلى الإسبانية ترجمها الدكتور باسم داود بكلية الألسن جامعة المنيا، وتعد هذه الرواية نصًا سرديًا يمثل تيار ما بعد الحداثة في الرواية المعاصرة، وفي ظني أن الدكتور طه وادي قد بذل جهدًا واسعًا في أعماله الإبداعية لكي يمثل تيارات الإبداع المختلفة ويجربها من الرومانسية حتى ما بعد الحداثة، كما أن أعماله القصصية:
 (عمار يا مصر، الدموع لا تمسح الأحزان،

 حكاية الليل والطريق، دائرة اللهب، العشق والعطش، صرخة في غرفة زرقاء، رسالة إلى معالي الوزير، الوردة.. والبندقية) هذه المجموعات القصصية جميعها – ومثلها الروايات – تحمل عالمًا فنيًا متميزًا حقيق بالدراسة والتحليل، لتنوع الرؤى التي تطرحها قصصه ورواياته بتنوع العوالم التي تقاربها ما بين مصر والغربة، والقرية والمدينة، والعالم الهادئ والآخر المَوّار بالحركة والصراع، كما أنها تحتوي على حياة حافلة بالإنسان وهمومه، وبالمكان وأشجانه وتضاريسه، برؤية للعالم مغايرة ومتجاوزة للمألوف الرتيب، كما أنها في مجملها تعكس صورة مصر بأبنائها وطبقاتهم الاجتماعية المختلفة في رسم عميق لدقائق الشخصية بهمومها وطموحها، ولا تخلو كل مجموعة من عدد من القصص التجريبية التي يتجاوز بها القاص طه وادي نفسه في كل عمل إبداعي جديد، لأن الفن برأيه "يعكس نبض الحياة، وحركة الأحياء بما فيهما من صراعات وتناقضات من أجل تثبيت الحق ومناصرة الحقيقة"، وفي أدب طه وادي رسالة تنويرية ورؤية عربية توافقية تمثل فيها الكلمة أهم عوامل التوحد العربي، وقد صرح بذلك في أكثر من موطن في كتاباته وحواراته ؛ حيث يقول " إن العمل الإبداعي المتميز والصادق هو وحده القادر على احتضان واحتواء أشواك العرب وأشواقهم من مختلف الأقطار العربية بين دفتيه، إن الإبداع يمكن أن يفعل ما لم تفعله السياسة بشأن تقريب وجهات النظر العربية، وإذابة الفواصل بين الشعوب.
   تراث الدكتور طه وادي العلمي والنقدي واسع ومتنوع كتنوع إبداعه القصصي والروائي ؛ حيث إنه في مسيرته الحافلة قد درس الشعر – بجانب السرد – فكتب عن شعر شوقي الغنائي والمسرحي،

 وشعر ناجي (الموقف والأداة)، وجمع شعر رفاعة الطهطاوي ودرسه، وكتب دراسة عن الشعر والشعراء المجهولين في القرن التاسع عشر" كما أن كتابه عن جماليات القصيدة المعاصرة من أهم الكتب النقدية التي تناولت القصيدة بمنظور التشكيل الجمالي للنص،

 وهو يؤكد بذلك شمول الرؤية الأدبية في دراساته لفن الشعر، بالإضافة إلى دراسته للقصة القصيرة في كتابه (القصة ديوان العرب؛ دراسة ونماذج) 

والتي يذهب فيها إلى تأكيد أن القصة اليوم هي ديوان العرب المعاصر بعد أن استأثر الشعر بهذه التسمية والمكانة ردحًا من الزمن، وقد جمع من النصوص نماذج تمثل القصة في الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، وخص اليمن منها بأربعة نماذج للقاصين: رمزية الإرياني، وعبد الناصر مجلي، ومحمد حيدرة، ومحمد مثنى، بالإضافة إلى حديث عام عن المشهد القصصي في اليمن، ويتميز الدكتور طه وادي بأنه واسع الاطلاع والمتابعة للنتاج القصصي العربي، كما أنه يستثمر بقاءه وعيشه في بلد ما بأن يتابع المشهد الثقافي ويحلله ويعالج نصوصه بدراية وخبرة، كما بدا ذلك جليًا في كتابه (القصة السعودية المعاصرة)، ثم إن الدكتور وادي رحمه الله قد استفاد في تكوين اتجاهه النقدي من أساتذته طه حسين، وشكري عياد، وشوقي ضيف، ومحمد غنيمي هلال، ومحمد حسين هيكل، ومحمد مندور، ولطيفة الزيات، وغيرهم، ولكنه كطالب متميز وباحثٍ نابهٍ لم يكتف بالتأثر والوعي المعرفي فحسب، بل ترجم ذلك إلى دراسات ومقالات، فكتب عن بعض أساتذته كتابات رصينة، وكان في مشروعه استكمال الحديث عن تلك المدارس الأدبية النقدية العملاقة، فكتب عن (هيكل رائد الرواية : السيرة والتراث)،

 وعن (شوقي ضيف : سيرة وتحية)،

 وهو ممن كتب عن أولئك الأعلام في وقت مبكر، وتحدث عن سيرهم الذاتية تعبيرًا عن الوفاء والامتنان لتلك القامات الكبيرة التي أثرت – ليس فقط فيه كباحث وفي مجايليه من أعلام الجامعات والحياة الثقافية فحسب – بل أثرت في مسيرة الإبداع العربي المعاصر وتركت بصمتها الخاصة في الحاضر الثقافي.
    الدكتور طه وادي قامة نقدية كبيرة ومبدع متميز من حقه علينا – طلابًا باحثين ومحبين- أن نوفيه قدره من الدرس والتأمل، وأن نتناول آثاره الإبداعية بالتحليل لأنه ما مات من ترك هذا العطاء، ومن كان يحب طه وادي وإبداعه فهو حي لم يمت، ولن أجد في ختام هذا المقام السريع من كلمات وداع لهذا الراحل العظيم سوى أن أردد كلماته التي قالها هو في أربعينية نجيب محفوظ في كتابه المهم "نجيب محفوظ أمير الرواية العربية" حيث يقول: "كم ذا بمصر من العظماء سوف تظل راياتهم مرفرفة، وأضواؤهم مشرقة، وآثارهم مثل الشهب متلألئة فالعباقرة لا يموتون، والعظماء لا يغيبون، إن الجسوم الضعيفة قد تبلى، والأعضاء المنهكة قد تفنى، لكن تظل الأرواح الطاهرة خالدة منذ ما قبل الأزل... وبعد كل أجل".
القاهرة- أغسطس 2008م 

*نشر في مجلة أدب ونقد المصرية.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن الحيمة الخارجية؟!

أعمال ومؤلفات الدكتور إبراهيم أبو طالب ودواوينه الشعرية [مرتبة زمنيا بحسب صدورها ( 1999- 2023م)]

24- الأستاذ الدكتور إبراهيم الصلوي (أستاذ اللغة اليمنية القديمة)